استقامة الإيمان بين التّمسُّك والتّعصُّب- النّهار أونلاين- الأحد في ١٥ نيسان ٢٠١٩
المطران انطونيوس الصوري – متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس
استقامة الإيمان بين التّمسُّك والتّعصُّب
“اجْتَهِدْ أَنْ تُقِيمَ نَفْسَكَ للهِ مُزَكُى، عَامِلًا لاَ يُخْزَى، مُفَصِّلًا كَلِمَةَ الْحَقِّ بِالاسْتِقَامَةِ” (رسالة بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس 2: 15).
على مر القرون يظهر من يدّعون المحافظة على نقاوة الإيمان، كل إيمان تعتنقه مجموعة من البشر. ليس لنا ههنا المجال للتوسع في الأديان والمعتقدات المختلفة. سنكتفي بطرح المسألة من زاوية المسيحية الأرثوذكسية.
المسيحيون الاول كانوا يموتون لأجل عدم إنكار إيمانهم بالرب يسوع المسيح الاله-الانسان. كانوا ايضا يحاورون الذين يكفّرونهم. والعديدون منهم كتبوا دفاعاتهم عن الإيمان وارسلوها الى خصومهم. لم يدن المسيحيون غير المسيحيين بل عملوا على تبشيرهم بالحياة والكلمة. وبشارة حياتهم كانت شهادتهم بالكلمة ولأجل الكلمة حتى الدم. إيمانهم لم يمنعهم من مخالطة الأمم الوثنيين، فهم أتوا الى المسيحية إما من يهودية أو من وثنية … العالم كله مطرح بشارة رسل المسيح. في القرون الثلاثة الاولى لم تكن العقيدة محدّدة في كل ابعادها، الهرطقات التي ظهرت استبانت انحرافًا عن استقامة الحياة في المسيح ولذلك رُفضت وحُدِّد الإيمان القويم كجواب عليها. دفعت الكنيسة ثمن استقامة عقيدتها دماء على مرّ القرون.
* * *
المسيح أتى “ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد” (إنجيل يوحنا ١١: ٥٨). لم يكن المسيحيون، يومًا منغلقين على ذواتهم، القديس باخوميوس مؤسس أديار الشركة كان جنديا وثنيًا اهتدى الى المسيحية وترك العالم كله بسبب المحبة التي لمسها في المسيحيين الذين داووه من جراحه في حين كان هو مع الذين يقتلونهم.
لم ينقطع المسيحيون يوما عن العيش مع الذين يختلفون وإياهم بالإيمان أو العقيدة، كما أنهم لم يتوقفوا عن الحوار أو المناظرة معهم، وليس هنا المجال للتوسع في هذا الأمر.
المسيحية بطبيعتها بشارية حوارية تحترم كل آخر وتحبه. وان كان قد ظهر في التاريخ حقبات قست فيها لهجة الكنيسة بمخاطبة أو محاورة الذين هرطقوا، اي انحرفوا عن الإيمان القويم، الا ان جوهر المسيحية يبقى المحبة التي تطلب خلاص العالم في المسيح.
المسيحية ليست ديانة تكفيرية بل تبشيرية…
* * *
تتزايد في هذه الأيام الاصوات التي تحرض على التكفير وإدانة كل من يتعاطى الانفتاح على الآخرين لتوطيد روابط التعاون الإنساني والحوار الايماني لأجل حياة مشتركة أفضل وافعل. البعض من هؤلاء يتصرفون هكذا عن حسن نية ظنا منهم أنهم يحافظون على استقامة الإيمان في حين أنهم ينزلقون الى إدانة إخوانهم في الإيمان. البعض الآخَر مأجور بهدف تشويش الحياة الكنسية …
الفرق كبير جدا بين التمسك باستقامة الإيمان الذي هو ثبات في العقيدة وانفتاح في المحبة بالحوار والتلاقي والعمل المشترك شهادة للرب، وبين التعصب الذي هو فريسية متهوّدة جديدة اي عبودية لحرف الشريعة وانغلاق على الذات شيطاني خوفا من الآخَر المختلف.
نقرأ في الرسالة الى اهل غلاطية ان بولس الرسول اختلف مع بطرس الصخرة ووبخه حين أراد هذا الأخير ان يراعي المسيحيين الذين من أصل يهودي والمتمسكين بشريعة موسى كشرط أول قبل العبور إلى المسيحية: “لكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لاَ يسلكون باستقامة حَسَبَ حَقِّ الإِنْجِيلِ، قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ: «إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيًّا لاَ يَهُودِيًّا، فَلِمَاذَا تُلْزِمُ الأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا؟” (غلاطية 2: ١٤).
جرأة بولس الرسول في انفتاحه بالحق على الذين يريدون دخول المسيحية دفعته إلى كسر حاجز الخوف من الفريسية التي قَيَّدَت بطرس بشريعة حرَّر المسيح المؤمنين به منها. بطرس الرسول لم يكن يجرأ ان يجلس مع المسيحيين من أصل وثني خوفا من المتهودين، واليوم نرى متهودين جدد ينشرون الانغلاق على الذات والخوف من الآخر بحجة الحفاظ على استقامة الإيمان في حين أنهم يغرقون في الدينونة والتعصب إذ يكفرون اخوة لهم بمجرد لقائهم مع آخرين. هذا هو التعصب الأعمى الذي يؤدي إلى تشويه الإيمان بالإله – المحبة الذي بذل ابنه الوحيد “لكي لا يهلك كل من يؤمن به” (يوحنا ٣: ١٥). هؤلاء محبتهم مكبلة ومشوهة وهم مضلين وضالين اذ لا يسلكون بالتواضع الذي في حق الانجيل بالطاعة للمؤتمنين من الروح القدس للحفاظ وديعة الإيمان نقية بلا عيب بل يسلكون بظلمة أذهانهم التي في الكبرياء… وفي ظنهم أنهم أبناء النور …
الحوار في الحق هو باب الطريق المنير الذي سلكه الآباء القديسون شهادة للرب…