برحمة الله تعالى
يوحنا العاشر
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
إلى
إخوتي رعاة الكنيسة الأنطاكية المقدسة
وأبنائي وبناتي حيثما حلوا في أرجاء هذا الكرسي الرسولي
هوذا رب البرايا فانظروه بالعيان
أتحفوه بالهدايا ذهباً مراً لبان (١)
في ليل الزمن الحاضر يطل علينا طفل المغارة بصيصَ نورٍ ليسَ للظلمةِ أن تخمده. يوافينا في أيامٍ تئِنُّ فيها البشرية تحت نيْرِ الوباء وتنظر بالرجاء إلى سيد الرجاء كي يرفع بـ”نيره الهيّن” كل ما يثقل كاهلها. يوافينا المسيح الإله مولوداً بالجسد لينقب كوة الزمن ويطل على عالمه إطلالة المحبة والسلام. يوافينا بسمةً خفرةً وسط ضجيج هذه الدنيا. يوافينا تعزية صادقة. يوافينا طفلاً صغيراً لم يجد له في أرائك العروش مكاناً فاختار حشا العذراء عرشاً. انتظره البعض ملكاً أرضياً فوافى أولاً وأخيراً ملامساً فقر جبلتنا وحاضناً إياها بوداعته. انتظره البعض آتياً لخلاص شعب، فأتى معانقاً كل البشرية وفي كل عصر منذ آدم إلى أيامنا. يوافينا اليوم طفلاً صغيراً في قلب مغارة. أضنانا الجوع إلى مراحمه فأتى ويأتي في كل زمن ليزيل عن قلبِ بشريَّتِهِ ثقَلَ الحجر ويزرعَ في مغارة قلبها بصيص النور والأمل.
في يوم الميلاد، قدمت البشرية عبر المجوسِ ملوكِ الشرق للمسيحِ المولودِ الذهبَ والمُرَّ واللبان. دعوتنا اليوم أن نستقبل طفل المغارة بذهبٍ ولبانٍ ومرٍّ نجود بها عطاءً على أخينا الفقير والملهوف والمهجر والذي نقرأ في وجهه وجه يسوع. دعوتنا اليوم أن نجسد هدية الميلاد إحساناً وصدقةً يتنسم منها الرب رائحة الرضى والعرفان. دعوتنا اليوم أن نستقبله بقلوبنا التي تلتمع بنقاوة الذهب عندما تنظر إلى الآخر المحتاج وتستدر بعطفها تجاهه مراحم رب السماء طفلِ المغارة. دعوتنا أن نستقبله وندفن تحت أقدامه مرُّ ومرارة حياتنا وأن نسكب صلاتنا دموعاً تسأله الرأفة بعالمه في فترة الوباء العصيب. دعوتنا اليوم أن نبقى أمناء لبُنوّتنا له عبر تآخينا وترجمة هذا التآخي أفعالَ رحمةٍ تجاه الأخ الآخر.
في عشية هذا العيد الحاضر، نتوجه كلنا بالقلب والذهن إلى مغارة بيت لحم ونقف إلى جانب تلك الأم الطهور، مريم البتول، التي وضعت على قش مزودٍ رجاءَ وخلاصَ البشريّةِ. نضم صلاتنا إلى صلاتها. ونسأل رحمات الطفل الإلهي للعالم بأسره. نسأله الرحمة لمن قضى في هذا الوباء. نسأله وهو طبيب النفوس والأجساد، أن يكون مع إخوتنا الأطباء وسائر الكوادر الطبية والخدمية في مواجهة هذا الظرف الصعب. نسأله أن يعضد ويواسي القلوب الكسيرة وأن يرفع هذه الغمامة عن عالمه. نسأله وهو المضيء عتم المغارة، أن يرسل نوره وعزاءه لكل المكتنفين بالضيقات. نسأله السلام للعالم الذي يتخبط في موجات العنف والإرهاب. نسأله من أجل الأرض التي ولد فيها، من أجل الشرق الجريح وقلبه فلسطين بشعبها المصلوب على قارعة طريق الأمم. نسأله السلام لسوريا والاستقرار للبنان ولكل بلدٍ وبقعة من هذا الشرق ومن هذا العالم.
وكمسيحيين أنطاكيين، نضع أمامه عهدنا إليه أن نبقى على أصالة شهادتنا له ولإنجيل بشارته. نضع أمامه عهدنا أن نبقى دوماً أمناء على أصالة شهادتنا له، شهادة لم تنِخْها ولن تنيخها الأيام الحاضرة رغم قسوتها ورغم ما يتحمل فيها إنسان هذا الشرق والمسيحي جزءٌ أساس منه من تهجيرٍ وويلات حروبٍ وخطفٍ وظروفٍ معيشيةٍ وتصدّع دولٍ ومجتمعات. نضع أمامه عهدَنا أن نبقى في هذه الأرض المشرقية متجذرين كالأرز في لبنان متحَدِّيْن كل مشقةٍ بعونه وقوته التي تدعم قوتنا.
نذكر في صلواتنا أخوينا المخطوفين مطراني حلب يوحنا إبراهيم وبولس يازجي المخطوفَيْن منذ نيسان 2013 ونضع برسم العالم أجمع وهيئاته الدولية والمحلية قضيتهما التي تمثل شيئاً يسيراً مما يتعرض له إنسان هذا الشرق من محن. ونصلي من أجل إطلاقهما وعودتهما مع كل مخطوف ومفقود. إن مرارة الخطف تكويها وتزيدها لوعةً أيضاً مرارةُ التعتيم على الملف والتناسي له أو حتى التعامي، ويا للأسف، حتى عن وقوعه.
صلاتنا إلى طفل المغارة أن يلمس بقلبه هذا العالم الجريح وأن يضم إلى صدره الحنون نفوس الذين قضوا وسبقونا إلى مراحمه على رجاء القيامة والحياة الأبدية. صلاتنا إليه ونحن على فاتحة عام جديد، أن يهب السلام لعالمه وأن يسكت بجبروت صمته ضوضاء الحروب وتهويلها.
بتسبيح الملائكة وتهليل الرعاة وتضرع مريم وفرح المجوس وضعة المغارة وسطوع النفوس كما الكوكب، نجثو أمام المحبة الإلهية التي زارتنا وافتقدتنا منذ ألفي عام وتزورنا وتفتقدنا إلى الآن، سائلين رب الرحمة والرأفات أن يديم مراحمه على عالمه. نسأله من أجلكم ومن أجل أخصائكم، إخوتي وأبنائي الأنطاكيين في كل مكان.
يا “إله السلام وأبا المراحم” هبْنا سلامك الإلهي كي نرنم لك ملء قلوبنا وشفاهنا:
“المجد لله في العلاء وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة”.
صدر عن مقامنا البطريركي بدمشق
بتاريخ العشرين من كانون الأول للعام 2020.
(١) من نشيد الميلاد للمثلث الرحمة أثناسيوس عطا الله مطران حمص (1886-1923).