العَنْصَرَة- النّهار أونلاين- الأحد في ١٦ حزيران ۲٠١٩
المطران أنطونيوس (الصّوري)- متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للرّوم الأرثوذكس
العَنْصَرَة
“العنصرة” كلمة عبرية. أصل الكلمة “عسار” ومنها كلمة “عسريت” التي جاءت منها كلمة العنصرة. وتعني كلمة “عسار” اجتمع أو جمع، إذ كان اليهود يجتمعون ويعيدون. كما تعني هذه الكلمة منع أو امتنع لأنه يمنع في هذا اليوم العمل إذ هو يوم مقدس للرب.
وعيد العنصرة عند اليهود هو “عيد الأسابيع” أو”عيد الحصاد” أو”عيد الخمسين” لأنّه يُعَيَّد بعد سبعة أسابيع من عيد باكورة الحصاد (سفر اللاويين 16:23). الأعياد عند اليهود هي في الحقيقة “مواسم” أو “مواعيد للمقابلة” بين الله وشعبه “وأنا أجتمع بك هناك” (سفر الخروج 22:25). لذلك، تحمل كلمة “عيد” في العبرية معنى “الفرح” أو “البهجة” … ولهذا صارت الأعياد عند اليهود “محافل مقدسة” (سفر اللاويين 2:23).
والكنيسة استعارت هذه الكلمة “العنصرة” وأطلقتها على عيد حلول الروح القدس على التلاميذ في علّيّة صهيون بعد خمسين يوم من قيامة الرب يسوع المسيح. في هذا اليوم تقدَّس محفل التلاميذ بحلول الروح القدس عليهم وإيلاد الكنيسة-جسد المسيح في العالم، ومُستَقَرّ الروح القدس فيه …
* * *
قبل برج بابل، “كَانَتِ الأَرْضُ كُلُّهَا لِسَانًا وَاحِدًا وَلُغَةً وَاحِدَةً” (سفر التكوين 11: 1). كبرياء البشر جعلهم ينقسمون ألسنة مختلفة أي أن يصيروا غرباء عن بعضهم البعض لأنّ المحبة غير موجودة فيما بينهم ولا التواضع أمام الخالق. ما صنعه البشر من انقسام أتى المسيح ليغيّره، أعاد للبشرية وحدتها فيه، في جسده بالقيامة ومدّ هذا السّرّ وهذه الحقيقة الجديدة بروحه القدوس للذين يقبلونه.
الانقسام أتى من الكبرياء الأقصى إذ قال البشر لبعضهم البعض: “هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمًا لِئَلاَّ نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ …” (سفر التكوين 11: 4)، أي أنّهم يريدون أن يصنعوا لهم إلهًا مخلِّصًا من عمل أيديهم يأمنون به من الله الذي وعد نوح بعهده معه أنّه لن يسمح بطوفان لإبادة العالم: “وَضَعْتُ قَوْسِي فِي السَّحَابِ فَتَكُونُ عَلاَمَةَ مِيثَاق بَيْنِي وَبَيْنَ الأَرْضِ (…) فَلاَ تَكُونُ أَيْضًا الْمِيَاهُ طُوفَانًا لِتُهْلِكَ كُلَّ ذِي جَسَدٍ …” (سفر التكوين 9: 13 – 15). البشر استكبروا على الله وجعلوا وعده لهم كذبًا. لكن، حاشا أن يكون هذا، لذلك، نزل سخط الله عليهم وبلبلهم لئلّا يتفاقم شرّ كبريائهم أكثر منذ ذلك فيبيدون.
التواضع الأقصى أتمّه المسيح يسوع ابن الله الوحيد الَّذي “إِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ …” (رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي 2: 8). وبهذا البذل الكلي والانسحاق التام بطاعة مشيئة الله وحّد المسيح في نفسه الخليقة الجديدة التي به بالقيامة وحقَّقها في الكنيسة-جسده حين ولدها بالروح القدس الحال على التلاميذ يوم العنصرة، بحسب مشيئة الله الآب.
* * *
لولا حدث العنصرة لما امتدّ الخلاص للعالم ولما تحقَّق تجديد الخليقة الذي في المسيح بواسطته في العالم من خلال الكنيسة جسده … طبعًا، الله قادر على كلّ شيء، ولكن بحسب سرّ تدبير الله ظهر لنا أنّ الطريق الوحيد لإعادة الخلق بحسب مشيئة الله عبر الموت عن العالم وعتاقته للولوج إلى الحياة الأبديّة يتحقَّق حكمًا بالعنصرة أي بسكنى روح الله في الإنسان وتقديس الخليقة بواسطته …
الحياة القديمة المحكومة بالموت بسبب خسران سُكنى روح الرب في الإنسان برفض المشيئة الإلهيّة قد زالت لمن يطيعون الله في ابنه، والحياة الجديدة المملوءة بفيض الوجود الإلهيّ قد وُهِبَت لمن يطلبون الله، بواسطة الابن في الكنيسة، بنعمة الروح القدس …
“أَمَّا الرَّبُّ فَهُوَ الرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ” (رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس 3: 17) ولا حرية إلّا في المحبة وحيث المحبّة هناك الوحدة التي لا تنفصم عراها في الله خالق الكلّ …