Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد بعد عيد الظّهور الإلهيّ- العدد 1

07 كانون الثّاني 2024

كلمة الرّاعي

سرُّ الله وسرُّ الإنسان

قَبْلَ يسوع المسيح كانت معرفة الله ظلِّيَّة ومستترة في الرُّموز المُستَعْلَنَة لأصفياء الله وفي الخليقة. عرفنا الله ثالوثًا في التَّجسُّد وظهور الإله الإنسان لنا. في معموديّة يسوع على يد يوحنّا المعمدان ظهر الآب شاهدًا للابن بالصَّوْت والرُّوح القدس بهيئة حمامة والمعمدان أعلن ”هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!“ (يو 1: 29).

قال بيلاطس لليهود ”هوذا الإنسان“ (يو 19: 5) مُشيرًا إلى يسوع الحامل إكليل الشَّوْك على رأسه واللَّابس ثوب الأرجوان الَّذي ألبسوه إيّاه استهزاءً بملوكيّته، ليشير بدون أن يعلم أنَّ هذا ”الإنسان“ (O Anthropos) هو الإنسان الحقّ وأصل كلّ إنسان ومصدره وغايته. لا إنسان حقّ إلّا يسوع المسيح ولا إنسانيَّة أصيلة وحقيقيّة على صورة الله خارجه. من يريد أن يصير إنسانًا عليه أن يتشبّه بيسوع أي أن يتّحد به. في الحقيقة صــورة الله في الإنـــــــــــــــــســــــــــان هي بذرة ”الكلمة الإلهيّ“ (Logos Spermatikos) فيه.

سرُّ الله (the mystery of God) لا يُدرك بالعقل بل يُكشَف. العقل يمكنه أن يستدلَّ على الخالق من خلال خليقته، لكنّه لن يتمكّن من معرفته حقيقة إلّا بالكشف (Revelation) في القلب من خلال سرّ الاتّحاد به بالنِّعمة في المسيح….

* * *

سرُّ ذبيحة الله استُعلِن في المذبوح لأجل خطايانا على الصَّليب، والَّذي ظهر معتمِدًا في مياه الأردن رمزًا لموته وقيامته. الصّليب كان حاضرًا في المياه رمز الموت والحياة في آن، والآب كان ظاهِرًا في الابن الذّي شهد له قائلًا: ”هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ“ (مت 3: 7) لأنّ الآب يُستعلَن في الابن بواسطة الرُّوح القدس لطالبيه.

سرُّ الله هو سرّ الوَحدة والشَّركة، سرُّ عطاء الذّات الكلّيّ من الآب للابن وللرُّوح القدس، وسُكنى الابن والرُّوح في الآب، واستقرار الرُّوح في الابن والابن في الرُّوح. من هنا، يتّحد الإنسان بالله الآب في الابن بنعمة الرُّوح القدس، ونعمة الرُّوح القدس هي الّتي تجعل الإنسان عضوًا في جسد المسيح-الكنيسة الّتي فيها يسكن الرُّوح وبها يسكن روح الله في الإنسان من خلال الأسرار المقدَّسة فيتّحد بالابن الَّذي يكشف له الآب، ”اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ“ (يو 14: 9) وذلك لأنّه لا أحد ”رَأَى الآبَ إِلاَّ الَّذِي مِنَ اللهِ. هذَا قَدْ رَأَى الآبَ” (يو 6: 46).

سرُّ معنى حياة الإنسان هو سرُّ الله، لأنّ الله خلق الإنسان ليعيش دون موت أي حياة أبديَّة، لكنّ انفصال الإنسان عن الله بالمعصية أي برفض محبّة الله له بسبب أنانيّته جعله يخسر النّعمة الإلهيَّة التّي هي حياة الله المُعطاة للإنسان، لذلك أتى المسيح ليعيش سرّ المحبّة الكاملة ويكشفه لنا ويهبنا إيّاه من جديد فيه بالرُّوح القدس، ليردّ الإنسان إلى حقيقته الجوهريّة الّتي خُلق عليها ويمنحه تتميم دعوة الله له. يسوع تمّم مشروع الله وكشف لنا طريق الحياة الأبديَّة: ”وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ” (يو 17: 3)…

* * *

أيُّها الأحبّاء، يسوع المسيح أتى ليجدِّد طبيعتنا ويعيد خلقنا بإيلاده لنا من ”الماء والرُّوح“ (يو 3: 5). هو نزل المياه ليقدٍّسها ويُجدِّد طبيعتها والإنسان والكَوْن من خلالها. فالله الآب قد وهبنا ملكوته ”لَا بِأَعْمَالِ بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ خَلَّصَنَا بِغَسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوح الْقُدُسِ، الَّذِي سَكَبَهُ بِغِنًى عَلَيْنَا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ مُخَلِّصِنَا“ (تي 3: 5 و6).

اليوم، نحن الّذين أُعطينا نعمة المعموديَّة علينا أن نحيا بموجبها. ”لأَنَّنَا كُنَّا نَحْنُ أَيْضًا قَبْلًا أَغْبِيَاءَ، غَيْرَ طَائِعِينَ، ضَالِّينَ، مُسْتَعْبَدِينَ لِشَهَوَاتٍ وَلَذَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، عَائِشِينَ فِي الْخُبْثِ وَالْحَسَدِ، مَمْقُوتِينَ، مُبْغِضِينَ بَعْضُنَا بَعْضًا“ (تي 3: 3)، أمّا الآن فلا نستطيع أن نكمّل في طريقنا السّالفة بل علينا أن نقبل التّجديد في الرُّوح القدس المنسكب علينا بالمسيح لكي نسلك كأبناء الملكوت في العالم ونكون متغيِّرين عن عتاقتنا وحاملين حياتنا الجديدة في المسيح نورًا لخلاص العالم.

على المسيحيّين أن ”يَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِكُلِّ عَمَل صَالِحٍ، وَلاَ يَطْعَنُوا فِي أَحَدٍ، وَيَكُونُوا غَيْرَ مُخَاصِمِينَ، حُلَمَاءَ، مُظْهِرِينَ كُلَّ وَدَاعَةٍ لِجَمِيعِ النَّاسِ“ (تي 3: 1 و2). هذا ما أتى يسوع ليهبنا إيّاه فيه، فمعموديّته هي لكي يقدِّسنا ويطهِّرنا بواسطة ”غسل الماء بالكلمة“ (أف 5: 26). نصير ”خليقة جديدة“ (2 كو 5: 17) بولادتنا في المسيح من الماء والرُّوح ونسلك في ”جدّة الحياة“ (رو 6: 4) باستمرار غسلنا وتطهيرنا بعيش كلمة الله وحفظها أساسًا لحياتنا في التَّوبة والصَّلاة والتَّضحية والعطاء وأعمال البّرّ واقتناء الفضيلة…

ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

مواضيع ذات صلة