Menu Close

المال- النّهار أونلاين- الأحد في ٩ حزيران ۲٠١٩

المطران أنطونيوس (الصوري)- متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للرّوم الأرثوذكس

المال

“لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ” (إنجيل متى 6: 24). في الحقيقة الكلمة التي يستعملها الرب يسوع المسيح في اللغة الأصلية والمترجمة هنا بـ “المال” هي كلمة “مامونا” والتي تعني إله الماديّات والغنى والمال وهي مرتبطة بالسعي الجَشِع إلى امتلاك كلّ هذه.

بولس الرسول يصرِّح بأنّ “مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ” (رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس 6: 10).

مسألة المال في حياة الإنسان جوهرية لأنّ المال يظهر وكأنّه مصدر الأمان للإنسان والوسيلة التي يستطيع من خلالها تحقيق أهدافه وطموحاته والتي بدونها يرى نفسه لا رجاء له، لأنّ منطق الدنيا يقول “معك قرش بتسوا قرش”، هذا منطق المجتمع المادي الاستهلاكي الذي لا يرى في الإنسان أية قيمة سوى قيمة ما يستهلكه وما يدخّله من مال وما يقتنيه من أملاك منقولة وغير منقولة.

*           *           *

نظرة العهد الجديد للمال دقيقة ومهمّة جدًّا لأنّه الشيء الوحيد الذي وُضِع بإزاء الله في عين البشر. لماذا؟ لأنّ من يملك المال في نظر العالم هو يتحكّم بكلّ شيء وكأنّي به قادر أن يتحكّم بمصيره وبمصائر الآخَرين. من يملك المال أهمّ ممّن يملك السلطة لأنّ المال في أعين البشر، بعامّة، يجلب السلطة والمجد والسعادة ويمنح الإنسان إمكانية إطالة حياته. المسألة هي مسألة القبض على الوجود الشخصي والجماعي. المال هو وهم الحياة الأبديّة، هذا ما نراه في مثل الغنيّ الغبيّ الذي أخصبت أرضه، فقرر هدم أهرائه القديمة وبناء جديدة أكبر وظنّ أنّه قد أمَّن حياته لسنين طوال دون هم أو غم (إنجيل لوقا 12: 16 – 21)، إذ يقول الله للغنيّ: “يَا غَبِيُّ! هذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟”. إذًا، حياة الإنسان ليست من أمواله (لوقا 12: 15)، لا بل العكس صحيح أي موت الإنسان من أمواله إذا سقط في الطمع والجشع وصار همّه الشاغل زيادة مقتنياته. الإنسان يظنّ أنّه ما يقتنيه، لذلك، أوّل درب الحرية الروحيّة الانعتاق من حبّ التَّملُّك والقنية.

*           *           *

لا بدّ من استعمال المال في هذه الحياة. لكن، ينبغي التنبه إلى أنّ المال هو وسيلة لنحبّ ولنخدم لا لكي نستبدّ ونتسلّط وننتفخ. المال إله يعطي وعودًا كاذبة بالسعادة والحياة الطويلة. لا أحد يستطيع ان يضمن زيادة أيام حياته يومًا واحِدًا. الرب هو سيد حياتنا وحافظ أيامنا وعارف أزمنتنا كلّها. “بدَّد وأعطى المساكين فبرّه يدوم على الأبد …” (سفر المزامير 112: 9) هذا هو المهمّ. أمّا من يجمع المال لذاته أو يحتكره لعائلته ولا يرحم المسكين والمحتاج، أو الذي يسرق ويغتصب أموال المساكين والذين لا سلطة عندهم لمنع الظّلم فهؤلاء مصيرهم أن لا يشبعوا لا في هذا الدّهر ولا في الدهر الاتي وهذا هو جحيمهم منذ الآن وقلقهم وتشويشهم واضطرابهم وخوفهم وألمهم.

الأساس في الوجود أن نستعمل كلّ شيء لمجد الله لأنّ الرب هو مصدر النِّعَم والخيرات والبركات والحياة، “لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِذَاتِهِ، وَلاَ أَحَدٌ يَمُوتُ لِذَاتِهِ. لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ” (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 14: 7 و8). فما لله نردّه لله مع الشكر في خدمة الإنسان، وما هو لنا فلنبقه لنا! لكن هل نملك شيئًا؟! وجودنا نفسه من الله وكل العطايا الخيّرة منه تأتينا! فهل منحنا الله هذا كلّه لنشكر إلهًا آخَر عليه؟! من يعبد المال فقد اختار أن ينوجد منه وفيه وجحيمه لن ينقطع بل سيزداد يومًا بعد يوم إلى الأبد. من يعبد الله فقد ربح حياته، ومن بدّد أمواله فقد كنز لنفسه في السماوات حبًّا وحنانًا ونورًا وفرحًا وسلامًا من فوق يعيشهم منذ الآن وإلى الأبد … ولن تفتقر ذرية له بل بالبركات تحيا طالما حفظت تراث البِرّ في الحرية التي من العلى بمحبة الله في العطاء الدائم …

أنقر هنا للقراءة على موقع النّهار

مواضيع ذات صلة