عظة راعي الأبرشيّة صاحب السّيادة المتروبوليت أنطونيوس (الصوري) الجزيل الاحترام
في دفن المطوّب الذكر المثلّث الرّحمات المتقدّم في الكهنة الخوري حبيب (عسّاف)
كنيسة ميلاد السّيّدة- قبّ الياس
الخميس في ٢٦ تشرين الأوّل ٢٠٢٣.
باسم الآب والابن والرّوح القدس، آمين.
“حيثُ أنا أكون، هناكَ أيضًا يكونُ خادِمي…” (يو 26: 12)، إنّ الكهنوت يا أحبَّة هو أسمى خدمة يُمكن لمَخلوقٍ أنْ يحصل عليها. هي أكرم ما يُمكن للإنسان أنْ يَنالَهُ من نعمة الله، لأنّ الملائكة لا تستطيع أن تتَمِّم الأسرار الإلهيَّة ولا سِيَّما سِرّ الذَّبيحة الإلهيَّة والإفخارستيّا أمّا نحن البشر فقد وَهبَنا اللهُ إتمامَ هذا السِّرّ بابنهِ وفيهِ الَّذي هو الكُلُّ في الكُلّ.
إنّ الكهنوت، يا أحبَّة، هو عطيَّةٌ من مَلَكوتِ الله، لأنّهُ استِباقٌ لمجدِ الله الَّذي استُعلِنَ في يسوعَ المَسيحِ النَّاهِضَ من بينِ الأموات والغالب الموت والَّذي هو رئيسُ الكَهَنَةِ العظيم، وهو الكاهنُ الأوْحَد الَّذي نحنُ البَشَر فيهِ وبواسطته نُتَمِّمُ الأسرار. لسنا نحن بمُتَمِّمين بل يسوع يُتَمِّم لأنَّهُ هو الَّذي صَنَعَ كلُّ شيء من أجلِ خلاصِنا، ووَهَبَنا أن نشترِك في ما لهُ ليُشرِكَنا في سِرِّ حياتِهِ الأبديَّة ومَجدِهِ الأبَدِيّ. لذلك سِرُّ الأسرارِ عندَنا هو سِرُّ الإفخارستيّا (سِرُّ الشُّكرِ الإلهيّ)، وهو تذكُّرٌ وعيْشٌ في آنٍ لسِرِّ تدبيرِ اللهِ الخَلاصيّ الّذي أتَمَّهُ يسوعُ المسيح، والَّذي استُعلِنَ على الصَّليبِ بِكَشفِ حُبِّ اللهِ غيرِ المَحدود للخليقة وللبَشَريَّة، ومِنْ ثَمَّ أقامَنا معهُ بقِيامَتِهِ وأصعَدَنا معهُ بِصُعودِهِ حتَّى يَهَبَنا ذاتَهُ في روحِهِ القُدُّوس.
والكاهِن، لذلكَ يا أحبَّة، عليه أن يكونَ صورَةً لمُعَلِّمه… أن يكونَ أيقونَة، بمعنى آخَر، للرَّبِّ الَّذي أتّمَّ سِرَّ خلاصِنا في ابنه الوَحِيد الإله المُتَجسِّد الرَّبّ يسوعَ المسيح. هذا يَعني أنَّ الكاهنَ حينَ يُختارُ مِنَ الله وحينَ تُوضَعُ اليَدُ عليهِ يَرتَقي إلى المَلَكوتِ عَبْرَ الصَّليب فيَصيرُ مُسَمَّرًا مع معلِّمِهِ لكي يَحيَا سِرَّ الحُبِّ الَّذي دَفَقَهُ معلِّمُهُ في قلبِهِ ولكي يَتجَلَّى حُبُّهُ في إماتَتِهِ للعالَم، صلبِهُ للعالَم، حتّى يَحيا المسيحُ فيهِ. هذا يَعني أنَّ الكاهِن هو إنسانٌ يَحيا خِبرَةَ المَصلوبِيَّةِ مِن خلالِ سِرِّ المحبَّةِ الإلهيَّةِ، وفي نَفْسِ الوقت، وهوَ على الصَّليب يَحيا بقوَّةِ نعمَةِ القيامَة ويَستَمرُّ في حياته يَدْفُقُ مِنْ جَنبِهِ من قلبِهِ يَدفُقُ حُبَّ الله عبرَ عَيْشِهِ لِسِرِّ الخدمَةِ بالبَذِلِ والعَطاءِ في كُلِّ لحظةٍ في كلِّ حينٍ، كما يَقولُ الرَّبُّ عن العَبدِ الأمين حينَ يأتي على غفلَةٍ ويَجِدُ هذا العَبْد جاهزًا مُستعِدًّا ليخدُمَ إخوَتَهُ الَّذينَ أُوكِلوا إليه.
لذلكَ يا أحبَّة، الكاهِن أُعطِيَ في سِرِّ الكهنوت ما هو أسمَى حتَّى من المَلائكَة، لذلكَ عليهِ أن يَحيا في هذا السِّرّ كائنًا أرضِيًّا وكائنًا مُتألِّهًا. لا يَكونُ الكاهِنُ حقًّا كاهِنًا ما لَم يكُن حَيًّا بالنِّعمَة، وثمارُ النِّعمَةِ في حياةِ الكاهِن تتجلّى بأمرَيْنِ بَسيطَيْن هما: محبّتُهُ الَّتي يُتَرجمُها بأن يكونَ مُستَعدًّا في كُلِّ حين لخدمَةِ خرافِ المسيح، وثانيًا باتِّضاعِهِ. هذان الأمران طلبَ إلينا يسوع أن نَعيشَهُما حينَ قال: “أحِبُّوا بعضُكَم بعضًا (…) ليَعرِفَ العالَمُ أنَّكُم تَلاميذي…” (يو 13: 34 – 35). وحينَ قالَ لنا: “تَعلَّموا مِنِّي فإنِّي وديعٌ ومتواضعُ القلب، فَتَجِدوا راحَةً لِنُفوسِكُم…” (مت 11: 29)، علّمنا كيف يَصيرُ الكاهِنُ مَلجَأً، يَصيرُ قلبًا مُحتَضِنًا، يَصيرُ مَطرَحًا للرَّاحَة للمُتعَبين والمُتألِّمين والمُحتاجين.
هكذا عَرَفْتُ أبونا حبيب، في هذه الفترة الَّتي كان شريكنا في الخِدمَةِ فيها. اختيرَ أبونا حبيب إلى الكَهَنوتِ في سِنٍّ مُبَكِّر. وُلِدَ أبونا حبيب في 4 آذار 1961 وتزوَّج الخوريّة هيام في 20/09/1981 في كنيسة رُقاد السَّيِّدة الزّبداني، وأنجَبا عائلَة مبارَكَة: نجيب وجورج ورنا وريتا. حصَّلَ شهادَة إعداد الكهنوت في البطريركيّة وتخرَّج سنة 1981. مِن صِغَرِهِ كان مُرتِّلًا في كنيسة الزّبداني. سيمَ شمّاسًا في تشرين الثّاني عام 1981، وكان هذا بوجود المطارنة غفرئيل (فضّول)، أثناسيوس (صليبا) وباسيليوس (سماحة). سِيمَ كاهِنًا على يدِ المطران باسيليوس سماحة في كانون الثّاني عام 1982 في كنيسة القدّيس جاورجيوس- إذرِع. رَقّاهُ سلفُنا المُثلَّث الرَّحمة المطران اسبيريدون (خوري) إلى رُتبة مُتقدِّم في الكهنة في كنيسة الرَّسول توما في قبّ الياس في تاريخ 06/10/2015. خدَمَ في كنيسة القدّيس جاورجيوس- السّويداء، وكان نائبَ المطران باسيليوس (سماحة)، وعضو في المحكمة الابتدائيّة لأبرشيَّة السّويداء، كما كان كاتبًا في المحكمة الابتدائيَّة في أبرشيَّة زحلة. كما خدم في أبرشيتنا بالإضافة إلى رعية قب الياس رعايا عمّيق ومشغرة.
هذا على صعيدِ مَسيرَتِهِ في الخدمة، فلنَقُل رسميًّا. أمّا على صَعيدِ خدمَتِهِ مع النّاس، خدمتِهِ ورعايتِهِ لخرافِ المسيحِ النّاطِقة، فهو كان الأبّ لأبناء هذه الرَّعيَّة، وليس فقط لأبناءِ الرَّعيَّة بل لكلِّ أبناءِ هذه البلدة. الكلُّ عَرَفوهُ بابتسامتهِ، بروحِهِ الطّيّبة والبسيطة والمَرِحَة، عرفوهُ بهمَّتِهِ ونَشاطِهِ عند أيّة حاجَة، وعند أيّة ضرورة، ولأيّةِ خدمة، كان رجلَ سلامٍ ومُصالَحة “طوبى لصانِعي السَّلام…” (مت 5: 9)، كان صانِعًا للسَّلام يُصلِحُ ما بين المُتخالفين، كان مُبلْسِمًا لأوجاعِ المتألِّمين، كان يَدًا تُعطي بخَفَر للمُحتاجين دون أن يَعلَم أحد إلّا الله. كان قلبًا يَستَوعِبُ ويَرحمُ ويُسامِح، ويغفِرُ للمُسيئين. كان لهذه الرَّعيَّة نِعْمَ الأبِ المُحِبّ المُضَحّي الباذِل والَّذي كان يَرضى بالقليل، كان يَحيا في الفقر الإنجيليّ، لم يكُنْ يَطلُبُ مَجدًا في هذا العالَم، لم يكُن يَطلُبُ مالًا في هذا العالَم، لم يكُن يَطلُبُ حتّى من النّاس كرامَة لأنّ كرامَتَهُ مُعطاة له مِن عندِ الله وهو كانَ يعرِف أنّ كرامَتَهُ في المَسيحِ أسمى مِن كُلِّ كرامَةٍ بشريَّةٍ.
لذلك، هذا الرّجُلُ البَسيط الإيمان أي العَميقِ الإيمان، وهنا لا بدّ من أن نوضح أن النّاس يظنُّ بأنّ البَسيطِ الإيمان هو سَطحيّ الإيمان هذا خطأ، الإنسانُ البسيط الإيمان هو الإنسان الَّذي عَرَفَ أنَّ اللهَ بَسيط، والَّذي يَعيشُ إيمانِهِ بهذا التَّسليمِ الكُلّيّ والثّقة التّامّة بالله دونَ تفذْلُك ودونَ تَشكيك ودون تذمُّر، لم يَكُن إنسانًا يتذمَّر كان يشكُرُ على الدَّوامِ، والرَّبُّ أنعَمَ عليهِ ولم يَبخَلْ عليه، لأنَّه كان صاحِبَ القلبِ الواسِع، الَّذي كان يَحتَمِلُ ضعفات الآخَرينَ ويُسامِح ويُحبّ ويَخدُم بِغَضِّ النّظّر عن مَوقفِ الإنسان الآخَر منه.
وهذا، إذا أردتُم، نوعٌ من أنواعِ الاستشهاد، إنّها شهادَةٌ بيضاء لأنَّهُ يُضَحِّي بالعالَم الَّذي فيهِ حُبًّا بالمَسيحِ. يُضحّي بمشيئته لإتمامِ مشيئة المسيح ويُضحّي براحَتِهِ لكي يَخدم المسيح. هكذا عرفتُهُ هو والخوريّة هيام الَّتي كانت كلَّ شيءٍ بالنّسبة له هي والأولاد، لكنَّها كانت يَدَيهِ وعَيْنَيه وساعِدَيْه. كانت تُرافِقُهُ في الخدمةِ، تُرافِقُهُ في العَمَل، تُرافِقُهُ في زَرعِ كلمةِ الله، لذلك أعطاهُم الله الرَّبّ عائلةً مبارَكَة، فهم يَحملون هذه الطّيبة الّتي ميَّزت أبونا حبيب، هو الإنسان الطَّيِّب الَّذي لا تستطيع إلّا أنْ تحبَّهُ، ولا تستطيع إلّا أن تقدِّرَهُ، ولا تستطيع إلّا أنْ تكرِّمَهُ لأنَّه أعطى كلُّ ما لديهِ لتَمجيدِ المَسيح، وبخاصَّة كان يُحبّ أنْ يُمجِّدَ اللهَ بصوتِهِ بواسطة التَّرتيل، وحينَ كنّا نُصلّي صلوات البراكليسي أو المَديح أو القدَّاس الإلهيّ كان يتألَّقُ في ترتيلِهِ ليمجِّدَ الله، وها نحن اليوم نقولُ له مع كاتبَ المزامير: “أرتِّلُ للرَّبِّ طولَ حياتي لأنه أحسن إليّ” (مز 13: 6)، وأكثرَ من ذلك ها هو اليوم يُرتِّلُ مع الملائكة والأبرار والصِّدِّيقين.
ألا سَكَبَ اللهُ تَعزيَتَهُ على العائلة الحبيبة، الخوريّة والأولاد، على كلِّ الأقرباء، على أبناء هذه البلدة، على أعضاء الجمعيَّة الخيريَّة الَّذينَ كانوا له أبناءً أُمناء لم يترُكوهُ لحظة ورافَقوهُ في كلِّ لحظةٍ وفي كلِّ حين. ألا سَكَبَ اللهُ تَعزيَتَهُ على كلِّ مُحبٍّ، وأنا أكيدٌ أنَّ هذه التَّعزية سوف تكون بفَيْضٍ وغَزارَةٍ لأنَّ أبونا حبيب هو اليوم مع يوحنّا الحبيب يتَّكئ على صَدرِ المُعلِّم ويشربُ ويَغتَذي مِن حَنانِهِ ليسكُبَهُ علينا بصلواتِهِ من أجلنا.
باسم صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر الكلي الطوبى والجزيل الاحترام بطريرك أنطاكية العظمى وسائر المشرق، وباسم أصحاب السّيادة، المتروبوليت الياس (كفوري) متروبوليت صور وصيدا وتوابعهما، والمتروبوليت نيفن صيقلي ممثل بطريرك أنطاكية لدى بطريركية موسكو، والأسقف موسى (الخوري) الَّذي نقل لنا تعزية صاحب الغبطة والأسقف تيودور (غندور) المعتمد البطريركي في الريو ديجينيرو، وباسم الآباء الكهنة والشّمامسة الأجلاء، والإخوة الكهنة المُشاركين معنا من الكنائس الأخرى الموجودين معنا، والرهبان والراهبات وإدارة وتلاميذ معد الرسل في قب الياس وكلّ إنسان شاركنا من رؤساء البلديّات والمخاتير وكلّ الأحبّة، وباسمي الشخصيّ نقدم التعازي للعائلة الحبيبة، وليبارككم وليعزّكم وليحفظكم ويعوّض عليكم بمحبّة أبونا حبيب الّتي أصبحنا اليوم نطلبها في الصَّلاة.
المسيح قام..!!