نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي
كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.
الأحد بعد عيد الظُّهور الإلهيّ
العدد 2
الأحد 12 كانون الثّاني 2025
اللّحن 4- الإيوثينا 7
أعياد الأسبوع: *12: الشّمّاسة الشَّهيدة تاتيانا، الشَّهيدة آفستاسيَّا، البارّ فيلوثيوس الأنطاكيّ الشَّهيد *13: الشَّهيدَيْن أرميلس واستراتونيكس، البارّ مكسيموس (كَفُسُوكاليفيا) *14: وداع عيد الظُّهور الإلهيّ، تذكار الآباء المقتولين في سيناء وريثو *15: البارَّيْن بولس الثّيبيّ ويوحنَّا الكوخيّ *16: تذكار السُّجود لسلسلة بطرس المكرَّمَة، الشَّهيد دمسكينوس *17: القدِّيس أنطونيوس الكبير معلّم البريّة، الشَّهيد جاورجيوس الجديد (إيوانينا) *18: القدِّيسيْن أثناسيوس وكيرلُّس رئيسَيْ أساقفة الإسكندريّة.
كلمة الرّاعي
القدِّيس أنطونيوس الكبير مُعلِّم البرّيّة
" التَّواضع هو الأساس لكلِّ الفَضائل" (من أقوال القدِّيس أنطونيوس الكبير)
القدِّيس أنطونيوس الكبير (251-356 م) هو من أهمّ القدِّيسين في الكنيسة قاطبة. وُلد في مصر لعائلة غنيَّة، لكنَّه ترك كلَّ ثروته عندما كان شابًّا ليتبع حياة الزُّهد وذلك إثر سماعه كلمات الإنجيل في القدَّاس الإلهيّ حيث يقول الرَّبُّ للشَّاب الغنيّ: "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلًا فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي" (مت 19: 21). عاش في الصَّحراء الشَّرقيَّة لمِصرَ حيث مارس حياة النُّسك والصَّلاة والتَّأمُّل. جمع حوله العديد من التَّلاميذ الَّذين تأثَّروا بتعاليمه، ممَّا أدَّى إلى انتشار الرَّهبنة. واجَهَ إغراءاتِ الشَّياطين وهجماتهم بشجاعةٍ وقوَّة إيمان، وهو ما جعله مثالًا للصُّمود والثَّبات في الجهاد الرُّوحيّ. حياته وتعاليمه تركتْ أثرًا كبيرًا على الكنيسة والعالم المسيحيّ.
يُعتبر القدِّيس أنطونيوس الكبير أب الرُّهبانيَّة ومؤسِّس حركة الرَّهبنة في العالم المسيحيّ. تأثيره على نشأة وتطوُّر الحياة الرُّهبانيَّة كبيرٌ جدًّا، حيث أسَّس أوَّل مجتمع رهبانيّ في الصَّحراء الشَّرقيَّة لمِصْرَ، وجذب العديد من التَّلاميذ والمتوحِّدين إلى حياة النُّسك والتَّواضع حيث تزايدتْ أعدادُ الرُّهبان في أيّامه لتَصير الصَّحراء مملوءةً بالرُّهبان. ذاعَ صيتَهُ في أنحاء الأرض كلِّها. تعاليمه وأعماله كانتا أساسًا لإنشاء العديد من الأديرة والرُّهبانيَّات في جميع أنحاء العالم، وعلى مَرِّ القُرون وحتّى أيّامِنا هذه، في الشَّرق والغرب. مِنْ أهمّ تلاميذه القدِّيس اثناسيوس الكبير بطريرك الإسكندريّة، والقدِّيسَيْن مكاريوس الكبير وباخوميوس مؤسِّس أديار الشِّرْكَة.
* * *
القدِّيس أنطونيوس كان ناسكًا مُختَبَرًا، لذا كانت تعاليمه ثمر خبرته بالرُّوح في عيش كلمة الإنجيل، هو الَّذي سعى لعيش الإنجيل بكماله. فالرَّهبنة هي هروب من العالم ومن اهتماماته للدُّخول في أعماق الله بالصَّلاة والصَّوْم والتَّوْبة، وهذا هو جهادها الَّذي يُتِمُّه الرَّاهب في سَعْيِهِ لِعَيْشِ الكلمة الإنجيليَّة بكَمَالِها. تاليًا، الرَّهبنة هي استشهادٌ مُستَمِرٌّ بالموت عن الإنسان العتيق مع أعماله للِبْسِ الإنسان الجديد وفضائله بنعمة الله. هذا ما تُجسِّده حياة القدِّيس أنطونيوس وتعاليمه بأجلى بَيان. هو بَذَلَ دَمًا لعيش كلمة الإنجيل والرَّبُّ حَبَاهُ روحًا قدُّوسًا ليُتَمِّمَ مشيئته. الإرادة عنده كانت فولاذيّة لا تَنْثَني ولا تَلين مهما اشتدَّت التَّجارب والمـِحَن والإغراءات. بالنِّسبة له "الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ" (في 1: 21)، ولذا صارع الشَّيْطان حتّى الرَّمَق الأخير وأبى أن يستسلم وهكذا غلب، لأنَّ رجاءه بالله كان ثابتًا "وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي، لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا" (رو 5: 5).
* * *
من أبرز حكم القدِّيس أنطونيوس الكبير قوله: "إعْرَف نفْسَكَ، واعْرَف ضُعْفَكَ، واجتهد في الصَّلاة، ولا تَخَفْ من التَّجارب، فإنَّ الله هو الَّذي يَنْصُرُكَ". هذا القَوْل يرسم لنا خريطة الطَّريق إلى الكمال والقداسة. البداية معرفة النَّفس كوْنَها على صورة الله واكتشاف مواطن الضُّعف في تَشَبُّهِنَا بالرَّبِّ لكي نطلب الأصل (أي الله) بالصَّلاة بشجاعةٍ مُحتَمِلين التَّجارب من تهديدات وإغراءات الشَّيْطان والعالم والمَيْل الشِّرّير الَّذي فينا بسبب السُّقوط، حتّى نَخْتَبِر الغَلَبَةَ بقُوَّةِ الله إذا عَرَفْنَا أنْ نتواضع ونتَّكِل عليه ونَثِقَ به، "لقد رأيتُ شِراكَ الشَّيْطان تنتشر على الأرض فقُلْتُ وأنا أتنَهَّد: مَنْ يستطيع يا ربّ أنْ ينجو منها؟ وجاءَني صوتٌ مِنَ السَّماء يَقول: المتواضعون".
بحسب تعليم القدِّيس أنطونيوس، الصَّبر يُمنح من الله لِمَن يتحمَّلون المصاعب بثباتٍ في الإيمان، كَوْنَهُ (أي الإيمان) "هو السِّراج الَّذي يُنيرُ طريقَنا إلى الله". والإيمان يتنفَّس صلاةً الَّتي "هي التَّنفُّس الرُّوحيّ للنَّفس، مِنْ دونِها، يختنق الإنسان في شِباك العالم". والصَّلاة لا تنفصل عن الصَّوْم لأنَّ الشَّيْطان لا يُغلَب إلَّا "بالصَّلاةِ والصَّوْم" (مت 17: 21) الَّذي هو"جسرُ الرُّوح إلى السَّماء، به نتخلَّص من الأرضيَّات ونَتَّحِد بالسَّماويَّات". وهذا هو النُّسْك الَّذي على كلّ مسيحيّ أن يعيشه، أكان راهبًا أم علمانيًّا، فالنُّسْك بحسب قدّيسنا "هو الطَّريق إلى الكمال".
* * *
أيُّها الأحبّاء، القدِّيسون قدوةٌ ومعلِّمون لنا في طريق الإيمان وعَيْشِهِ للوُصول إلى القداسة والكمال. الإيمان يُعاش مع النَّاس، وحتّى النُّسَّاك فهم يتركون العالم بما فيه ولكنَّهم لا يَهجرون إنسان العالم بل يبقون شهودًا للرَّبِّ أمامهم يَسْعُون لاجتذابهم إلى المسيح المخلِّص بالقُدْوَةِ والعَمَل والقَوْل، وهم بخبرتهم يقودون ضعيفي الإيمان ويشفون أمراضَ النَّفْسِ والجَسَد بنِعْمَةِ الله الَّتي تَفيضُ منهم في صلاتهم وكلماتهم وحياتهم وحُضُورهم. وهذا ما جسَّده القدِّيس أنطونيوس الكبير في حياته إذْ حينَ وَجَدَ ضرورةً تَرَكَ الصَّحراء وذَهَبَ إلى المدينة ليُشَدِّدَ المسيحيِّين في شَهادتهم وليُجاهِرَ بحَقِّ الإنجيل دونَ خَوْفٍ مِنْ مَوْتِ الشَّهادة الَّذي كان يطلبه، وهو الَّذي بالنِّسبَة إليه المحبَّة الحقيقيَّة تتطلَّب التَّواضُع: "عندما نحبُّ الله، نَرَى أنْفُسَنَا في ضَوْءِ حقيقته، ونُدرِك ضعفنا، ممَّا يقودنا إلى التَّواضع الحقيقيّ"، فبالنِّسبَة إليه الشَّخْص الَّذي يُحبُّ بصِدْقٍ لا يُمكن أنْ يَكون متكبِّرًا: "من يُحِبُّ الله ويُحِبُّ قريبه بِحُبٍّ طاهِرٍ، لا يُمكن أنْ يشعر بالكبرياء، بل يتواضع أمام الجميع"، لأنَّ المحبَّةَ تدفَعُ الإنسانَ لرُؤيةِ الآخَرين بِعَيْنِ الاحترام والمَوَدَّة: "التَّواضُع هو ثَمَرَةُ المحبَّةِ الحقيقيَّة، فالمُحبّ المتواضع يرى في الجميع إخوة وأخوات، ويُعامِلُهم بالمحبَّة والاحترام." هذا يَعني أنَّ الإنْسان الَّذي يَحْيَا مع الله وله يُدْرِكُ كيانيًّا مَدَى حاجَتَه الدَّائمة إلى نعمة الله، لأنّه بدون المسيح لا يستطيع أن يفعل شيئًا (راجع يو15: 5) من مشيئة الله.
ومن له أذٌنان للسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!...
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الرّابع)
إنَّ تلميذاتِ الرَّبّ تعلَّمنَ مِنَ الملاكِ الكرْزَ بالقيامةِ البَهج. وطَرَحنَ القَضاءَ الجَدِّيَّ. وخاطبنَ الرُّسلَ مُفتَخِراتٍ وقائِلات. سُبيَ المَوتُ وقامَ المـَسيحُ الإله. ومنحَ العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.
طروباريَّة عيد الظُّهور (باللَّحن الأوَّل)
باعتمادِكَ يا ربُّ في نهرِ الأردن ظَهَرَتِ السَّجدَةُ للثّالوث، لأنّ صوتَ الآبِ تقدَّمَ لكَ بالشَّهادة مُسمِّيًا إيّاكَ ابنًا محبوبًا، والرُّوحَ بهيئةِ حمامة يؤيِّدُ حقيقة الكلمة. فيا مَن ظهرتَ وأنرتَ العالم، أيُّها المسيحُ الإلهُ، المجدُ لك.
قنداق عيد الظُّهور (باللَّحن الرَّابع)
اليومَ ظَهَرْتَ للمَسكونة يا ربّ، ونورُك قد ارتسمَ علينا، نحن الَّذين نسبِّحُكَ بمعرفةٍ قائلين: لقد أتيتَ وظهرتَ أيُّها النُّورُ الّذي لا يُدنى منه.
الرّسالة (أف 4: 7- 13)
لِتَكُن يا ربُّ رحمَتُكَ عَلَينا
ابتهِجوا أيُّها الصِّدِّيقونَ بالرَّبّ
يا إخوة، لكلِّ واحدٍ منّا أُعطيَتِ النِّعمَةُ على مِقدارِ موهَبَةِ المسيح. فلذلك يقول: لمـَّا صعد إلى العُلى سَبَى سَبْيًا وأعطى النَّاسَ عطايا. فكونُهُ صعد هل هو إلَّا أنَّه نزل أوَّلًا إلى أسافل الأرض. فذاك الَّذي نزل هو الَّذي صَعِدَ أيضًا فوق السَّماوات كلِّها ليملأ كلَّ شيء. وهو قد أعطى أن يكونَ البعضُ رُسُلًا والبعضُ أنبياءَ والبعضُ مبشِّرين والبعضُ رُعاةً ومعلِّمين. لأجلِ تكميل القدِّيسين ولعَمَلِ الخدمة وبُنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهي جميعُنا إلى وحدة الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسانٍ كاملٍ، إلى مقدار قامةِ مِلءِ المسيح.
الإنجيل (مت 4: 12- 17)
في ذلك الزَّمان، لمـَّا سمع يسوع أنّ يوحنَّا قد أُسْلِمَ انصرف إلى الجليل، وترك النَّاصرة، وجاء فسكن في كفرناحوم الَّتي على شاطئ البحر في تُخوم زَبولون ونَفْتَاليم، ليتمّ ما قيل بإشعياء النَّبيّ القائل: "أرضُ زَبولون وأرضُ نَفتاليم، طريق البحر، عَبرُ الأردن، جليلُ الأمم. الشَّعبُ الجالسُ في الظُّلمَةِ أبْصَر نورًا عظيمًا، والجالسون في بقعة الموْت وظِلاله أشرق عليهم نور". ومنذئذ ابتدأ يسوع يكرز ويقول: "توبوا فقد اقترب ملكوت السَّماوات".
حول الإنجيل
الشَّعبُ الجالسُ في الظَّلام أبصر نورًا عظيمًا
يقولُ أحد الكتّاب المسيحيّين أنَّ الشَّعب السَّالك في الظُّلمة والظَّلام هم الشَّعب اليَهوديّ مع أنَّهم كانوا يَحْيَون تحت الشَّريعة الَّتي كانت تهدف لتوجيه الشَّعب وتأديبه لا لخلاصه، ويُضيف أنَّ الشَّريعة أعمتهم فعجزوا، وهم سكارى بها، عن أن يَرَوْا النُّور العَظيم، أي المسيح آتيًا. ويوضح القدِّيس كيرلُّس الإسكندريّ هذا الأمر بأنَّ "الشَّريعة لم تُشَبَّه أبدًا بمصباح، لا بل كان هنالك دائمًا مصباحٌ مشتعل في خيمة الاجتماع، بسبب قصور أشعَّة الشَّريعة من أن تنتشر لِتَطالَ الوثنيّين، الَّذين بَقوا في الظَّلام، وكأنَّ لا سراج عندهم".
إنَّ القدِّيس متّى الإنجيليّ يستشهد بهذه النّبوءة من إشعياء النَّبيّ ليؤكِّد ما بدأ به إنجيله عندما قال: "إنَّه يُدعى يسوع لأنَّه يخلّص شعبه من خطاياهم"، إنَّ البشريّة كلّها هي شعب الله، وهي بكلّ أطيافها مدعوَّةً لتلتقي النُّور الحقيقيّ الآتي إلى العالم. لذا شدَّد الإنجيليّ على أنَّ البِشارَة ابتدأتْ مِن جليل الأمم واختُتمتْ به، ولذا أيضًا نَراه يُعلن في آخِر إنجيله قوْل الرَّبّ: "إذهبوا وتلمذوا كلَّ الأمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والرُّوح القدس" (مت 19:28).
لقد بدأ الرَّبُّ يسوع الكرازة، بالحياة والنُّور، فهو النُّور وهو نبع الحياة، فمن يتبعه لا يمشي في الظَّلام، أكان من اليَهود أو من الأمم، فبقبوله تنتفي الحواجز بين البشر إذ يكون الكلّ شعبٌ واحدٌ لربٍّ واحد يشرق شمسه على الجميع.
ههنا الرَّبّ يحثُّ النَّاس على التَّوْبة، ويعدُ بغفران الخطايا استنادًا إلى قول النَّبيّ نفسه: "أنا الماحي مَعاصيك، وخطاياك لا أذكرها لأجلي" (إش 25: 43)، القدِّيس يوحنَّا أنْهَى العهد القديم بالدَّعوة إلى التَّوْبة والرَّبُّ يسوع افتتح عهدًا جديدًا بالغفران مثبِّتًا دعوة يوحنَّا ومكَمِّلَها في شخصه لكونه هو من يتقبل التَّائبين وينضحهم بالزُّوفى فيطهرون، فلا تسود الخطيئة بعد على البشر بل يَحْيَوْن بالنَّعمة الإلهيّة كأبناء لله بيسوع المسيح، الكلمة المتجسِّد، حمل الله حامل خطيئة العالم.
الدَّعوةُ لنا اليوم أن نسلك في جدّة الحياة، وصوت الرَّبّ نفسه ما زال يحثّنا أن نخلع الإنسان العتيق المقيّد بالشَّرائع والفَرائِض، لنتلألأ بالنُّور الإلهيّ بسُكْنى الرُّوح القُدس فينا فنكون بذلك من أبناء الملكوت.
المحبَّةُ صخرةُ النُّسْك
النُّسْك في التَّقليد الأرثوذكسيّ لا يُفهَم فقط كعملٍ خارجيٍّ من التَّوبة أو العزلة الجسديَّة، بل هو طريقةُ حياةٍ تتعمَّق في العلاقة مع الله وتعكس محبَّةَ القلب. يُعَدُّ النُّسْك الأرثوذكسيّ طريقًا لتطهير النَّفْسِ والارتقاء بها، حيث يشمل الصَّلاة المستمِرَّة، الصَّوْم، والعزلة الرُّوحيَّة. ولكنَّه لا يتمُّ في عزلةٍ عن العالم بل في محبٍّة واهتمام بالآخَرين.
في الفكر الأرثوذكسيّ، المحبَّة هي الأساس الَّذي ينبثق منه النُّسْك. المحبَّة لله أوَّلًا، ومِنْ ثمّ المحبَّة للآخَرين. كما يقول الكتاب المقدَّس: "الله محبَّة"، ولهذا فإن النُّسْكَ الحقيقيّ يتجسَّد في حبِّ الله وحبِّ الإنسان، حيث لا يفصل المؤمن بين النُّسْك والعمل الرُّوحيّ والاهتمام بالآخَرين. النُّسْكُ يُعَدُّ وسيلةً لتطهير القلب من الأهواء والأفكار الدُّنيويَّة، ليُصبح الشَّخص قادرًا على تقديم محبَّةً حقيقيَّةً تجاه الله وتجاه الإنسان.
في هذا السِّياق، يرتبط النُّسْك بالمحبَّة كصخْرَةٍ ثابتة لا تهتزّ. فكلُّ جهد روحانيّ، سواء كان صوْمًا أو صلاة أو توبة، يجب أن يكون مدفوعًا بالحبّ الحقيقيّ لله وللآخَرين. النُّسْك بدون محبَّةٍ يفقد جوهره، ويتحوَّل إلى مجرَّد طقوس جسديَّة لا طائل من ورائها. على العكس، عندما يكون النُّسْكُ مُحاطًا بالحبِّ، يصبح طريقًا لتحقّق الوصال الحقيقيّ مع الله، وبالتَّالي مع كلِّ إنسان. هكذا يُفهم النُّسْك كمَسَارٍ يمتزج فيه الجهد الرُّوحيّ والمحبَّة، إذ تُمثِّل المحبَّة جوهر النُّسْك وصخرته الَّتي لا تتزعزع.