الكَذِبُ- النّهار أونلاين- الأحد في ١٩ أيّار ۲٠١٩
المطران أنطونيوس (الصوري)- متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس
الكَذِبُ
” إِبْلِيسُ، (…) كَانَ قَتَّالًا لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ” (إنجيل يوحنا 8: 44).
الله حقّ وصدق، ” لِيَكُنِ اللهُ صَادِقًا وَكُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِبًا” (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 3: 4). لا خلطة بين الحقّ والباطل، والكذب سلوك في البُطْلِ. من يكذب ليس من الله بشيء بل يصير ابن إبليس. لا يوجد خُلْطَةٌ بين ما لله وما لإبليس. من كان لله فهو في الحقّ وبه وله، ومن كان في الكذب فهو لإبليس وبه وله.
* * *
الكذب هو أن يخبر الإنسان عن شيء بخلاف الحقيقة التي يعلمها، ويكون إما بتزييف الحقائق جزئيًّا أو كلِّيًّا أو خلق روايات وأحداث جديدة، بِنِيَّةِ وقَصْدِ الخداع لتحقيق هدف معين قد يكون مادِّيًّا و/أو نفسيًّا و/أو اجتماعيًّا و/أو سياسيًّا … وهو عكس الصدق. لذلك، ليس الكذب مسألة أخلاقيّة وحسب، بل هو بالأحرى مسألة روحيّة مرتبطة بحقيقة الإيمان بالله وبالمحبّة ويوم الحساب. المؤمن لا يستطيع أن يسلك في الكذب أو يقبل به أو يبرره. من يكذب لا يعترف بالله. إنّه يخدع نفسه. هو لا يحبّ إلّا ذاته، ومع ذلك بكذبه يخرب نفسه لأنّه يبنيها على الباطل والزيف …
حين ينتفي الإيمان لا يعود للإنسان من رادع داخلي تجاه أيّ شرّ، حينها يسلك بالمكيافليّة (Machiavellianism) وبالرأي القائل: “الغاية تُبَرِّر الوسيلة”. أحد أهمّ أسباب الكذب هو الوصوليّة التي هي تَقَرُّب إلى الآخَرين لتحقيق منفعة أو ابتغاء النَّجاح في العالم مَهْما كلَّف الأمر … من أسباب الكذب أيضًا الخوف من المواجهة والإقرار بالخطأ … للكذب أسباب كثيرة ولكنّها كلّها مرتبطة بالضعف والرياء وعدم الاستقامة الداخليّة. الكذَّاب هو من تبنّى الكذب منهج حياة ومبدأ له.
قد يضعف الإنسان أحيانًا ويخاف، أو قد يقع تحت عبوديّة نزوة أو شهوة ويسقط في الكذب. السقطة بحدِّ ذاتها لا تجعل الإنسان كذَّابًا إلّا إذا تبنّاها طريقًا دائمًا لحياته. من يبرِّر لذاته الكذب يدخل في ظلمة الـ “لا-إيمان” ولو كان في الظاهر من الممارسين لطقوس وشعائر وتعاليم دينه الأخلاقيّة.
* * *
” يَا بَنِي الْبَشَرِ، (…) حَتَّى مَتَى تُحِبُّونَ الْبَاطِلَ وَتَبْتَغُونَ الْكَذِبَ؟ …” (سفر المزامير 4: 2) يصرخ داود النبيّ والملك متألِّمًا من ظلم الكذبة. الكاذب ظالم هو، لأنّه لا يقول الحقّ بل يشهد بالباطل. من يحوّر الحقّ شيطان، ومن يتمظهر بالصدق عبد لإبليس. لن يكون للبشر سلام وأمان ما لم ينبذوا كلّ مسلك معوجّ وكلّ رأي ظالم وكل عمل كاذب. لن يرى العالم عدلًا ما لم يحكم الله في القلوب. طالما أنّ وصايا الله مرفوضة من أهل الدنيا سيبقى الألم والظّلم يسودان العالم. المسألة لا تتعلّق فقط بالحكّام، بل بالأكثر بالشعب. متى كان الشعب بمجمله غير أمين لوصايا الله يرسل العليّ عليه حكَّامًا ظَلَمَةً ليبيد الشرّ ذاته، فـ “الإِثْمُ يُدَمِّرُ جَمِيعَ الأَرْضِ. وَالْفُجُورُ يَقْلِبُ عُرُوشَ الْمُقْتَدِرِينَ” (سفر الحكمة 5: 24).
* * *
خطورة الكذب أنّه قد يلبس ثوب الحقّ والبِرّ، وهنا الكارثة حين يجلس الشيطان في الكذّاب ناطقًا بالحقّ في الباطل ليجعل الباطل حقًّا والحقّ باطل. كيف يمكن أن يكون هذا؟ هذا، في الحقيقة، حاصل في عالم اليوم، لا بل هو مسرى الكثيرين من أصحاب السلطة والأموال والدول في كلّ العالم. فباسم الحرية والديمقراطية تُدمَّر أمم ودول وشعوب، وتُنتَهَك الإنسانيّة وتُشَوَّه بقوانين تحارب النّظام الطبيعيّ للكائنات والبشر، ويُسَلَّع الجسد ويُحتَقَرُ الإنسان في حقيقته الأنطولوجيّة، ويرتقي المجرمون بحقّ البشريّة والخليقة الكراسي …
الكذبة يطلبون مجدًا باطِلًا ويسوّقون أنفسهم بصورة كاذبة ويسعون لوجود فراغٍ، لأنّه لا قيمة لشيء خارج الله إذ الكلّ إلى زوال وما في العالم يبقى في العالم ولن يبقى لك أيها الإنسان سوى وجه ربّك… فهل انت طالبه؟! …
الكذب لصاحبه محبة للذات فاسدة وحسد قاتل وعبوديّة للشهوات والبشر وألم لا يرتوي وحزن لا يُشفى وكفر بالله وسور من أوهام ومجد من سراب وحياة في الموت وانتصار في حقارة وخراب أبديّ …
الصادق بطل، والسالك في الحقّ ابن الإيمان، والإيمان محبّة متنزّلة من فوق على الإنسان وقوّة وسلام وفرح لا يزعزعه شيء، لأنّ الله أمين أن يحفظ المتّكلين عليه ويباركهم ويهبهم كلّ نعمة وخير …