العام الجديد تجدُّد أم رَتابة- النّهار أونلاين- الأحد في ٣٠ كانون الأوّل ۲٠١٨
المتروبوليت أنطونيوس (الصوري)- متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للرّوم الأرثوذكس
العام الجديد تجدُّد أم رَتابة
الإنسان تقتله الرتابة. الرتابة تأتي من عدم التجدُّد، وهي تُتعِب الإنسان بسبب التكرار وقد تصل به إلى الكآبة والإحباط واليأس لأنّ الإنسان مفطور على التَّجدد. لذلك، يعمل البشر على خلق الاحتفالات المتنوِّعة والبحث عن أشياء جديدة تثيرهم وتبعث فيهم روح التغيير إن كان في الظروف التي حولهم أم في شخصيتهم أم في أجسادهم أم في حاجاتهم وترفيههم … لا يستطيع الإنسان أن يتحمَّل حياة لا تحرُّك فيها من داخله ومن خارجه لأنّه لا حياة حقيقيّة دون انتقال ومسير وارتقاء للشخص البشري من حالة إلى حالة أفضل … إذا صار مستقبل الإنسان أسوء من حاضره فهذا يعني تناقص أو فقدان الفرح والرضى في حياته، وعليه فإمّا يحارب الإنسان ويقاوم هذه الحالة أو يدخل في دوامة من اليأس والاستسلام … يكفي الإنسان تكرار فشله في مجال معيّن ليُقبَض عليه من الحزن ويدخل في حالة من الجبن وعدم الرغبة والقدرة على المواجهة والامتداد إلى الأمام ويبقى قابعًا في الرتابة القاتلة للنفس بسبب عدم قدرته على التّحرُّر من هذه الحالة… لذلك، معظم الناس عبيد لروتينات عديدة تتحكّم فيهم بسبب عدم قدرتهم على اكتشاف سرّ التجدُّد الدائم في الحياة…
* * *
الزمن هو من حقائق الوجود التي تحوي في طبيعتها مبدأ التجدُّد لأنّنا في انتقال دائم من ماضٍ إلى حاضر فمستقبل، وما يخيف الإنسان ويتشوّق إليه في آن هو المستقبل. لذلك ترى البشر في ليلة رأس السنة يطلبون معرفة رأي المنجّمين والعرّافين في حياتهم علّهم يكون لهم حظّ بحياة أفضل وتحقيق لمشاريعهم وأحلامهم … لماذا يريد الإنسان معرفة المستقبل ومستقبله معروف وهو إمّا موت أو حياة!… أجل لا خيار أمام الإنسان سوى بين الموت أو الحياة وخياراته في مسيره تحدِّد نصيبه من الوجود!
“اُنْظُرْ. قَدْ جَعَلْتُ الْيَوْمَ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْخَيْرَ، وَالْمَوْتَ وَالشَّرَّ … فَاخْتَرِ الْحَيَاةَ لِكَيْ تَحْيَا أَنْتَ وَنَسْلُكَ، إِذْ تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ وَتَسْمَعُ لِصَوْتِهِ وَتَلْتَصِقُ بِهِ، لأَنَّهُ هُوَ حَيَاتُكَ …” (سفر تثنية الاشتراع 30: 15 – 20). الله هو الحياة الفيّاضة التي كلّها جِدّة دائمة، مع أنّه غير متحوّل ولا متغيِّر، وهو الفرح والنور والسلام والخير والحنان واللطف والوداعة والتواضع … الله غير المحدود هو غاية وجودنا وإيماننا به هو الذي يعطي لحياتنا معنى وقيمة لأنّ قيمتنا تأتي منه وليس من أنفسنا. بقدر ما ننمو في معرفة الله أي بقدر ما ننمو في معرفة أنفسنا ندخل في عالم الحقيقة غير المنظورة التي تعطي لكلّ زماننا وأوقاتنا ومشاريعنا وأعمالنا وأحلامنا وطموحاتنا معنى حقيقيًّا، لأنّ كلّ ما نصنعه مع الله ولأجله هو الباقي وما عدا ذلك على زوال…
* * *
شهوات العالم وأهواؤه ليست هي الحياة، لا المجد ولا الجاه ولا الحكمة ولا العلم ولا المال ولا اللذة ولا المقتنيات ولا العائلة تمنحنا الوجود … فقط المحبّة غير المشروطة النقيّة تجعلنا موجودين حقًّا وتُدخِلنا في سرّ التجدُّد اللانهائيّ لأننا حينها نحيا في الله-المحبّة مصدر الوجود وغايته. مع الله الحياة دائمًا جديدة في كلّ لحظة لأنّ الحبّ خلاّق دائمًا وباستمرار وولَّاد للإنسان والوجود، إذ الشخص البشريّ هو كون مصغَّر (microcosmos) تتَّحد فيه العوالم الروحيّة والمادية والإلهيّة إذ هو على صورة الله مخلوق وفيه يكمن سرّ الأبديّة في هذه الصورة الإلهيّة التي تتجدَّد فيه بالنعمة المتنزِّلَة من العلاء بالتطهير الروحي في التوبة بالموت عن العالم والعتاقة والولادة بقوّة القيامة إلى حياة أبديّة في هذا الدهر الفاني.
هذا هو سرّ الحياة المتجدِّدة أبدًا بالله لمن يريد الحياة وطريقها طاعة الكلمة الإلهيّة لاقتناء نعمة روحه القدوس. حيث الله لا رتابة بل حبّ لا ينتهي في ارتقائه بالإنسان من جديد إلى جديد ومن حقيقة إلى أخرى ومن مجد إلى مجد … فلنسع إلى هذا ليصير زمننا جديدًا أبدًا…