Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد (6) بعد الفصح (آباء المجمع المَسكونيّ الأوّل)- العدد 23

05 حزيران 2022

كلمة الرَّاعي

مِنَ الآباء القدِّيسين إلى المؤمنين المعاصرين

“لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَكُمْ رَبَوَاتٌ مِنَ الْمُرْشِدِينَ فِي الْمَسِيحِ، لكِنْ لَيْسَ آبَاءٌ كَثِيرُونَ. لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإِنْجِيلِ.” (1 كو 4: 15)

مَن هم الآباء في الكنيسة؟ وهل انتهى زمنهم؟ ألم تعد الكنيسة تنتج آباءً قدِّيسين؟ ما هي صفات الرُّعاة في الكنيسة اليوم، وهل هي مختلفة عن صفاتهم قبلًا؟

من ندعوهم آباءً قدِّيسين هم الَّذين جاهدوا وحفظوا الإيمان القويم ودخلوا في سرّ الشركة مع الله وتكلّموا عن السّرّ الإلهيّ بما خَبِروه من حياة النّعمة وفِعْلِها فيهم إذ استناروا بنور الألوهة وعرفوا الله وكانوا ”قادرين على تجسيد خبرة الكنيسة“ (الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس، https://www.orthodoxlegacy.org/?p=1539). الكنيسة تلد الآباء الَّذين هم ”حاملون حقيقيّون لحقيقة الإعلان المحفوظ في الكنيسة“ (المرجع نفسه).

الكنيسة تلدهم بالرّوح القدس في المسيح الَّذي هو الكلّ في الكلّ وهم شهود له. الرّوح القدس لم يتوقّف ولن يتوقّف عن تقديس المؤمنين وعن منح الكنيسة والعالم آباء يحملون خبرة سُكناه فيهم ومعاينتهم لله في النّور غير المخلوق. الرّوح القدس هو حافظ الكنيسة في العالم وهو الَّذي يُنشئ آباء مستنيرين مختَبَرين قادرين على تأوين الإيمان لأناء كلّ زمان.

*          *          *

يعلّمنا الرّبّ في إنجيله: بأنّه ”لا يجعلون خمرًا جديدة في زقاق عتيقة … بل يجعلون خمرًا جديدة في زقاق جديدة“ (مت 9: 17). هذا يعني بأنّنا لا نستطيع أن نعرض تعليم الآباء بلغة عصرهم لإنسان من عصر مختلف، وبلغة بيئتهم وحضارتهم لإنسان حضارة وبيئة مختلفتين. الخبرة الرّوحيّة واحدة لأن ”الكرمة“ (راجع يو 15: 1—5) واحدة والرّوح واحد، لكنّ أهميّة الآباء تكمن في أنّهم نقلوا هذه الخبرة الرّوحيّة ومعرفة الكشف الإلهيّ لأبناء عصرهم بلغتهم. ألم يعلّمنا الرّبّ يسوع هذا حين تكلّم مع أبناء جيله بأمثلة من حياتهم اليوميّة؟!…

دور آباء الكنيسة هو أن ينقلوا خبرة معرفتهم لله ليس بالكلمة فقط بل بالعمل أوَّلًا، ولهذا فكلمتهم ذات سلطان لأنّها من ”الكلمة“ منطوقة بـ ”الرُّوح القدس“. هكذا، تصير كلمتهم كلمة الله الّتي إذا ما سقطت في أرض صالحة أثمرت ثلاثين وستّين ومئة ضعف.

ما يميِّز آباء الكنيسة أنّهم يسيرون وراء الرّبّ حاملين صليبهم مميتين إنسانهم العتيق وصالبينه مع العالم ولأجل العالم، فيموتون مع المسيح فيحيون معه وفيه وبه وله. إنّهم لهذا يعيشون ما قاله الرّسول بولس: ”مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لَا أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي“ (غل 2: 20).

*          *          *

لا شكّ أنَّ الآباء بالمعنى العميق للكلمة (كما ذكرنا أعلاه، راجع أيضًا: 1 كو 4: 15 وغل 4: 19)، هم حاملو كنز المعرفة الإلهيَّة وموهبة ترجمته حياةً وتعليمًا في خطّ العقيدة الإلهيّة الّتي حدّدتها الكنيسة المقدَّسة في مجامعها المسكونيّة بشكلٍ أساسيّ. بناءً عليه، كلّ من يعلّم في الكنيسة يجب أن يتشرَّب هذه الرّوح الآبائيّة أي أن يكون مجاهدًا لحفظ استقامة الرّأي في حياته وتعليمه وأن يكون إنسان صلاةٍ وتوبة وأن يكون قدوةً في الإيمان والعمل.

لا شكّ أنّ الآباء، بهذا المعنى قليلون، ولكنّهم فاعلون لأنّ روح الرّبّ الظّاهر في وجوههم وحياتهم هو الَّذي يشهد للرّبّ ”الكلمة“ بهم إذ هم يستشهدون يوميًّا في إنسانهم الدّاخليّ في حرب التّنقيّة ليبقوا أُمناء للمعلِّم الَّذي ينيرهم ليصيروا نورًا للعالم يستقطب العائشين في ”الظّلمة وظلال الموت“ (لو 1: 79). وهم إذ يستغرقون في الدَّهَش يحملون إلى الكنيسة ثمار معاينتهم الإلهيَّة تعزية وفرحًا وقوَّةً مسكوبةً في أقوالهم وأفعالهم ذخيرة للمؤمنين ليواجهوا بها العالم وما في العالم في سرّ الرّجاء الَّذي فيهم.

*          *          *

أيّها الأحبّاء، المطلوب من كلّ المؤمنين واحد، لكن ”مَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيرًا يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ“ (لو 12: 48). لذلك، كان على الإكليروس والرُّهبان والرّاهبات والمُكَرَّسين والمُكَرَّسات أن يلتصقوا أكثر بعِشرة الكلمة الإلهيّة وعيشها وأن يكونوا قُدوة في محبّة الله ومحبّة الآخَر وخدمته، منزَّهين عن حبّ اللَّذّات متحرِّرين من الشّهوات معتَقين من محبّة المال سالكين في التّقوى والفضيلة ظاهرة في حياتهم وأعمالهم. هذا لا يمكن أن يتحقَّق إن لم يكونوا مصلِّين حارِّين بالرُّوح مجروحين بمحبّة الله.

لا يحقُّ لهؤلاء أن يطلبوا أن يعيشوا كباقي النّاس، بل يجب أن يكونوا أيقونةً تُجسِّدُ تعليم الرّبّ يسوع وحياته لا سيّما في نقاوة السّيرة والوداعة والتّواضع والمحبّة الباذلة وغير المشروطة.

الكنيسة دومًا مخصبة وتلد لنا آباء قدِّيسين وأمّهات قدّيسات لأنّ الرّوح القدس لا يتوقّف عمله وهو يقودها، رغم ضعف البشر، لتكون دومًا أيقونة الدَّهر الآتي ونوره وفرحه هنا والآن في هذا العالم …

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

مواضيع ذات صلة