محبّة المال- النّهار أونلاين- الأحد في ٣٠ أيّار ۲٠١٩
المطران انطونيوس (الصوري) – متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الارثوذكس
محبّة المال
“أصل الشّرور محبّة المال” (رسالة بولس الرّسول الأولى إلى تيموثاوس ٦: ١٠).
المال رمزٌ لكلّ قنيةٍ، هو القدرة على التّملّك. قبل وجود المال كان البشر يتبادلون الخيرات فيما بينهم. يظنّ الإنسان أنّه بدون المال لا يستطيع أن يعيش، وهو يعرف أنّ المال لا يستطيع أن يمنع عنه الموت. يعتقد الإنسان الاستهلاكيّ أنّ المال يجلب له سعادة. لا شكّ أنّ الإنسان اليوم يحتاج إلى مال ليدبّر أمور حياته، والعالم يتّجه إلى خلق حاجات جديدة للبشر. ما ليس ضرورةً للحياة يصير يومًا بعد يوم أمرًا لا غِنى عنه. أوهام تُجعَلُ في مستوى جوهريّات الوجود الإنساني فيما الحاجة هي إلى واحد…
***
من يملك المال يملك السّلطة وتصيرُ أداةً للحفاظ على استمراريّة ازدياد أمواله. ومن يقتني سلطةً يطلب المال ليوطّد أركانَ سلطته. “الكلّ باطل وقَبضُ الرّيح…” (سفر الجامعة ١: ١٤) أدرك الإنسان أك لم يُدرك، من يتمسّك بهذا العالم دون أن يتطلّع إلى ما ورائه لا بُدّ له أن يُستعبَد ل”مامونا” أي إله المال. نقرأ في الإنجيل على لسان الرّبّ يسوع المسيح في إزائيّة وحيدة حيث يضع معبودًا في مقابل الله حين يقول: “لا تستطيعون أن تعبدوا رَبَّيْن الله والمال” (إنجيل متى ٦: ٢٤). المال لمن لا يطلبون الحياة الأبديّة هو مصدر الوجود وطريق الوجود وغاية الوجود. قد يخدع الإنسان ذاته مُبرّرًا سعيه لتكديس الأموال بحججٍ كثيرةٍ ومتعدّدة، لكن يبقى أنّ للمال سلطانًا على صاحبه، من تزيدُ أمواله لا يَقبل أن تنقص بل يسعى على الدّوام لزيادتها. لا يعود الأمر مرتبطًا بمشيئته الحرّة بل يصير عبوديّة للذّة التّجميع والتّكديس إذ يوهَمُ المَرء بأنّ ماله يضمن له حياةً مَديدةً سعيدةً في الرّاحة والأمان، لكن “الإنسان كالعشب أيّامُه وكزهر الحقل كذلك يُزهر، إذا هبّت فيه الرّيح ليس يثبت…” (مزمور ١٠٣: ١٥- ١٦). البشر يطلبون أمانهم وفرحهم في المَلموسات لكنّ الحقيقةَ هي أنّ كلّ ما يتعلّق بأساساتٍ أرضيّة للحياة الأبديّة لا يُينى إلّا على الإيمان المُترجم بأعمال المحبّة. من يبني وجوده على صخرة المال سيلقى نفسه فوق الرّمال المُتحرّكة الّتي تجعلُهُ أجوَفًا في
إنسانيّته وتبتلعه لتردّه إلى أديم الأرض. مشكلة الإنسان تمحوره حول نفسه ومن وقع في حبّ المال يصير تملّكيًّا استهلاكيًّا في علاقته بالآخرين والوجود فيَذوي الحبّ في قلبه إلى أن ينطفئ ما لم يختبر أنّ حياته معرّضة للزوال رغم أمواله وسلطانه. هذا يعني أنّ الإنسان لا يستطيع أن يتحرّر من عبوديّة المال والتّملُّك ما لم يتعرّض لخسران حياته بطريقةٍ من الطّرق، هذا التّحوّل أو التّحرّر لا يمكن أن يتحقّق ما لم ينوجد بصيصُ نورِ إيمانٍ بالله في قلبه. إن استحكمت فيه أنانيّته وانتفخ بكبريائه يصيرُ شبيهًا بالشّيطان غيرَ قابلٍ للشّفاء…
***
المال وسيلةٌ وليس غايةً بحدّ ذاتِهِ إذا وُجِد لا يُعطي الإنسان كرامةً وإذا فُقدَ لا يحرم الإنسان مكانته لأنّ قيمة الإنسان تأتي من كونه قلبًا مُحبًّا ووجهًا عَطوفًا لاستعلان صورة الله فيه. قيمة البشر موقعهم في قلب الله، وحكمِ الرّبّ يرتبط بأعمال المحبّةِ والرّحمة. ماذا ينتفع الإنسان لو ربح مالَ العالمِ كلِّهِ وخسرَ قلبَه وإنسانيّتَه ومحبّة المساكين؟!… المال وديعة في يد الإنسان من الباري لخدمة الإنسان. ومن ظنَّ أنّه يملك حبّة تراب في هذا العالم يكون إنسانًا فاقد العقل. “للرّبّ الأرض بكمالها، المسكونة وجميعُ السّاكنين فيها…” (مزمور ٢٤: ١). ما تُعطاهُ نعمة وإن تعبتَ فيه لأنّ الله وهبك أن تحيا لتقتنيه، وهذه مِنّةٌ من العَليّ عليك تُوجِبُكَ أن تبذُلَ ممّا بين يديك لأنّه ليس منك، إذ الفضلُ لله أوّلًا وعلى كلّ شيء… من يَعقُل يُعطي من الأمانة الّتي لديه.