Menu Close

كلمة المتروبوليت أنطونيوس في لقاء الصَّلاة لأجل وحدة المسيحيّين

كاتدرائيّة القدّيس نيقولاوس– زحلة

الأربعاء في ٢٤ كانون الثّاني ٢٠٢٤.

أصحاب السّيادة الجزيلي الاحترام، قدس الآباء والشمامسة الأجلاء، الرهبان والراهبات الموقرين، أيها الأخوات والإخوة،

“9اَلْمَحَبَّةُ فَلْتَكُنْ بِلاَ رِيَاءٍ. كُونُوا كَارِهِينَ الشَّرَّ، مُلْتَصِقِينَ بِالْخَيْرِ. 10وَادِّينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ (…) 18إِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ.” (رومية 12)

إنّ دعوة الله لخليقته هي دعوة للوَحدة. هكذا خلق الله الإنسان واحدًا، “ذكرًا وأنثى خلقهم” (تك 1: 27). الإنقسام حصل في الإنسان أوَّلًا أي في داخله عندما تزعزعت محبّته لله بتشكيك الأفعوان-إبليس. لكن الله المثلّث الأقانيم وغير المنقسم لم يترك خليقته بل دبَّر خلاصًا في أوانه في “ملء الزّمان” بالابن الكلمة الإله المتجسِّد، الإله التّام والإنسان التّام، حيث في أقنوم (Hypostase) الكلمة اتّحدت الطّبيعتان الإلهيّة والبشريّة بدون امتزاج أو اختلاط أو انفصال أو انقسام. فأعاد الخالق الوَحدة لخليقته على الصّعيد الداخلي بين الرّوح والجسد، وعلى صعيد العلاقة مع الله إذ اتّحدت الألوهة بالطبيعة البشريّة. وهذا هو الخلاص أن نقتني الله فينا بالنّعمة الإلهيَّة غير المخلوقة فنشابه الله أي نتألّه ونصير خالدين في النفس والجسد باتّحادنا بالثالوث القدوس في الكنيسة – جسد المسيح بنعمة الروح القدس.

* * *

في استقبال المثلث الرحمات والمطوّب الذّكر البطريرك إغناطيوس الرابع لقداسة البابا يوحنا بولس الثاني سنة 2001، قال غبطته لقداسته:

«ان التجارب جعلتنا ندرك أيضاً ان من يجاهر بالايمان الحقيقي يحمل الكنيسة في داخله، بل يصير هو نفسه الكنيسة. بالتالي ليس الدفاع عن استقامة الرأي حكراً على كرسي رسوليّ معين. الكنيسة وحدها هي القادرة على ان تكون ضمانة لصحة الكلمة وتأصّلها في الروح. هكذا نفهم ايمان الشهود الأوائل وايمان كنيسة الالفية الأولى الواحدة. هذا الايمان بالنسبة لنا هو المكيال الذي به نكيل كل تطور لاحق. رغم كون الارثوذكسيين غير مستحقين، فإن الكنائس الارثوذكسية تعي ان تعليمها مطابق لتراث الآباء ولايمان المجامع المسكونية. اننا نعتقد اذاً، وبكل تواضع، ان الكنيسة التي أسسها المسيح ما تزال باقية بكل ملئها في الكنيسة الارثوذكسية”.

هذا الكلام الجريء صادر عن محبّة ورغبة حقيقيَّة بالسعي لوحدة المسيحيّين عبر العودة إلى “الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ” (يهوذا 1: 3). في التاريخ جروح كثيرة بين المسيحيّين ومحاولات عديدة لإعادة الوَحدة فيما بينهم، لكنّها باءت بالفشل إذ سلكت طرقًا لا تتجلَّى فيها المحبَّة الإنجيليَّة بل تستدرج المؤمنين من خلال ضعفاتهم وضعف الرعاية في كنائسهم.

نحن نجتمع اليوم ههنا لنرفع صلوات قلبيّة صادقة إلى الرّبّ حتّى يهبنا أن نحبّ بعضنا البعض محبّة صادقة بلا رياء وأن نطلب حقّه المُعلَن في ابنه لخلاص البشريّة ونشهد لمسيحه أنّه هو “المخلّص” الوحيد للخليقة ونطلبه في كلمة وَحيِه غير المتغيِّرَة ولا المتحوِّرة بل الثابتة إلى الأبد.

في فهمنا أنّ الإيمان لا يتغيّر ولا يتطوّر وأن الكنيسة ثابتة في خبرة عيشها لإيمانها الواحد وهي حيّة بتراثها وتقليدها الحيّ المُعبّر عنه في عقائدها وتعاليم آبائها والمُحرَّك بالروح القدس والمنطوق به في كلّ مكان وزمان بلغة العصر والإنسان.

* * *

غاية لقاءاتنا المسيحيّة المشتركة هذه، ليست هي الحوار اللاهوتي والعقائدي، بل البحث في الشهادة المشتركة للمسيح القائم من الموت في عالم اليوم. وفي هذا الإطار قال المثلث الرحمات والمطوّب الذكر البطريك إغناطيوس الرابع للبابا يوحنا بولس الثاني أثناء استقباله لقداسته في الكاتدرائية المريمية في دمشق في أيار ٢٠٠١:

“لا يُرى سلام الانسان الداخلي الا من خلال اللطافة الإنجيلية. ان اللطفاء لن يكتفوا بأن يرثوا فقط ملكوت السماوات. بل عليهم ان يكشفوا الملكوت للعالم. بعد قرون عديدة من المجازر والتكفير من كافة الاشكال ورفض الآخر، فإن الجماعة المسيحية مدعوّة لأن تُجسّد رسالة يسوع اكثر فأكثر من اجل الفقراء: لا الافراد فقط، بل وكل الشعوب الفقيرة. يجب علينا ان نجد الكلمات والوسائل الملائمة من اجل ان نُذكّر الامم الغنية بضرورة توزيع الممتلكات الارضية لنيل ملكوت السماوات. بهذا سيكتشف المحرومون ان وجه الله انكشف قبل اكتمال الملكوت. الكل لله. ليس العالم الا الوليمة التي يدعو اليها كل ابنائه دون أي إقصاء لأحد. يجب على المسيحيين، على غرار معلمهم، ان يغسلوا أرجل كل الناس دون النظر الى دينهم أو الى عِرقهم. اننا مدعوون الى ان نمسح دموع كل الذين يبكون. علينا ان نقوم بهذه المهمة معاً. انها تشكل شهادة قوية الى جانب الشهادة التي تحاول كل كنيسة من كنائسنا ان تحملها في حضارة البلاد حيث تعيش…”

ما أسماه البابا فرنسيس في زيارته إلى بلغاريا “مسكونية الفقراء” هو ما سبق أن دعا إليه البطريرك إغناطيوس الرابع. وهذه أهمّ شهادة نستطيع القيام بها معًا في هذه البلاد لأجل إظهار حبّنا للمخلِّص وطاعتنا له وشهادتنا لأجله ووَحدتنا كمسيحيِّين. نتألّم للانقسام الحاصل، ونصلّي لكي يعيد الرّبّ وَحدة شعبه في كنيسته الواحدة الجامعة المقدسة الرسوليّة. لكن، إلى أن يأتي ذلك اليوم الّذي فيه المسيحُ ” يَجْمَع أَبْنَاءَ اللهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ” (يوحنا 11: 52) على المسيحيين أن ينفتحوا على بعضهم البعض، وأن يعملوا سويّة لأجل الحفاظ على كرامة الإنسان وإنسانيّته في عالم بات فيه الشّذوذ عن الطبيعة طبيعيًّا والطبيعة شذوذًا والباطل حقًّا والحقّ باطلًا، وايضًا من أجل محاربة الفقر والقهر والظلم والعنصرية . الاختلاف بين المسيحيِّين لا يجب أن يمنعهم من العمل على غلبة الحقّ والخير والسلام بإزاء الكذب والشّرّ والحروب، حتّى تتجلّى محبّة الله خدمة للبشريّة وتعزية المحرومين والمعذبين في الأرض فينظروا وجه الله المتحنن في شهادة المسيحيّين…

والسّلام!

مواضيع ذات صلة