القيامة في حياتنا- النّهار أونلاين- الأحد في ٧ أيّار ۲٠١٩
المطران انطونيوس (الصوري) – متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس
القيامة في حياتنا
عيد الفصح أو القيامة هو أساس الإيمان المسيحي. بدون قيامة لا يوجد مسيحيّة. عندما شكَّك البعض بقيامة المسيح يسوع وبَّخهم بولس الرسول قائلًا لهم: “إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضًا إِيمَانُكُمْ” (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس ١٥: ١٤). حدث القيامة يوجد عليه مئات الشهود الذين عاصروا الرب يسوع كما يوضح بولس الرسول ذلك أيضًا (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس ١٥: ٣ – ٨). كما أنّ حدث موت المسيح على الصليب يوجد عليه مئات لا بل آلاف الشهود. مهمَّة جدًّا هذه الشهادات لتأكيد حقيقة الموت والقيامة كحدث تاريخي تشهد عليهما كتابات المؤرخين الرومان واليهود. إذًا، الحدث الذي يعيِّد له المسيحيّون هو حدث تاريخي له أبعاد وجوديّة بالنسبة للمؤمنين تُحدِّد مسار حياتهم وغايتها وكلّ مصير الخليقة والبشريّة “فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى الآنَ” (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 8: 22). المسيحيون باتوا يَرَوْن وجودهم وحياتهم من خلال إيمانهم بالمسيح ابن الله الوحيد الجنس المولود من الآب قبل كل الدهور والمتجسِّد في ملء الزمان من مريم العذراء بتظليل الروح القدس وحلوله عليها ليحفظها ويجعلها أهلًا لسُكنى الكلمة الأقنوم في حشاها.
* * *
دخل الموت حياة البشر والخليقة بالتفاف الإنسان على نفسه وتمحوره حول أناه مُبْعِدًا الله من دائرة حياته ليتألَّه ويسود في ذاته ومن ذاته ولذاته. لكن بما أن الإنسان ابن العدم بدون الله عاد إلى عدميّته إذ تركه الله لمشيئته التي جعلته يصير “ترابًا ورمادًا” (سفر التكوين 18: 2). فهو جُبِل من تراب الأرض ولولا أنّ الله نفخ في أنفه نسمة حياة من روحه القدوس لما صار الإنسان “نَفْسًا حيّة” (سفر التكوين 2: 7). اللَّاشيئيّة التي صارت جوهر حياة الإنسان الساقط جعلته يطلب التراب حياة له في ملذات الدنيا ليُشبِع الهاوية التي تجتاف كيانه. تحوّل كيان الإنسان عن خصائصه التي خُلق عليها والتي كانت، لو سلك في وصية الله، لتجعله ينمو في التشبُّه بالصفات الإلهية كون روح الرب ساكن فيه. كان الإنسان مدعوًّا لحياة أبديّة خالية من الموت فإذا به يُدخِل الموت إلى حياته وإلى الخليقة قاطبة. توارثُ نتائج السقوط جعل “تَصَوُّرَ قَلْبِ الإِنْسَانِ شِرِّيرٌ مُنْذُ حَدَاثَتِهِ” (سفر التكوين ٨: ٢١). فازداد الشَّرُّ في البشرية جيلًا بعد جيل. ولكنّ الله لم يترك خليقته بل وعد بالخلاص، فأتى هو نفسه بابنه المتجسِّد لكي يعيد خلق البشرية وتجديد دعوة الإنسان الأولى إلى التشبّه بالله. هذا تحقَّق في يسوع المسيح الإله-الإنسان. هذا هو سرُّ الأسرار الذي فيه كشف لنا الله عن ذاته حبًّا لامتناهِيًا.
* * *
إشعياء النّبيّ كُشِف له وأخبرنَا بما هو مزمع أن يكون في شأن مسيح الله من آلام لكي يفتدي البشرية ويحمل خطاياها على عاتقه ويكفِّر عنها بصلبه وموته ليعيد خلقها في إنسانيّته التي ستقوم من بين الأموات (أنظر: سفر إشعياء النبي 53). كلّ ما أتمّه المسيح مُتَنَبَّأٌ عنه في أسفار العهد القديم. من هنا، كلّ ما صنعه المسيح في حياته كان في تدبير علم الله السابق في إطار حرّيّة البشر وحرية يسوع الإنسان الذي أطاع طوعًا مشيئة الله حتّى إلى الصلب والموت ليخلِّص البشرية من عبودية الخطيئة ونتائجه …
قيامة الرب يسوع المسيح هي بدءٌ جديد للخليقة قاطبة فيه، “الآنَ قَدْ قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ. فَإِنَّهُ إِذِ الْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ، بِإِنْسَانٍ أَيْضًا قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ. لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ، هكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ …” (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 15: 20 – 22). قيامة المسيح حققت قيامة كلّ البشريّة التي تؤمن به، قيامة للرجاء الأكيد للبشرية بالحياة والفرح والنور … الموت قد غلب لأنّ إنسانًا عبر به وقام إلى الأبد وهو الإنسان يسوع المسيح! “لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ …” (رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس 2: 5).
إذًا، في المسيح يسوع تمّ تحقيق قيامة الإنسانيّة والخليقة التي سقطت قديمًا، وأُعيد الإنسان إلى دعوته التي اكتملت في ابن الله المتجسد، وباب الحياة الأبديّة فُتِحَ مرّةً وإلى الأبد، وطريق شجرة الحياة الخالدة صار سالكًا عبر “الباب” (إنجيل يوحنا 10: 9) الذي هو يسوع المسيح! …
كلّ إنسان مدعوّ لاقتناء هذه الحياة الجديدة بروح الرب المتنزّل على طالبه بطاعة الكلمة الإلهيّ في حفظ وصاياه التي هي “كلام الحياة الأبديّة” (إنجيل يوحنا 6: 68).