مخافة الله- النّهار أونلاين- الأحد ٧ نيسان ٢٠١٩
المطران أنطونيوس (الصوري)- متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للرّوم الأرثوذكس
مخافة الله
بَدْءُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبِّ” (أم 9: ١٠)
البشر، عادةً يخافون المخلوق وليس الخالق. السارق يخاف أن يراه كلب ولا يخاف الله الذي يراه. لهذا تكثُرُ الخطيئة وتزداد اذ لا يهتم البشر بالعين الساهرة عليهم… يخاف الإنسان من الإنسان اذ يعتقد أن بيد هذا الأخير أن يتحكّم بمصيره. هذا موقف الموظف أمام ربّ عمله والتابع بإزاء متبوعه أكان صاحب شأن أم مال أم سلطة…من يخاف البشر لا يُمكن ائتمانه على الحقّ، ومن كان ظالماً ومتسلّطاً على المحتاجين إليه لا يؤتمن على الحقّ ايضاً. مسألة الخوف ترتبط بالحق والباطل في جوهرها ولو اتخذت في الظاهر أسباباً أخرى كحفاظ الإنسان على ما يؤمن له معيشةً لائقة. من هنا الخوف من البشر هو قلّة ثقة بالله ونذير تفكك في الإيمان.
* * *
من أين يأتي الخوف؟!…
الإنسان الأول آدم، كان يعيش في الراحة الكاملة النابعة من عيشه في كنف المحبة الالهية، فكان مدركًا أنه محبوب ولهذا كان هو أيضًا يحب خالقه، وهذا كان مصدر أمانه واستقراره. لما سقط الإنسان بالعصيان اختفى الأمان من حياته إذ ليس له ثبات في ذاته لأن الثابت الوحيد هو الخالق. دخل آدم في الانقسام الكيانيّ فاختل استقراره لأنه صار يصارع ذاته ولم يعد يحبها. حالة الإنسان بعد السقوط هي انغلاق وانطواء على الأنا لذلك صار الإنسان رافضا لنفسه لا بل كارها لها ومدمرا بالأنانية. صار الخوف طبيعته الجديدة الثانية التي لا أمان فيها ولها. هذا كله أدى الى انقسام البشر على بعضهم البعض وخوفهم من بعضهم البعض وسعيهم للتسلط على بعضهم البعض. هذه مأساة الإنسان في كل زمان الى أن آن الأوان وتدخل الله بحسب وعده (راجع تكوين٣ وغلاطية ٤:٤-٧). في المسيحية إن الله في ابنه الوحيد المولود منه قبل كل الدهور أتى الى العالم بالتجسد من مريم العذراء والدائمة البتولية متخذا طبيعة البشر ضاما إياها الى أقنومه (شخصه) في اتحاد بلا امتزاج او اختلاط او انقسام او انفصال. هكذا في إطار الحرية النابعة من الحب اللامتناهي لله وكإنسان أعاد الإله المتجسد اي الرب يسوع المسيح إصلاح الطبيعة البشرية وتشديدها من خلال طاعته الكاملة للآب السماوي حبا وليس عن خوف او اضطراب او قهر فأعاد بهذه الطريقة الطبيعة البشرية الى وحدتها وانسجامها مع ذاتها والمشيئة الإلهية فتحرر الإنسان بالحرية التي في الحب من الخوف الكيانيّ المستحوذ عليه وصار الإنسان في المسيح يتمم الخير الذي يريده ويرفض الشر الذي لا يريده في حين كان قبلا يصنع الشر الذي لا يريده والخير الذي يريده لا يستطيع ان يتممه.
* * *
يقول الكتاب “بدء الحكمة مخافة الرب”، هذا في بداية الطريق مع الله ولكن متى تروض الإنسان بطاعة الوصية، بكامل حريته، على محبة الله وصنع مشيئته بنعمة الروح الإلهي تتجدد طبيعته اذ يتحول القلب الى مسكّن للعلي وهكذا يتم قول الرسول يوحنا الإنجيلي: ” المحبة تطرد الخوف خارجا” (رسالة يوحنا الأولى ٤:١٨). هذا نراه محقّقًا في مسيحيي القرون الاولى بخاصة حين كانوا يُأخٓذون لتأكلهم الوحوش الضارية أو ليعذبوا حيث كانوا ينطلقون بفرح وثقة إلى الاستشهاد دون أي تردّد أو خوف لأن ثقتهم بالذي خلقهم وبذل ابنه لأجلهم كانت تفوق كل ألم أو تجربة أو حاجة لأنهم كانوا يعلمون أنّه أمين وصادق في وعده بالحياة الأبدية. هذا ما علمته الكنيسة المقدسة على مرّ القرون بكل ثقة ويقين. لذا فآل القديس أنطونيوس الكبير معلم البرية والكنيسة لتلاميذه بعد خبرة طويلة من الجهاد ضد نفسه وأهوائه والأرواح الشريرة: “يا أولادي أنا لا أخاف الله لأَنِّي أُحبّه”. هذه حقيقة ترقّي الإنسان في علاقته مع الله إذ ينطلق من موقف الخوف منه بسبب الناموس الَّذِي يربيه على فحص الضمير والإقرار بالخطايا طلبًا لرحمة الله في سعي إلى الطاعة الإرادية الحُرّة إلى أن يصل لإدراك عجزه عن تطبيق الناموس فيصير الناموس بسبب الخوف الذي ؟ في النفس تجاه الله الوسيلة التي تدفع الإنسان إلى البحث الخلاص بتحنن الله.
في المسيحية، كشف الله عن ذاته حبًّا لامتناهيًا في الحقّ، فصار الحق ترجمة للحب والحب جوهر الحق. فمن يخاف الحق يرفض الحب ويسكن في الخوف لأن شرور الإنسان وخطاياه في هذا العالم تولِد الاضطراب والقلق على المصير. ومن عرف محبة الله بالتوبة الصادقة اختبر حنان الله في الحق. هكذا يبدأ الانسان حياته بمخافة الرب ولكن عشرة الله بالتوبة تكشف له حبّه المسكوب على التائب بالنعمة الالهية العاضدة لضعف المخلوق والمكمّلة لنقائصه لأجل طاعة الوصية الإلهية.
من يخاف البشر لم يعرف الله بعد، ومن يخاف الله بسبب الناموس لم يكتشف حبّه بعد، وَأَمَّا من يحب الله فقد تحرّر من البشر والناموس إذ صار ناموس الله مكتوبًا على لوح قلبه بالنعمة في الحب…