Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد (21) بعد العنصرة- العدد 44

29 تشرين الأوّل 2023

كلمة الرّاعي

المؤمن وشؤون الأرض

”أتيتُ لتكون لهم الحياة ولتكون أفضل“ (يوحنّا 10: 10). هذه غاية التَّجسُّد، أن ينتقل البشر إلى حياةٍ أفضل من الَّتي حصلوا فيها ببُعدهم عن الله ورفضهم له كمصدر لحياتهم. الانفصال عن الله أدَّى إلى تباعُد البشر عن بعضهم البعض، لا بل إلى اعتبار كلّ إنسان الآخَر تهديدًا له، ودخول الخوف والشَّكّ في العلاقات بين البشر كعنصرَين أساسيَّين، سواء بالوعي أو باللّاوعي، وفي نظرتهم إلى بعضهم البعض …

*          *          *

لماذا قتل قايين هابيل؟! … لماذا استعبد الرُّؤساء شعوبهم واغتصبوا حقوقهم؟! … لأنّهم تركوا الرَّبّ! … عندما طلب بنو إسرائيل ملكًا عليهم من صموئيل النّبيّ واستاء النّبيّ من هذا الأمر أجابه الرَّبّ قائلًا: ”اسْمَعْ لِصَوْتِ الشَّعْبِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُونَ لَكَ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَرْفُضُوكَ أَنْتَ بَلْ إِيَّايَ رَفَضُوا حَتَّى لاَ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ …“ (1 صموئيل 8: 7). ولكن ما هو ثمن خيار الشّعب هذا؟ ”هذَا يَكُونُ قَضَاءُ الْمَلِكِ الَّذِي يَمْلِكُ عَلَيْكُمْ: يَأْخُذُ بَنِيكُمْ وَيَجْعَلُهُمْ لِنَفْسِهِ …“ (أنظر: 1 صم 8: 11—18). العبودِيَّة للمَخلوق، هذه هي النّتيجة. لماذا؟ لأنّ الله رأى الأرض: ”فَإِذَا هِيَ قَدْ فَسَدَتْ، إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى الأَرْضِ …“ (تكوين 6: 12). كلامٌ مُخيف، هذه الإطلاقيّة الَّتي يتحدَّث بها الوَحي الإلهيّ في سفر التّكوين. لا يوجد بشر خالٍ من الفساد، لأنّ الفساد ثمرة الخطيئة، ولا يوجد بشر خالٍ من الخطيئة. لذلك، بشارة الرَّبّ يسوع كانت: ”قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ …“ (مرقس 1: 15).

*          *          *

بناءً على ما سبق، يعرف المؤمن ما في الإنسان (راجع: يوحنا 2: 25) لأنّه يعرف نفسه خاطئًا، ويدرك كم هو صعبٌ الصّراع مع الذّات ضدّ الخطيئة الكامنة في تعلُّق الإنسان بنفسه كمحورٍ للوُجود عِوَضًا عن الله. مِنْ هنا، ينطلق المؤمن من صراعه مع ذاته في سبيل عَيْشِ البِرِّ الّذي بطاعة الكلمة الإلهيَّة وهو متيقِّن أنّه غير قادر على الغلبة بدون قوّة المسيح الّتي بنعمة الرُّوح القدس. من لم يدخل في هذه الحرب اللّامنظورة الّتي تدور رحاها في القلب والكيان الدّاخليّ الخفيّ ويغلب بالأمانة لله أو على الأقلّ يرى ضعفه ومعطوبيّته وحاجته الجوهريّة لله لا يستطيع أن يتعاطى العالم وشؤون الأرض باستقامة بنّاءة، لأنّ المبدأ الأساسيّ للمؤمن في كلّ عمل هو التّالي: ”إِنْ لَمْ يَبْنِ الرَّبُّ الْبَيْتَ، فَبَاطِلًا يَتْعَبُ الْبَنَّاؤُونَ. إِنْ لَمْ يَحْفَظِ الرَّبُّ الْمَدِينَةَ، فَبَاطِلًا يَسْهَرُ الْحَارِسُون …“ (مزمور127: 1). كلّ شيء للمؤمن من الله يأتي وبه يُتَمَّم وإليه يؤول، هذا معنى ”أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ ’يَقُولُ الرَّبُّ الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ …“ (رؤيا يوحنّا 1: 8). بدون الله لا تتحقَّق حياة الإنسان! … مَنْ لم يفهم هذا الأمر سيبقى تائهًا في بحر العمر يخبّط خبط عشواء مبدِّدًا طاقاته وحياته لأجل العدم! …

*          *          *

انطلاقًا من حبِّ الخالق للإنسان، ومن قيمة هذا الأخير الّتي أُعطيتْ له كَوْنَه على صورة الله وكَوْن ابن الله اتَّخذه حين تجسَّد ليرفعه ويوصله إلى هدف وجوده وهو أن يصير على ”مثال الله“، يتَّخذ المؤمن العالم كما اتَّخذه سيّده الّذي وحّد نفسه مع ”صغار“ (راجع: متّى 25: 31—46) هذا العالم ليكون هو خادمًا لهم في محبّيه. تصير ”الحياة أفضل“ حين يُنصَف المسكين ولا يعود من محتاج، حين يُغلَب الخوف من الآخَر بالحبّ (راجع: 1 يوحنّا 4: 18)، وحين تُبنى الثّقة بين البشر بتعهُّد الإنسان كلّ إنسان بغضّ النّظر عن دينه ومعتقداته وفلسفاته في إطار الحقّ والنّظرة الأنطولوجيّة المسيحيّة للآخَر سواء آمن هذا الآخَر بها أم لم يؤمن …

*          *          *

واجبنا كمسيحيّين أن نبني الإنسان لنبني المجتمعات والأوطان. القوانين الوضعيّة رهن لكيفيّة تعاطي البشر معها، الأساس ليس هو القانون مع ضرورته الّتي لا بديل عنها في العالم السّاقِط، فالقانون وُضِع ليكشف الخطيئة،  ولكنّ البِرّ يأتي بالنّعمة الّتي من فوق الّتي تغيّر كيان الإنسان وتخلقه من جديد بالموت عن روح النّاموس والعيش في سرّ المحبّة الباذلة.

لهذا أتى المسيح، لتكون الكنيسة أيقونة ملكوت الله والحياة الجديدة في الحبّ المبذول لتشدَّ العالم إلى سرّ الفرح الحقيقيّ …

نحن كمؤمنين مسؤوليّتنا أمام الله أن نكون شهودًا لتجسُّده أي لحضور ملكوت الله في العالم بمبادئنا بأفكارنا بأقوالنا بأعمالنا بحياتنا بتعهّدنا للإنسان ليسود الحبّ … ويصير الله ”الكلّ في الكلّ“ (1 كورنثوس 15: 28) في الوطن وفي كلّ صقع من أصقاع الدّنيا …

 ومن له أذنان للسَّمع فليسمع …

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

مواضيع ذات صلة