Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد (18) بعد العنصرة- العدد 41

08 تشرين الأوّل 2023

كلمة الرّاعي

لاهوت العطاء

”اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ،

كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟“ (رو 8: 32)

يعتقد البعض أنَّ العطاء هو أن يقدّم الإنسان شيئًا مجّانًا لآخرَ قد يكون محتاجًا. هذا ما يُسّمى أيضًا الصّدقة أو الإحسان، وهو عمل مبرور ومبارك، طالما كان مَعمولًا بروح الإنجيل الَّذي يقول: ”أَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً“ (مت 6: 3—4). الخَفَر في العطاء مطلوب، أي أن لا يطبّل ويزمّر النّاس عندما يصنعون صدقة (راجع مت 6: 1 و2) لكي يعرف الجميع بعطائهم. في كلّ الأحوال، مَنْ يَختار أن يصنع صدقته أمام النَّاس يأخذ أجره منهم.

العطاء مطلوب وهو ”مَغْبُوطٌ … أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ“ (أع 20: 35)، لكنّ العطاء يجب أن يكون نابعًا من القلب بفرح، لكي يكون العطاء بفرح، ”فإنَّ الله يُحبُّ المُعطيَ المتهلِّل“ (2 كو 9: 7). الفرح في العطاء ينبع من صدق المحبّة لله وللإنسان، وهو تعبير عن دخول الإنسان في سرّ إخلاء الذّات (راجع في 2: 5—11) أي في سرّ الوحدة مع الله والآخَر في المسيح يسوع الَّذي يجمع في أقنومه الألوهة الكاملة والإنسانيّة الكاملة. بكلام آخَر، مَنْ يَعيش خبرة التَّألُّه يُعطي بفرح لأنّه، بالحقيقة، قد تخلّى عن نفسه وحياته ليصير المسيح ذاته وحياته لأنّه به يحيا ويتحرّك ويوجد (راجع أع 17: 28). مَنْ يتّحد بالمسيح يتّحد بالكلّ ويصير للمسيح وليس لنفسه، ومن هنا فهو لا يكتفي بالعطاء ممّا لديه لأنّه يعرف أنّ من أعطاه ذاته حبًّا ورحمة وبذل نفسه حتَّى الصَّليب لأجله لا يستطيع أن يقابله إلَّا بالمثل…

*          *          *

أيُّها الأحبّاء، لا عطاء مسيحيًّا إلّا بذل الذّات. يتدرّب الإنسان على بذل الذّات ببذل ما لديه من المُقتنيات. يبدأ العطاء بِغَصْبِ الذّات على التّخلّي عن بعض المال وتخصيص الوقت للخدمة، وينمو بالتّخلّي عن ما نحن متعلّقون به لمن هو بحاجة إليه أكثر حتّى يصل الإنسان إلى أن يتخلّى عن نفسه أي أن تصير  حياته مبذولة على الدّوام في إِثْرِ الَّذي هو مَشبوح على الصّليب في بذل كلّيّ وعطاء مُحِبّ، لأنّ موته على الصّليب هو الوجه الآخَر لقيامته من القبر، إنّهما وجهان لعملة واحدة اسمها الحبّ الإلهيّ.

الله الآب هو مصدر العطاء لأنّه يلد الابن ويُبثِق الرُّوح العطاء، إذ يُعطي ذاته لكلٍّ منهما في سرّ  وحدة عجيبة تفوق كلّ عقل ومنطق مخلوق، وعطاء الذّات الإلهيّة هذا من الآب للابن والرُّوح القدس هو في تساوي الجوهر الإلهيّ عند كلّ أقنوم منهم. هكذا أيضًا نحن البشر، عندما نتعلّم الحبّ من الله الآب بالابن في الرُّوح القدس، لا يصير العطاء منّا تنازلًا نحو الآخَر بل تساويًا معه في الكرامة الّتي أعطانا إيّاها الله الآب في الخلق وثبّتها في ابنه المتجسّد والنَّاهض من الأموات والجالس عن يمين عظمته وحقَّقها فينا بالرُّوح القدس في الكنيسة المقدَّسة.

وعليه يكون العطاء تساويًا بين البشر في عيش كرامة صورة الله في الإنسان، وتاليًا من لا يعطي لا يتساوى مع المُحتاج الَّذي هو صورة المسيح الَّذي وحّد نفسه مع ”الإخوة الصّغار“ أيقونة إنسانيّته المَصلوبة من الَّذين لا يعرفون أن يحبّوا كما هو أحبّنا باذلًا نفسه لأجل حياة العالم…

بلا صليب العطاء في بذل الذّات لا قيامة ولا خليقة جديدة محقَّقة في الإنسان بل خسارة لنعمة الخلاص الَّتي بالمصلوب… ومن يعطي بتهلّل ويبذل حياته بفرح الشّهادة يتساوى مع القدِّيسين في المسيح ويتمجّد الله فيه…

ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

مواضيع ذات صلة