العائلة أساس المُجتمع- النّهار أونلاين- الأحد في ١٦ أيّار ۲٠١٩
المطران أنطونيوس (الصوري) – متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس
العائلة أساس المُجتمع
بِتْنا في زَمَنٍ تُحارَب فيه الإنسانيّة مِن خلال تَشويه حقيقة الإنسان الأنطولوجيّة. “خَلَقَ الله الإنسان ذَكَرًا وأنثى خَلَقَهُم” (سِفر التّكوين 1: 27). هذه الحقيقة الواقعيّة الّتي يَنتُجُ عنها استمرار البشريّة باتَتَ معرِض التَّشكيك لا بلّ هناك مُحاولة لِنَسفِ الإنسانيّة بحسب الصّورة الّتي خَلَقها اللهُ عليها أي أنّ الإنسان هو الذَّكَر والأنثى معًا. في الغرب باتوا اليوم يُعلّمون النَّشْئ الجديد أنّه لم يعُدْ يوجَد ما يُسمّى بالعائلة والأب والأم، إذ ابتَكَروا تسميَةً جديدةً أهل ١ ((Parent 1 وأهل ۲ (Parent 2). الطَّبيعةُ تَدُلُّ على ذاتها، ولا أحد يُمكنهُ أن يُلغي الأبَ والأم كحقيقةٍ إنسانيّةٍ وجوديّةٍ شموليّةٍ جوهريّة للبشريّة. هناك حملةٌ عالميّةٌ مُمَنهَجَة لتخريب وهدم وتَشويه البُنْيَة النَّفسِيَّة والشّخصيّة المُمَيِّزة للإنسان من خلالِ تَدمير ومَحُو ماهِيَّة الهَويَّة الجنسيّة (الجَنْدَرَة).
* * *
السَّوِيَّةُ النَّفسيَّة للشّخص تَتَأتّى مِنْ توازنِ العلاقة بين الطّفل ووَالِدَيْه، مِن لحظة الحَبَل به إلى لجظة وِلادته وقَطع حَبْل الصِّرَّة الجسديّ، إلى مرحلة الرِّضاعة والفِطام أي قطع حَبْل الصِّرَّة النَّفسيّ، فدخولِهِ المدرسة وعبور مرحلة الطّفولَة إلى المُراهَقَة فسِنِّ الرّشد. ليس لنا هنا المَجال، في هذه العُجالَة لندخُلَ في تفسيرِ وإيضاح دور كُلّ مِن الأب والأم في هذه المراحل وغيرها، ولكن الواضح أنّهُ كُلَّما ازدادَ التّوازن والتّكامُل في عَيْش الأمومة والأبوّة والاغتذاء والنّموّ للطّفل في ظِلِّ الحنان الأموميّ والاحتضان والأمان الأبويّ والسّلطة في المحبّة تنمو الشّخصيّة في السَّويَّةِ والاعتدال، وتَتَوضَّحُ الهويَّةُ الجنسيَّة وتنضجُ مع الوَعي والإدراك لحقيقةِ الإنسان وجوهر الحياة في الشَّركة والتَّمايُز في الحُبّ الّذي هو أساسُ اكتمال الشّخصيّة الإنسانيّة الحَقّانِيَّة.
* * *
عَمَلُ الشّيطان أن يُدَمِّر الإنسان لأنّه مُستكبِرٌ وحَسود، ولإبليس في العالَمِ زَبانِيَّة يُتَمِّمونَ أفكارهُ ويُتَرجِمونَ نَواياه. إنَّ ما يُسمّى بالـ”الحَضارَةَ” اليوم تَسيرُ باتّجاهِ إلغاءِ مَفهوم العائلة إنطلاقًا مِن انحرافٍ في تطبيقِ مَبدأ حُرّيّة الإنسان. السَّعي إلى إنهاء دورِ المَرأة كأمّ مِن ناحية، وإلى نَشرِ فكرةٍ مُشَوَّهَة عن الزّواج، الّذي هو في الأساس اتّحادُ رَجُلٍ وامرأة بنِعمَةِ الله، عَبرَ تشريع زواج المِثليّين وإعطائهم الحَقّ بتبنّي الأولاد. لا شَكّ أنّ هذا المَنحى العالميّ نابِعٌ مِن الفِكر الصّهيونيّ الّذي يَحتَقِرُ البَشَر خارج دائرَةِ الصّهيونيّة ويعتبرُهم سُلالةً هَجينةً غير نَقيّةٍ إنسانيّة.
باسم الحُرّيّة تُنتَهَكُ الإنسانيّة، وتُباحُ المُعاشَرات الجنسيّة بدونِ حدودٍ أو ضوابط تَحْفَظُ كرامةَ الإنسان. هناك خطّطةٌ جهنّميّة لِسَبي الإنسانيّة مِن حقيقتها النّابِعة من صورةِ الله فيها إلى صَحارى وأدغال الشّهوات الجسديّة. حضارةُ اليوم الكاذبة تدفعُ الإنسان باتّجاه خيانةِ ذاتِهِ والعُبودِيَّة لأفكارٍ وأهواءٍ تُفرَضُ عليه عَبرَ وسائلِ التّواصلِ الاجتماعيّ والإعلام والإعلانات…
البشريّة تُدَمِّرُ نفسها حين تبتعد عن حقيقة أنّ الإنسانَ مخلوقٌ من الله لِغايَةٍ وهدفٍ يعرفهما الإنسان متى انعطف بالتّأمل في ذاتِهِ إلى الأمداءِ اللّانهائيّة المَزروعَة فيه بالصّورةِ الإلهيّة المَخبوءة في أعماقِهِ والمَحجوبَة بكثافَةِ الشّهوات والعُقَد والأمراض النّفسيّة والرّوحيّة.
* * *
اليوم قبل الغَد علينا أن نستيقظَ من أوهامِ السّعادَةِ الكاذِبَة الّتي تُسوِّقُها حضارةُ الاستهلاك، اللّذّات الجَسَدِيَّة المُقتناة بالحَوَاس وبالفِكِر وبالرَّغبَة بالمَجدِ الباطِل وانتفاخِ الإنسان بإنجازاتِهِ على الصُّعُد الجسدِيَّة والعَمَلانِيَّة. جوهرُ الإنسان هو الحُبُّ، وخارِجُ الحُبّ لا قيمَةَ لا للإنسان ولا لأعمالِهِ. الحُبُّ صورةُ الله في الإنسان وهو يتعلّمُهُ وينمو فيه بخبرَةِ عَيشِهِ منذ تكوينهِ في أحشاءِ أمِّهِ ومع والِدَيْه وفي عائلتِهِ لينطلِقَ بعدَها إلى تَوسيعِ هذه المَعرِفة الاختباريّة في مَطارِحِ تَواجُدِهِ…
حينَ تكونُ العائلة مُفكَّكَة والأم غائبة والأب غيرُ مَوجود، حينَ تَتَشوَّهُ عناصِرُ العائلة أي يَنتَفي وجود الأب والأم كأساس للعائلَة، تَنشاُ بشريّةٌ مُشوَّهَة مَجبولَة بالعُقَدِ ومُستعبَدَة لأهواءٍ كثيرة تَدفَعُ بالبشريّةِ يومًا بعد يوم إلى أن تَصيرَ أقرَبَ إلى البَهيميّة المُتوَحِّشَة غير المَحدودةِ النَّزَوات…
العئلة المُكَوَّنة من الأب والأم والأولاد هي خليّةُ البشريّة الجوهَريّة، الّتي إذا ما حافَظنا عليها في السَّوِيَّةِ والتّوازن المُتأتّيَيْنِ من الإيمانِ بالخالق نكونُ قد حَفِظنا الإنسان في حقيقته ودعوته بحسبِ مشيئةِ الله والّتي هي الخير المُطلَق والفرحُ الّذي لا يُنتَزَع والسّعادَةُ الحَقّانِيَّة في الحُبّ…