اللّامَنطِق وطريق الحياة الأبديّة- النّهار أونلاين- الأحد في ١٧ آذار ۲٠١٩
المطران انطونيوس (الصوري) متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للرّوم الأرثوذكس
اللّامَنطِق وطريق الحياة الأبديّة
“مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ” (إنجيل يوحنا 12: 25).
هذا كلام غير مقبول بمنطق الدنيا. لا بل قد يعتبره البعض مازوشيًّا (المازوشيّة هي طلب اللذة من خلال تعذيب النفس). كلّ المسألة تتعلَّق بالنظرة إلى الغاية من الحياة وحقيقة وجود الله، وبالتالي هل تنتهي الحياة بالموت أم للإنسان مصير آخر غير الزوال؟! …
في منطق العالم أن من يحبّ ذاته يحافظ عليها، ويسعى ليعيش بأفضل طريقة ممكنة ولأطول فترة من الزمن، محاولًا الابتعاد عن الآلام والأمراض للتنعّم بهذا الوجود. العالم، اليوم، يحاول إطالة عمر الإنسان بشتّى الوسائل، لا بل السعي قائم للحصول على الخلود. هذا كلّه باطل يقول كاتب سفر الجامعة سليمان الحكيم. حكمة هذا العالم تقتضي أن تثبِّتَ وجودَكَ فيه بالإنجازات والقنية، هذا أيضًا باطل. الكلّ إلى زوال، هذا بالمنطق العلميّ. الكلّ إلى خلود، هذا بالمنطق الإيمانيّ. خلود الإنسان في نظر العالم هو بما يحقّقه ويترك فيه أثرًا لذاته. لكن، العالم سيزول والعلم سيبيد والانسان سيموت، فقط “الْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ” (سفر نشيد الأنشاد 8: 6) لا بل هي أقوى من الموت لأنّه (أي الموت) لا يستطيع أن يمنعها من اختراقه نحو المحبوب.
وجودنا مرتبط بوجود الله، لأنّه خارجًا عن هذه الحقيقة، التي تفرض بحدّ ذاتها استمراريّة وجود الإنسان كون الله ثابت الوجود، لا معنى للحياة. إذا كانت حياتنا محصورة بهذه البسيطة فنحن أتعس الناس، حينها “فَلْنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ لأَنَّنَا غَدًا نَمُوتُ!” (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 15: 32).
* * *
كيف يبغض الإنسان نفسه في هذا العالم؟! عندما يفرغ ذاته من أناه (Ego). منطق العالم استهلاكيّ يجعلك تركض وراء استهلاك ذاتك في استهلاكك للآخرين وللمادّيّات، هذه هي الأنانيّة التي هي هُوَّةٌ لا تُردَم وجوف لا يمتلئ، إنّها كـ “الثقب الأسود” (Trou noir) الذي يبتلع مجرّات ولا يشبع … الاستهلاك لا يقدّم سوى الألم الذي لا يتوقّف إلَّا للحظات حين يتمّ التجاوب مع مسبّباته في سعادة أو لذّة عابرة. لا يمكن للإنسان أن يجد الراحة خارج الحبّ الإلهيّ لأنَّ كلّ ما عدا ذلك لا يُشبِع جوع الإنسان إلى الحنان اللانهائيّ الَّذي يهبه إيّاه الباري كون الإنسان مخلوق على صورة الله. بشريًّا نتذوّق شيئًا من هذا الحبّ عبر علاقاتنا البشريّة الصادقة والأمينة، لكن تبقى المحبّة البشرية مشوبة بالأنانيّة وتطلب جوابًا بالمقابل، لأنّ الإنسان ليس حُرًّا أو بالأحرى متحرِّرًا من ذاته بعد. أمَّا خبرة الحبّ الإلهي فتنسكب على الإنسان بالنعمة غير المخلوقة في النور السرمدي لتملأه حبورًا لا يمكن التعبير عنه، هذا ما اختبره بولس الرسول حين اختُطِف إلى السّماء الثالثة (أي الفردوس) فقال: “مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ …” (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 2: 9).
* * *
إذا كان الإنسان لا يعمل لحياته الأبديّة فهو يهدر حياته في هذا العالم. الإنسان أعظم من أن يكون مخلوقًا لينتهي مأكلًا للدود ورائحة كَرِهة في مساحة مترين مربّعين. لماذا يتوق الإنسان إلى العظمة والمجد والسعادة والفرح والتَّسَيُّد لأنّ صورة الله (L’image de Dieu) فيه تشدّه إلى المثال الإلهيّ (Ressemblance de Dieu) إلى أن يتشبّه بالله في صفاته المكنونة فيه بالقوّة (Par potentiel) والمُفَعَّلَة والمُحَقَّقَة بنعمة الروح القدس. توق الإنسان إلى ما هو أعظم منه وإلى الألوهة ليس شرًّا، بل صار كذلك لمّا عبد الإنسان نفسه وتمحور حولها وأراد أن يجعل الكون يدور في فلكه هو لا أن يكون هو في فلك الله مع الخليقة.
أيها الإنسان، لا تنسى أنك عدمٌ كونك زائل، فقط الله يجعلك موجودًا وخالدًا. اللامنطق في الإيمان هو باب الحياة الأبديّة، ومنطق العالم هو باب الهلاك والفناء …