الصِّيام- النّهار أونلاين- الأحد في ١٠ آذار ۲٠١٩
المطران أنطونيوس (الصوري)- متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للرّوم الأرثوذكس
الصِّيام
في الكنيسة الارثوذكسية يوجد أصوام عديدة على مدار السنة تتخطى مدتها الخمس وستين بالمئة من عدد الأيام. وكأني بالكنيسة تقول بأن الصيام هو النظام الطبيعي في هذا العالم. ما هو المبدأ وراء هذا الأمر يا ترى، وما هي الغاية؟!. مع ذلك، يعتبر الصوم الكبير المقدس أهم الأصوام الكنسية، وهو مقسم الى ثلاث مراحل تُسمّى بزمن التريودي تتضمن مرحلة تحضيرية قبل بدء الصوم، ومرحلة ثانية تسمى بالصوم الأربعيني المقدس وصوم الأسبوع العظيم.
* * *
“هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَنُوحُوا مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ وَلكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ” (إنجيل متى ٩: ١٥). هكذا أجاب الرب يسوع المسيح تلاميذ يوحنا المعمدان عندما سألوه لماذا لا يصوم تلاميذه بينما تلاميذ المعمدان والفريسيين يصومون. من جواب الرب يسوع نستنتج أن الصوم هو حالة انتظار للعريس الإلهي (أي لمجيء الرب في اليوم الأخير)، فاعلة وفعّالة، أساسها التوبة والانسحاق امام الله في المسوح والدموع لطلب المغفرة وتنقية القلب بجهاد النفس في طاعة الكلمة وترويض الجسد للدخول في السلام مع الخليقة كلّها عبر الامتناع عن الزفرَين. إنّه نوع من عودة إلى حالة ما قبل السقوط حيث كان الإنسان يأكل البقول وثمار الشجر فقط في سعي بنعمة الله لتذوّق حالة الخلاص الآتي وحياة الملكوت المزمع أن يكون والذي هو حاضر في آن.
* * *
في العهد القديم، لما نادى يونان النبي على أهل نينوى منبئًا اياهم بالخراب إن لم يرجعوا عن طريقهم “آمَنَ أَهْلُ نِينَوَى بِاللهِ وَنَادَوْا بِصَوْمٍ وَلَبِسُوا مُسُوحًا مِنْ كَبِيرِهِمْ إِلَى صَغِيرِهِمْ …” (سفر يونان ٣: ٥)، ليعبّروا عن توبتهم ويطلبوا غفران الله وصفحه عنهم. من هنا، الصوم كان مرتبطًا بالتوبة ارتباطًا عضويّا، والتعبير عن التوبة مرتبط بالصيام ولبس المسوح والنوح تذليلًا للنفس أي لأجل جعلها تتضع استعطافًا لرحمة الله (راجع مثلا: سفر يهوديت 4: 8). هكذا كان يصنع الشعب في أزمنة الضيق ليعبّروا عن اتّكالهم على الرب ورجائهم بعونه ليغلبوا أعداءهم: “اعْلَمُوا أَنَّ الرَّبَّ يَسْتَجِيبُ لِصَلَوَاتِكُمْ إِنْ وَاظَبْتُمْ عَلَى الصُّوْمِ وَالصَّلَوَاتِ أَمَامَ الرَّبِّ” (سفر يهوديت 4: 12)، وهل من عدو للإنسان أكثر من الشيطان والخطيئة؟! …
الصوم، في العهد القديم، لم يكن مرتبطًا فقط بخلاص الفرد أو الجماعة من الضيقات والخطايا وحصولهم على المغفرة، بل هو التزام الآخَر الذي يضعه الرب في طريقك انطلاقًا من الحبّ والوحدة بين البشر: “(…) أَلَيْسَ هذَا صَوْمًا أَخْتَارُهُ: حَلَّ قُيُودِ الشَّرِّ. فَكَّ عُقَدِ النِّيرِ، وَإِطْلاَقَ الْمَسْحُوقِينَ أَحْرَارًا، وَقَطْعَ كُلِّ نِيرٍ. أَلَيْسَ أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ، وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ؟ إِذَا رَأَيْتَ عُرْيَانًا أَنْ تَكْسُوهُ، وَأَنْ لاَ تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ (…) إِنْ نَزَعْتَ مِنْ وَسَطِكَ النِّيرَ وَالإِيمَاءَ بِالأصْبُعِ وَكَلاَمَ الإِثْمِ وَأَنْفَقْتَ نَفْسَكَ لِلْجَائِعِ، وَأَشْبَعْتَ النَّفْسَ الذَّلِيلَةَ …” (سفر إشعياء 58: 5 – 10).
* * *
في العهد الجديد، أتى الرب ليتمّم لا لينقض (راجع: إنجيل متى 5: 17)، فصام السيد (وهو غير المحتاج إلى الصوم) أربعين يومًا وأربعين ليلة ليكون لنا قدوة ويرشدنا إلى طريق طاعة الله وصنع مشيئته والغلبة على الشرير، إذ هو قال: “هذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ” (إنجيل مرقس 9: 29). الرب يسوع بعد معموديته من يوحنا خرج إلى البرية وصام، وبعد انتهاء صيامه الأربعيني جُرِب من إبليس وغلبه وأخزاه ثمّ خرج للبشارة. تعلّمت الكنيسة من المسيح أن تحيا بهذه الطريقة: “بَيْنَمَا هُمْ يَخْدِمُونَ الرَّبَّ وَيَصُومُونَ، قَالَ الرُّوحُ الْقُدُسُ …” (سفر أعمال الرسل 13: 2). الصوم هو، أيضًا، تحضير مع الصلاة لسماع كلمة روح الرب وصنع مشيئته. هكذا كانت تعيش الكنيسة الأولى وهكذا استمرت الكنيسة الأرثوذكسيّة حاملة هذا التراث الإيماني أي هذه الحياة بروح الكلمة الإلهيّ لكي تغلب الشرير. كان المسيحيون يصومون ليطعموا الجياع ويعضدوا كلّ محتاج. كانوا يصومون ليسمعوا من الله بالروح ما هي مشيئته. كانوا يصومون لكي يكونوا مستعدين لمجيء الرب لئلا يأتي ويكونوا في غفلة …
الصيام في الكنيسة الأرثوذكسيّة هو تدريب للروح والجسد لأجل نقاوة القلب واستقبال النعمة الإلهيّة والاستعداد الدائم لسماع صوت الروح، لذلك هو منهج حياة المؤمن في هذا العالم من الآن وإلى أن تقوم القيامة …