Menu Close

نشرة كنيستي- أحد (15) من لوقا (زكّا)- العدد 5

30 كانون الثّاني 2022

كلمة الرّاعي

الصَّبر

“بِصَبْرِكُمُ اقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ” (لو 21: 19)

“صَبَرَ الشَّخصُ” تعني لغويًّا أنّه رَضِي، تَجَلَّدَ، تَحَمَّلَ، اِحْتَمَلَ، انتظر في هدوء واطمئنان دون شكوى ولم يتعجَّل. من هنا لا يقوم صبرٌ دون قوَّةٍ داخليَّة في الإنسان، ومَنْ حافَظَ في الشَّدائد على صبره واطمئنانه دون أن يشتكي أن يتذمَّر فهذا نعمة الله حالّة فيه.

بولس الرَّسول يربط الصَّبر بالرَّجاء، فيقول: “عَالِمِينَ أَنَّ الضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْرًا، وَالصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَالتَّزْكِيَةُ رَجَاءً، وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي، لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا” (رو 5: 3 – 5).

بدون صبرٍ لا يستقيمُ عملٌ ولا يستمرُّ ولا ينجحُ مسعًى لإنسانٍ في أيّ مجال. الطّبيعة نفسها تعلّمنا أنّ الصَّبر هو في جوهرها، فالإنسان بعد أن يتمّ الحبل به يصبر تسعة أشهر ليتكوَّن كاملًا، ومن ثمّ ينتظر سنين وسنين لينمو ويكبر ويتعلّم ويعمل ويحقِّق ذاته وأحلامه… لا شيء ينمو بدون صبرٍ ورجاء، لأنَّ غياب الرّجاء يولّد يأسًا واليأس شكلٌ من أشكالِ الموت الجحيميّ…

*          *          *

يقول الأب إشعياء (ناسك في مصر من القرن الرّابع– الخامس): “إذا كنت بحاجة ماسّة إلى شيء، فلا تترجّاه من إنسان ولا تحزن بسببه ولا تتذمَّر، بل احتمل ذلك بصبرٍ جميل دونما اضطراب، وفكِّر أنَّك بسبب خطاياك تستحقُّ كلَّ ضيقٍ، ولو شاء الله أن يرحمك لرحمك. وإذا فكَّرت هكذا أتمّ الله حاجاتك” (عن كتاب “كيف نحيا مع الله. مختارات إفريتينوس – الجزء الثّالث، منشورات التّراث الآبائيّ، 1991، ص. 190).

قد يصدمنا هذا الكلام، وكثيرون قد يرفضونه ولا يفهمونه. لماذا؟!… لأنَّنا لا نحيا مع الله بالثّقة فيه والاتّكال عليه مُسْلِمِينَ له حياتَنا، كما أنّنا لا ننظر إلى حياتنا من منظارٍ روحيّ أي من زاوية عيشنا لوصيّة الله وعيشنا معه بل من منطلق حاجاتنا في هذا العالم ومشاريعنا الّتي نُساق إليها في كثير من الأحيان بسبب من الاِقناع الَّذي يمارسه علينا العالم ومَنْ حولنا، بناءً على الخطط الّتي يضعها “أسياد” هذا العالم ومعطياتهم وأهوائهم.

*          *          *

يقول المتروبوليت جورج (خضر) راعي أبرشيّة جبل لبنان السّابق، أطال الله بعمره، “ليس صبورًا إلّا الَّذي هو مقتنع بأنّ كلّ ما يحصل له يأتيه من الله” (من حديث له في دار المطرانية في برمانا، الجمعة 27 آب 2021).

ماذا يعني هذا الكلام؟ هذا يعني أنّ الصّبر نعمة من الله يعترف فيها الإنسان أنّ الله هو “الضّابط الكلّ”، وأنّه إذ يطيعه طاعة كاملة فالرَّبّ يؤتيه ما يحتاجه في حينه ويمنحه أن يصبر ويصطبر إلى أن يأتي الوقت الَّذي يحقّق الله فيه وعده له بالخلاص، لأنّ لا شيء في حياة المؤمن خارج عن سرّ تدبير الله لخلاصه الشَّخصيّ وتقديسه. ليست المسألة أنّ الله يسبّب الضّيقات بل أنّه حاضر مع الإنسان ومرافق له ليهبه كلّ خير ونعمة وقوّة لينمو في الفضيلة ويواجه الشّرّ والشّدائد. الخطيئة وحدها تدمّر الإنسان وتُفقدُه الرّجاء حين تصير فيه هوًى.طبعًا، هذا لا يعني أنّ الإنسان في الشّدائد يبقى عازفًا عن أيّ عملٍ يقوم به، بالعكس هو مطلوب منه أن يعمل في الرَّجاء وبروح الكلمة الإلهيّة الّتي هي تشدّده وتعزّيه وتفتح له باب الغلبة.

أن نقبل ما يأتينا على أنّه من الله يعني أنّنا مكرِّسون حياتنا لله، وله أن يفعل ما يشاء، لأنّ مشيئته هي أنّه جاء لتكون لنا “حياة ولتكون أفضل” (يو 10: 10). فـ “كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ …” (يع 1: 17).

*          *          *

أيُّها الأحبّاء، يقول كاتب المزامير “لَكَ يَا رَبُّ صَبَرْتُ، أَنْتَ تَسْتَجِيبُ يَا رَبُّ إِلهِي” (مز 38: 15). لا يوجد شكٌّ في استجابة الرَّبّ للصَّابِر الواثِق، إنّه لا يتركنا، فهو دومًا يكون “حِصْنًا لِلْمِسْكِينِ، حِصْنًا لِلْبَائِسِ فِي ضِيقِهِ، مَلْجَأً مِنَ السَّيْلِ، ظِّلًا مِنَ الْحَرِّ …” (إش 25: 4).

لا يخسر من يصبر للرَّبّ لأنّ الخالق أمين أن يحفظ مختاريه ويجعلهم نورًا وتعزيةً للعالم، “أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل” (مت 5: 14). الرّجاء الَّذي يحتاجه الإنسان هو أن يكون الإنسان قابلًا للتَّغيير. لأنّ المسيح إلهنا أتى ليُجدِّد الإنسان ليصير العالم “خليقة جديدة” (2 كو 5: 17).

الضّيقات والتّجارب يصنعها الإنسان حين يستجيب الشّرّير وليس الله، حين يعيش لنفسه وليس لمن يحبّهم، حين يصنع مشيئته وليس مشيئة الله، حين يعتبر نفسه سيّد الكون وليس مخلوقًا سيَّدَه الخالقُ على خليقته لأنّه يًحبُّه وخلقه على صورته.

حين ينسى الإنسان أنّه عَدَمٌ وأنّه لا شيء دون الله تأتي الشّدائد ليعرف أنّه لا ثبات له ولا وجود دون باريه. إذا تاب البشرُ وصار اللهُ ملكًا على الجميع حينها يصير العالم ملكوتًا. الأحزان والآلام المتأتّية من الضّيقات سببها خطيئة البشر، الرّجاء مصدره محبّة الله اللّامتناهية الّتي يختبرها الإنسان بالتّوبة انطلاقًا من تحقيق وعد الله بخلاص البشريّة في يسوع المسيح الإله-المتانّس.

ماران أثا… فلنتب…

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

مواضيع ذات صلة