المسيحيّة والأخلاق– النّهار أونلاين- الأحد في ٩ كانون الأول ۲٠١٨
المتروبوليت أنطونيوس (الصوري)- راعي أبرشيّة زحلة وبعلبك وتوابعهما للرّوم الأرثوذكس
المسيحيّة والأخلاق
الأخلاق هي مجموعة القيم والمبادئ والصفات التي تحكم حياة الإنسان وتُقاس بناء عليها أعماله إذا كانت صالحة أو طالحة. الأخلاق تتأثَّر بالدين والثقافة والمجتمع. لكلّ دين أخلاقه، كما لكلّ ثقافة ومجتمع. من هنا ليست الأخلاق واحدة، فما يكون مقبولًا في الغرب، على سبيل المثال، قد لا يكون مقبولًا في الشرق، وما هو متعارَفٌ عليه في مجتمع معيَّن مرفوضٌ ربّما في مجتمع آخر، والشرعيُّ في دين محدَّد مخالِفٌ للناموس في دين آخَر، والقانونيّ في بلد معيَّن يُحكم عليه في دولة أخرى … إذًا، لا يوجد منطَلَقات واحدة للأخلاق، بالضرورة، بين الأفراد والمجتمعات والمناطق والبلدان والقارات والأديان والفلسفات، كما أنّ المبادئ الأخلاقيّة تتغيَّر مع الزمن حتى، أحيانًا، المرتبطة منها بالأديان. عادة، كلّ بيئة مختَلَطَة تتشكَّل فيها الأخلاق من التناضح بين الأديان والثقافات والتقاليد والفلسفات، وتكون نتيجة هذه الأمور القوانين التي ترعى حياة المواطنين في دولة معيّنة. من هنا، فالقوانين في الدول ذات الطابع الديني والمستوحاة من دين معيَّن تختلف عن القوانين في الدول ذات الطابع العلماني، وهذه القوانين بدورها قد تكون مخالفة للأخلاق في دين معيَّن أو مجتمع أو بيئة محدَّدَين.
استنتاجًا، لا يمكننا القول بوحدة المبادئ الأخلاقيّة بسبب تعدُّد المصادر لهذه المبادئ. ممّا لا شكّ فيه، أنّ بعض الأديان والفلسفات والتقاليد أثَّرت بشكل أكبر أو أقل في تحديد الأخلاق في بيئة أو دولة أو منطقة أو جماعة معيّنة وهي في أساس الحضارات الموجودة اليوم وقوانين الدول والعالم.
* * *
في المسيحيّة الأرثوذكسيّة لا تُتعاطى الحياة أخلاقيًّا لأنّ الأخلاق ليست هي غاية الحياة ولا هي طريقها ولا مبدؤها بل الله نفسه. “أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ” (إنجيل يوحنّا 14: 6) يقول الرب يسوع المسيح. مسيحيًّا الحياة هي الله والله هو الحياة (راجع: سفر تثنية الاشتراع الاصحاح 30: 15 – 20) هو المبدأ والغاية “الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ، الأَوَّلُ وَالآخِرُ” (سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي 22: 13). الحياة هي “الحبّ” فـ “اَللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِي اللهِ وَاللهُ فِيهِ” (رسالة يوحنا الرسول الأولى 4: 16). إذًا، لا أحد يستطيع أن يحبّ ما لم يعرف الله (راجع: 1 يو 4: 8)، من يعرف الله يحبّه ومن أحبّه يحفظ وصاياه (راجع: 1 يو 5: 3).
المسألة في المسيحيّة هي الوصيّة الإلهيّة وليست الأخلاق، فهذه الأخيرة هي نتيجة حتميّة لطاعة الكلمة الإلهيّة، أي أنّ الأخلاق مصدرها إلهيّ وبالتالي غير محدود ومحدَّد كونها تصدر جميعا عن الوصيّة. وما هي الوصيّة يا ترى في المسيحيّة؟ “وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا” (إنجيل يوحنا 13: 34). المسيح يسوع مات على الصليب لأجل محبّته للبشر فخلَّصهم من موت الروح والجسد ومنحهم حياة جديدة ورؤية متجدِّدة للوجود كما شاءه الله عندما خلق العالم والإنسان. هذه الحقيقة الجديدة-القديمة للوجود وللحياة أساسها العيش بنعمة الله أي أنّ الإنسان يسعى ليتشبّه بخالقه إذ هو مخلوق على صورته (أنظر تكوين 1: 26 و27). فلا أخلاق في المسيحيّة سوى ما نسمّيه الفضائل التي هي عيش مشيئة الله أي أنّ الإنسان يتمِّم في كلّ حين وصيّة المحبّة الإلهيّة بالتآزر بين مشيئته وإرادته وجهاده مع نعمة الروح القدس. الأخلاق المسيحيّة هي تخطّي البَشَرَةَ وشهواتها وضعفاتها وأهوائها وعقدها والعيش في “حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ …” (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 8: 21).