في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
✵أبونا الجليل في القدّيسين كيرلّس الإسكندريّ ✵العذارى الشّهيدات الفارسيّات تقلا ومريامني ومرتا وماريّا وإينّاثا ✵الشّهداء أوريستوس وديوميديس ورودون ✵الشّهيد حنانيّا ✵القدّيس البارّ كيروس ✵العذارى الشّهيدات من خيو ✵القدّيس البارّ كولومبا إيونا الإيرلنديّ ✵القدّيس البارّ يوليانوس السّوريّ ✵القدّيس البارّ ألكسندروس كوتشتا الرّوسيّ ✵القدّيس البارّ كيرلّس البحيرة البيضاء الرّوسيّ ✵الجديد في الشّهداء ألكسي ميشيف الرّوسيّ.
* * *
✤ أبونا الجليل في القدّيسين كيرلّس الإسكندريّ ✤
تُعَيِّد الكنيسة المُقَدَّسَة لأبينا الجليل كيرلُّس، بالإضافة إلى اليوم، في الثّامن عشر من كانون الثّاني بِمَعِيَّة القدّيس أثناسيوس الكبير.
ليست لدينا معلومات تفصيليّة عن نشأة القدّيس كيرلّس. ممّا نعرفه أنّه وُلد في حدود العام 380 م. ونشأ في ظلّ خاله ثيوفيلوس، رئيس أساقفة الإسكندريّة. ثيوفيلوس وُجِدَ مُعاديًا ومحاربًا للقدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم. كيرلّس، فيما يبدو، تأثّر بمناخ العداوة الّتي باعدت ما بين أوساط ثيوفيلوس والإسكندريّة من ناحية وأوساط الذّهبيّ الفم وأنطاكية من ناحية أخرى. هذا أقلّه في شبابه. لكنّ كيرلّس ما لبث أن استقام مسيره. أمران ساعداه في هذا الاتّجاه: حرصه على وحدة الكنيسة واتّضاعه. من هنا اقتباله الذّهبيّ الفم في الذّبتيخا، أي في ذكر الأساقفة الشّركاء في الإيمان الواحد، في الذّبيحة الإلهيّة، حتّى الغيرة الشَّديدة في زمان النّضج والرِّضى. ومن هنا إقباله، بروح الاتّفاق على إصلاح ذات البين مع الأنطاكيّين، الأمر الّذي تكلّل بصيغة الوحدة العقائديّة مع يوحنّا، بطريرك أنطاكية، في نيسان 433 للميلاد. اتّضاعه استبان، بخاصّة، في تراجعه عن موقف شخصيّ ملتبس بعدما تلقّى، كما ورد في التُّراث، علامة من فوق واستجاب لطلب الآباء القدّيسين المشهود لهم. فقد ورد أنّ كيرلّس عاين، يومًا، رؤيا كان الذّهبيّ الفم فيها يتمشّى في صحن الكنيسة وحوله جوق من القدّيسين. فلمّا دنا من كيرلّس رشقه بنظرات كأنّها السِّهام وأقبل عليه يروم طرده من الكنيسة. لكنْ ظهرت والدة الإله فجأة وشفعَت فيه وسألت له العفو. كذلك كان لموقف القدّيس إيسيدوروس الفرميّ (4 شباط)، كما بدا، أثره عليه. فلمّا كان إيسيدوروس قد اتّخذ الذّهبيّ الفم نموذجًا له وكانت له عند كيرلّس حظوة ومكانة الأب، فإنّه وجّه إليه عددًا مِنَ الرَّسائل لا تزال ثمانٍ منها في حوزتنا. في إحداها قال لكيرلّس: “بعض الّذين اجتمعوا في أفسس يلومونك على عداوتك الشّخصيّة، لا كمَن يحمل في قلبه قضيّة الرَّبّ يسوع المسيح” (الرّسالة 310). ولمّا بلغه احتدام الموقف بين كيرلّس ويوحنّا، بطريرك أنطاكية، إثر مجمع أفسس (431)، كتب إليه يدعوه للتّنازل والتّفاهم والتّعاون مع البطريرك الأنطاكيّ. ممّا قاله: “كأبٍ لك، طالما أحببتَ أن تدعوني كذلك، أو بالأحرى كابنٍ لك، ألتمس منك أن تضع حدًّا لهذا الخلاف حتّى لا تخلق انشقاقًا أبديًّا بادّعاء التَّقوى” (الرّسالة 370).
تمرّس كيرلّس في البلاغة وخوضُه المسائلَ الفلسفيّة كانا بيِّنين في تنشئته. أمّا كَلَفُه بالكتاب المُقَدَّس فكان كبيرًا. إلفته به كانت عظيمة حتّى قيل حفظه بالكامل أو كاد. وكانت كلماته تجري على لسانه سهلة عجيبة دفّاقَة.
إثر وفاة خاله تمّ اختياره خلفًا له. أمران شغلاه حتّى العَظم والعنف في أسقفيّته ولم يكن لأحدهما فَكاك عن الآخر: غيرته على الحقّ الإلهيّ وغيرته على الكنيسة المُقَدَّسة الواحدة. حِدَّة الطَّبع الّتي ميّزت أوائله، بخاصّة، ما لبثت أن استحالت صلابة على رحابة في الموقف العقائديّ يُركَن إليها. من هنا بروزه في مجمع أفسس والمرحلة الّتي تلته زعيمًا للأرثوذكسيّة كما كان أثناسيوس من قبله. هذا كان فمَ الأرثوذكسيّة في لاهوت الثّالوث القُدُّوس وذاك فمَ الأرثوذكسيّة في لاهوت التَّجسُّد الإلهيّ.
كان لكيرلّس موقف من الجماعات الأخرى في زمانه. شخصيّته القياديّة والتفاف الشّعب حوله ساعداه على إرساء قواعد الكنيسة وبسط نفوذها ومدّ تأثيرها. أمّا اليهود فكانوا في الإسكندريّة جالية يُعتدّ بها وقد اتّسمت علاقة المسيحيّين بهم بالتّوتّر. فبعدما وقعت اضطرابات وحصلت تعدّيات قيل منهم على المسيحيّين، في ذلك الزّمان، استدعى كيرلّس زعماء اليهود ونبّههم وهدّدهم. لكنّ هؤلاء لم يرعووا وفتك يهود بعدد ليس بقليل من المسيحيّين خلال اللّيل. وإذ كان الوالي أوريستوس يخشى جانب كيرلّس لنفوذه المدنيّ المُتنامي فإنّه غضّ الطّرف عن اليهود وما اقترفته أيديهم فتدخّل كيرلّس بقوّة وعمل على طرد اليهود من المدينة وتحويل مجامعهم إلى كنائس. أمّا الوثنيّة فقيل تحصّنت في زمانه في بلدة اسمها مانوتا. محاولات هداية سكّان تلك البلدة، من قِبَله، باءت كلّها بالفشل. أخيرًا حمل كيرلّس، بإيعاز من ملاك الرَّبّ، ذخائر الشّهيد كيرُس والرّسول مرقص، ودخل البلدة باحتفال مَهيب تتقدّمه الصُّلبان والمَباخِر والكهنة والمُرنّمون. وبعدما أودعت الذّخائر في هيكل مانوتيس أجرى الله بها معجزات جمّة. وإذ فتح روح الرَّبّ أذهان سكّان البلدة تنصّروا جميعهم ونالوا سرّ المعموديّة فتلاشت الوثنيّة في البلاد. أمّا أوريستوس الوالي فكانت للمسيحيّين مواجهات دمويّة معه. في تلك الفترة اغتيلت هيباتيا الوثنيّة الّتي كانت وجهًا بارِزًا بين الفلاسفة في الإسكندريّة. قيل فتك بها بعض المُتطرّفين لسعيها إلى توتير علاقة الوالي بكيرلّس. بالإضافة إلى ذلك وضع كيرلّس حدًّا لأصحاب مذهب نوفاسيانوس المنشقّ وأقفل كنائسهم. هؤلاء كان مطلعُهم في القرن الثّالث الميلاديّ، إثر اضطهاد داكيوس قيصر للمسيحيّين. نوفاسيانوس كان من المتشدّدين الّذي انقطعوا عن شركة الكنيسة وقالوا بعدم التّسامح مع الّذين كفروا بالمسيح تحت الضّغط ولو شكلًا. هؤلاء استمرّوا إلى القرن الخامس الميلاديّ واجتذب تشدّدهم عددًا من ذوي الرّأي القويم.
أكثر ما نعرف عن كيرلّس الفترة الّتي تلت العام 428 م. حين صار نسطوريوس أسقفًا على القسطنطينيّة. شهرة كيرلّس، بخاصّة، مردّها دفاعه عن الأرثوذكسيّة في وجه النّسطوريّة. هذا جعله وجهًا بارزًا في التّاريخ الكنسيّ والعقائديّ.
كان نسطوريوس تلميذ المدرسة اللّاهوتّية الأنطاكيّة. إذن كان في موقع لا يرتاح له كيرلّس أصلًا. ثمّ إنّه، في مواعظه الأسقفيّة، أخذ يوسّع، من الرَّبّ يسوع المسيح، موقفًا ملتبسًا فيه ما يوحي بوجود شخصين في المسيح، شخص إلهيّ هو اللّوغوس (الكلمة) يُقيم في شخصٍ بشريّ هو يسوع الإنسان. كذلك أبى نسطوريوس أن يدعو مريم والدة الإله (ثيوتوكوس). خبر مقولاته وبدعته بلغ كيرلّس فدحضها بحدود ربيع العام 429 في رسالة فصحيّة. ولمّا يمضِ وقت طويل حتّى أتبع ذلك برسالة حبريّة مُسهبة وجّهها لرهبان مصر. على هذا أضحت العداوة الكامِنَة، على مدى جيلين، بين محوريّ اللّاهوت البارزين في الشَّرق صراعًا مكشوفًا لا بين ممثّلي المدرستين وحسب بل بين الإسكندريّة والقسطنطينيّة أيضًا. ولا شكّ أنّ تاريخ العداوة الطَّويل بين هذين الكُرسيَّين هو ما أضاف إلى الصّراع اللّاهوتيّ عنصرًا سياسيًّا جعله يبدو وكأنّه صراع شخصيّ مَرير. فبعد تبادل عقيم للرّسائل بين نسطوريوس وكيرلّس أجرى كلاهما اتّصالًا بالبابا سلستينوس. بنتيجة ذلك انقعد مجمع في رومية في آب من السّنة 430 م. أدان نسطوريوس. وقد كلّف سلستينوس القدّيس كيرلّس بتولّي الأمر باسمه وإبلاغ نسطوريوس بالقرار الرّوميّ. وضع كيرلّس رسالة ضمّنها اثني عشر حرمًا طالت الهرطقة الجديدة أضاف إليها رسالة البابا وهدّد بخلع نسطوريوس مِنْ كُرسيِّه إذا لم يتراجع عن أخطائه في غضون عشرة أيّام.
بإزاء هذا التَّأزُّم لم تكن هناك سوى إمكانيّة واحدة لتَجَنُّب الشِّقاق: الدَّعوة إلى مجمعٍ عام. حثّ نسطوريوس الإمبراطور ثيودوسيوس الثّاني على استدعاء أساقفة المعمورة إلى مجمع مَسكونيّ فدعا الإمبراطور إلى مجمع في أفسس في عنصرة العام 431 م. هذا هو المجمع الّذي عُرِفَ، فيما بعد، بالمجمع المسكونيّ الثّالث.
في الجلسة الأولى الّتي انعقدت في 22 حزيران سنة 431 م. والّتي رأسها كيرلّس جرى خلع نسطوريوس وإلقاء الحرم عليه، وتبنّي الحرمات الإثنتي عشرة الّتي وضعها كيرلّس وطُعن بالعقيدة المسيحانيّة الّتي عبّر عنها نسطوريوس كما أُقرّت تسمية مريم بـ “والدة الإله” (ثيوتوكوس).
ولكنْ لم تمضِ على انعقاد المجمع أربعة أيّام حتّى وصل يوحنّا، أسقف أنطاكية، إلى أفسس يرافقه ثلاثة وأربعون أسقفًا من المَشرِق. فلمّا درى القادِمون بما جرى عقدوا مجمعًا خاصًّا بهم خلعوا فيه كيرلّس وألقوا عليه الحرم. فلمّا بلغ الإمبراطور خبر ما حدث خلع كيرلّس ونسطوريوس كليهما وزجّهما في السِّجن. وبعد الاستقصاء سُمح لكيرلّس بالعودة إلى الإسكندريّة فبلغ كرسيّه في 30 تشرين الأوّل حيث استُقبل كأثناسيوس جديد، فيما اعتزل نسطوريوس في دير في أنطاكية.
رغم ذلك لم تهدأ الحال ما بين الإسكندريّة وأنطاكية إلّا بعد المُصالحة الّتي تمّت في نيسان 433 م. يومها رضي يوحنّا الأنطاكيّ أن يُدان نسطوريوس فيما وقّع كيرلّس اعترافًا إيمانيًّا مُشتركًا يغلب الظَنّ أن يكون ثيودوريتوس القورشيّ هو الّذي وضعه. في هذا الاعتراف أقرّ الجميع بأنّ العذراء مريم هي “والدة الإله”.
ومع أنّ السّلام عاد فإنّ كيرلّس وجد نفسه، مرّة بعد مرّة، مُحتاجًا للدِّفاع عن موقفه المسيحانيّ (الخريستولوجيّ). وبما أنّ ثيودوروس أسقف موبسوستيا كان معلّم نسطوريوس فإنّ تململًا حدث في محيط كيرلّس لإدانته هو أيضًا نظير نسطوريوس. وقد كان كيرلّس على قاب قوسين وأدنى من اتّخاذ هكذا خطوة بين العامين 438 و 440 م. غير أنّه، على سرير موته، ناهض مثل هذا التَّحرُّك اجتنابًا لإحياء الصِّراع بين قِطْبَيْ الكنيسة في الشَّرق. وقد رقد بالرَّبّ في 27 حزيران مِنَ السَّنة 444 م.
يُذكر أنّ صيغة الوحدة الّتي توصّل إليها القدّيس كيرلّس ويوحنّا الأنطاكيّ رغم أنّها لم تكن قرارًا اتّخذه المجمع المسكونيّ الثّالث فإنّها اقترنت بهذا المجمع واعتُبرت قاعدة للأرثوذكسيّة. في هذه الصّيغة دحضٌ لمقولات أفتيشيوس الهرطوقيّة ومزاعم أصحاب بدعة الطّبيعة الواحدة، وهم الّذين ادّعوا أنّ كتابات كيرلّس تدعم موقفهم على أساس الصّيغة التّعبيريّة “طبيعة واحدة متجسِّدة للكلمة”. لكنّ كيرلّس نفسه، في أكثر من موضع، لا سيّما في رسالتيه إلى Succensus، تحدّث عن طبيعتين متّحدتين في المسيح بلا انفصال ولا تشويش ولا تغيّر (PG 77,232).