نشرة كنيستي- الأحد (19) بعد العنصرة- العدد 44
03 تشرين الثّاني 2024
كلمة الرّاعي
قوّة الله
“تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لِأَنَّ قُوَّتِي فِي الضُّعْفِ تُكْمَلُ” (2 كو 12: 9)
نُعَيِّدُ في هذا الأسبوعِ القادمِ لِعيدَيْنِ مُهِمَّيْنِ، عيدِ رؤساءِ الملائكةِ ميخائيلَ وجبرائيلَ وروفائيلَ وسائرِ القوَّاتِ السَّماويَّةِ العادمةِ الأجسادِ، ولتذكارِ القدِّيسِ نكتاريوسَ العَجائبيِّ أسقفِ المدنِ الخمسِ. رؤساءُ الملائكةِ حياتُهم ملؤها القوَّةُ والمجد الإلهيَّينِ، أمَّا القدِّيسُ نكتاريوسَ ففي حياتِهِ الَّتي عاشَها في العالمِ فقدِ اختبرَ الضَّعفَ والضِّيقَ والذُّلَ والمهانةَ والظُّلْمَ فتجلَّتْ فيهِ قوَّةُ اللهِ ومجدُهُ بإيمانِهِ وصبرِهِ حتّى المـُنتهى في المحبَّةِ والمسامحةِ والتَّضحيةِ والبَذلِ، وبتخطِّيهِ ترابيَّتَهُ وسقوطَ الطَّبيعةِ البشريَّةِ بالإيمانِ صارَ مُشابهًا الملائكةَ بقوَّةِ اللهِ ومجدِهِ اللّذَينِ تجلّيا في حياتِهِ عجائبَ وأعمالَ رحمةٍ وتعزيةٍ للمتألِّمينَ والمهمَّشينَ والمظلومينَ.
* * *
نَعيشُ، اليومَ، في عالَمٍ مأخوذٍ بمَنطِقِ القُوَّةِ الَّتي تُقاسُ بالمالِ والسُّلطةِ والسِّلاحِ والاقتصادِ والقَمْعِ والقَتْلِ والظُّلْمِ والرَّفاهِ والتَّنَعُّمِ والشَّهَواتِ المـُختلِفةِ… وكأنَّ الحياةَ هي فقط في هذه الأمورِ ومَن يملِكُها فهو القويُّ ومَن لا يملِكُها فهو الضَّعيفُ. هذا مَنطِقُ التُّرابِيِّينَ المـُلتَصِقينَ بما في العالَمِ المادِّيِّ من دونِ أنْ يكونَ لهم أيُّ فَهمٍ للحياةِ خارجَ هذا الإطارِ، وللأسفِ هذا هو واقعُ مُعظمِ أهلِ الدُّنيا.
حياةُ القِدِّيسِ نِكتاريوسَ العَجائبيِّ، وهو قِدِّيسٌ من القَرْنِ العِشرينَ، دَرْسٌ لكلِّ إنسانٍ في الإيمانِ المسيحيِّ الحقيقيِّ، لأنَّهُ لم يُنكِرِ اللهَ في حياتِهِ المـَليئةِ بالشَّدائدِ حتَّى آخِرِ أيَّامِهِ، بل بَقِيَ ثابتًا في إيمانِهِ ورجائِهِ باللهِ كأرزةٍ شامِخةٍ، وقد مَجَّدَهُ اللهُ على هذا بعجائِبَ كثيرةٍ في حياتِهِ وبعدَ مَماتِهِ، وهو ما زالَ إلى اليومِ شفيعًا حارًّا للمُتألِّمينَ.
ليسَ لنا في هذه العَجالةِ أنْ نُخبِرَ سيرةَ حياةِ القِدِّيسِ نِكتاريوسَ، لكنْ مِثالُهُ يُشَدِّدُنا ويُقَوِّينا ويَمنحُنا رَجاءً في أزمنةِ الضِّيقِ لأنَّهُ عانى الأَمَرَّيْنِ في حياتِهِ وغَلَبَ، وبذا تَحقَّقَ فيهِ قولُ الرَّبِّ: “مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضًا وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ” (رؤ ٣: ٢١).
* * *
أيُّها الأحبّاءُ، كلُّنا مَدعوّونَ إلى القداسةِ، والقداسةُ لها ثَمنٌ، لأنّ ما لا يُقَدَّرُ بثَمنٍ لا يمكنُ الحصولُ عليهِ من دونِ استشهادٍ وصَبرٍ. اللهُ يُشدّدُنا بملائكتِهِ القِدّيسينَ وبقدّيسيهِ المـُماثِلي الملائكةِ. علينا فقط أن نَثبتَ في الإيمانِ صابرينَ على الشَّدائدِ والتَّجاربِ حتَّى تَتجلَّى قوَّةُ اللهِ فينا ومن خلالِ ضعفِنا كبشرٍ مائتينَ. القدِّيسُ نكتاريوسَ العجائبيِّ أقام عجيبَتَهُ الأولى في لحظةِ رُقادِهِ، ففيما كانَ القدِّيسُ يَلفِظُ أنفاسَهُ الأخيرةَ، أَلبستْهُ الرَّاهباتُ ثيابًا جديدةً. وعندما أَلْبَسُوهُ القَميصَ، وَضَعُوا قَميصَهُ القَدِيمَ على السَّريرِ المـُجاوِرِ، الَّذي صَدَفَ أنْ كان عليهِ شخصٌ أعرجُ، فإذا به يَصُحُّ ويَقوم ماشيًا مُمَجِّدًا اللهَ. أمَّا الغرفةُ فقد امتلأَت برائحةٍ زكيّةٍ فاضَت من جَسدِ القدِّيسِ.
قوّةُ اللهِ تَتجلّى فينا حين نُدرِكُ لاشَيْئِيَّتنا، وحين نَعرفُ ضعفَنا وحاجتَنا إلى اللهِ وأنّنا بِدُونهِ لا نَقدِرُ أنْ نعملَ شيئًا (راجعْ يو 15: 5). هكذا، الغَنِيّ في مَثَلِ لَعازرَ والغَنِيّ الَّذي هو قَوِيٌّ، بمفهومِ العالمِ، ظهرَ كُلّيَّ الضُّعفِ بعدَ مَماتِه، ولَعازرَ الفقيرُ الَّذي كان مَرْمِيًّا على الطَّريقِ مُقَرَّحًا يَشتَهي فُتاتَ مائدةِ الغنيّ، استبانَ غالبًا في أحضانِ إبراهيمَ بعد أنْ ماتَ وأَصعدتهُ الملائكةُ إلى الفردوسِ.
لنتعلَّمْ، يا أحِبَّةُ، من الملائكةِ طاعَةَ اللهِ المـُطلَقةَ، ولنُشابِهْ القدِّيسينَ في صَبْرِهم على الشَّدائدِ بإيمانٍ ثابتٍ، ولْنَطلُبْ قوّةَ اللهِ في حياتِنا بالصَّلاةِ والصَّومِ والإحسانِ والتَّطهُّرِ بالتَّوبةِ والتَّواضعِ، لِكَيْما يَهَبَنا اللهُ قوَّتَهُ الَّتي في ضُعفِنا تُكمَل ويجعلَنا مع قدِّيسيهِ في مجدِهِ السَّرمديِّ يومَ يُختمُ كتابُ حياتِنا في هذهِ الدُّنيا ويُفتَحُ كتابُ الأبديّةِ أمامَنا في المجدِ والفَرَحِ الأبدِيَّينِ… ومن له أُذنانِ للسَّمعِ فلْيَسْمَعْ…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما