Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد (3) من الصَّوم (السّجود للصّليب)- العدد 14         

07 نيسان 2024

كلمة الرّاعي 

التَّجارب والصَّليب

”اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ

فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ“ (يعقوب 1: 2)

نطلب في الصّلاة الرَّبِّيَّة إلى الله أن لا يدخلنا في ”تجربة“ وأن ينجّينا ”من الشّرّير“. لكن، خبرة القدّيسين في الكنيسة تعلِّمنا أنَّه بدون تجارب لا يمكن للإنسان أن يخلُص، لأنّه لن ينمو روحيًّا ولن يعرف قوّة الله ولن يثبت في الإيمان. هذا ما عبَّر عنه القدّيس أنطونيوس الكبير حين قال: ”لا أحد يدخل ملكوت السَّماوات بدون تجارب. اِرفع التَّجارب فلا يخلُص أحد“.

لماذا علينا أن نُقاسي التَّجارب لندخل ملكوت الله؟ ولماذا طلب إلينا المسيح أن نحمل صليبنا ونتبعه؟ ألا يمكننا أن نسير وراء المعلِّم دون ضيقات وآلام وامتحانات؟! …

*          *          *

”إِنْ كَانَ إِثْمُنَا يُبَيِّنُ بِرَّ اللهِ، فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَلَعَلَّ اللهَ الَّذِي يَجْلِبُ الْغَضَبَ ظَالِمٌ؟ أَتَكَلَّمُ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ“ (رومية 3: 5).

الإنسان يريد منذ البدء، منذ لحظة سقوطه أن يطرح خطيئته على غيره أي أن يحمِّل الآخَر مسؤوليّتها، لا بل أن يجعلها على عاتق الله أوَّلًا، ”الْمَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ“… هكذا، كلُّ إنسانٍ ينسب مصدر خطيئته إلى الآخَر، والله هو أوّل من نحمّله أسباب خطايانا. يتهرّب الإنسان من تعهُّد ذاته لأنّه يريد أن يُسأَل آخَر عن وضعه المُزري، فيكون هو المظلوم والآخَر هو الجاني. دائمًا، يريد البشر في آلامهم أن يبقوا في جهلهم لأنّهم ينسبون الشَّرَّ إلى الخالق. هذا هو موقف اللّاإيمان، أن يُساءِل الإنسان الآخَرين عن فشله. الفشل موت والموت فشل… هذا بحسب البشر. لكنّ فَشَلَنا في صنع برّ الله حوّله المسيح إلى نجاح لأنّه ”أطاع (الله) حتّى الموت موت الصَّليب“ (فيليبي 2: 8)، وموتنا جعله حياة أبديّة إذ بالموت أمات الموت.

المقاييس للحياة والموت (مع المسيح) لا يمكن أن تكون خاضعة لمنطق الدُّنيا المحكوم من أهواء البشر في سقوطهم. كثرة خطايانا كشفت محبّة الله الّتي لا توصف ولا تُحَدّ المتجلّية على الصَّليب في المسيح المعلَّق عليه…

*          *          *

مشكلة الإنسان مع الصَّليب أنّه (أي الإنسان) لا يريد أن يتألّم رغم أنّ طريقه الّذي يُحاول فيه الهرب من الأوجاع هو بالضّبط مصدر مأساته. الحقّ صليب للملتوين والجهلاء، وأخطر الجهلاء من ظنّوا أنّهم عارفون. هنا، يصير صليب المسيح ”عثرة لليهود وجهالة لليونانيّين“ (1 كورنثوس 1: 23)، لأنّ من يطلب الآيات بروح يهوديّة يجرِّب الرّبّ ومن يريد حصر الله في منطقه البشريّ المحدود يُعقلن الإيمان.

عجائب الله لا تُحَدُّ ولا تُحصى والعقل والعلم هما عطيّة منه لخير البشريّة. المسألة بالنّسبة لإنسان السّقوط، وإن تردَّى ثوب الإيمان، هي أنّه في كلتا الحالتَين يريد أن يقبض على الله ويُخضعه لأهوائه.

الرَّبّ حرٌّ من كلّ أفكار البشر الّتي تريد حَدّه وحجزه في مفاهيم تدغدغ صنميّتهم الإيمانيّة أو عبادتهم للعلم والمنطق الدّنيويَّين. الإيمان أبعد أكثر ممّا نتصوَّر عن هذَين المنهجَين الوثنيَّين، ”لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ، هكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ“ (إشعياء 55: 9).

*          *          * 

أيّها الأحبّاء، الرَّبّ الإله صار إنسانًا، واتَّخذ كلّ ما لنا، ما خلا الخطيئة، ليُشرِكنا في ما له أي في ألوهيّته ويُحرِّرنا من ضعف الطّبيعة البشريّة بقوّته السّاكنة فينا بالرّوح القدس، ليردّنا إلى المصير الّذي خَلَقَنا من أجله. التّجسُّد الإلهيّ هو صليب العقل البشريّ الّذي إذا ما حمله الإنسان بالإيمان عرف مجد الله. المسألة الّتي تُعجِز عقل الإنسان هي كيف أنّ هذا الفاني والمعرَّض للأمراض والألم والموت يحمل في هشاشته قوّة الله؟! … مفهوم القوّة عند البشر يختلف عنها عند الله، لأنّ قوّة الله تجلَّت في حَمْلِ ألم الصَّليب حبًّا، ومشاركةِ الإنسان موته ليصير موتُ المخلّص، في صورة الضّعف، استعلانًا لجبروت العليّ بتفجير الجحيم وتحرير الأبرار حين نزل إليه.

بعد القيامة، لم يعُدِ الموت الجسديّ هو إشكاليّة المؤمن بل الموت الرّوحيّ، لأنّ الأوّل صار معبرًا إلى الحياة الأبديّة بواسطة الوحدة مع المسيح في الأسرار المقدَّسة والبذل المُحِبّ للحياة في الطاعة لله؛ أمّا الثّاني، فهو ما يحاربه المؤمن بالجهاد الرّوحيّ والحكمة الإلهيّة في الإيمان ليغلبه بقوّة القيامة المتنزّلة عليه في الرّوح القدس بالمسيح الإله.

جسد ودم الرَّبّ المُقدَّسين هما زاد الحياة الأبديّة لغفران الخطايا والتّقديس، هذا من جهة. من جهة أخرى، الحضور السّرّيّ والفعليّ الحقيقيّ للرّبّ في هذه القرابين هو خارج الفحص البشريّ العقلانيّ والعلميّ، وهذا ما يشكّل عثرة صليب لعقل المشكِّك وتحقيقًا عمليًّا لقوّة القيامة …

للمؤمن الصَّليب هو غلبةُ الحبِّ والقيامة، وللمُلْحِد الصَّليب أداة قتل الله في عقول البشر …

لكن، إيماننا أنّه ”بالصَّليب قد أتى الفرح لكلّ العالم“ …

ومن استطاع أن يقبل فليقبل …

+ أنطونيوس

متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

مواضيع ذات صلة