الرّئاسة خدمة- النّهار أونلاين- الأحد في 14 تمّوز 2019
المطران أنطونيوس (الصّوري)- متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس
الرّئاسة خدمة
"أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَالْعُظَمَاءَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. فَلاَ يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيمًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِمًا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ أَوَّلًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْدًا ..." (إنجيل متى 20: 25 - 27).
من هو الرئيس؟ إنّه من أُعطي له الله أن يكون أوَّلًا في جماعة ما أو مسؤولية ما، سواء في الشأن الديني أو في الشأن العام ... قد يظنّ البشر أنّ الرئاسة والسلطان وصلا إليهم بجهدهم أو بقوّتهم أو ذكائهم ... هذا هو الظاهِر، ربّما، عند الناس ولكن ربُّك أدرى ...
كلّ شيء تحت سلطان الله. لا شيء خارج عن قدرته. هو بمشيئته أراد أن يمنحنا الحرية حين خلقنا على صورته. هو حاضر في كلّ حين ليخلّص كلّ إنسان يقبله ... نعم! الله يطلب رضى الإنسان وموافقته ليصير له حياة من فوق تطرد كلّ موت وضعف وخوف ...
* * *
الرؤساء معرّضون لأن يُسْتَلَبُوا من حبّ المديح وطلب التمجيد وأسر التسلُّط وعبوديّة المال ... الويل لمن يقع في هذه لأنّها تخنق عنده الحياة وتُطفئ فيه جَذوة الروح ... حيث تكون وصيّة الله يكون التواضع والوداعة والمحبّة. الرئيس مُطالب من الخالق بإطاعة حقّه والسلوك في برّه، لأنّ الإنسان العاديّ يُحاسب عن نفسه ويُسأل عن الذين أُوكلوا إليه ممن هم حوله ومعه، أمّا الرئيس فيُحاسب عن نفوس كلّ الذين وضعه الرب لخدمتهم ...
يَغْبَى على الذي يظنّ نفسه رئيسًا من ذاته أنّه يوجد ديّان واحد لهذا الكون ومن فيه. ليس سوى واحد هو السّيّد المُطلق والكامل البرّ: الرب ... حتميًّا سيخضع كلّ إنسان لامتحان دينونة الخالق. كلٌّ له دوره ورسالته. كلٌّ مسؤول عمّا يؤول هو إليه لأنّ البارئ يُرشد كلّ بشر إلى الحقّ والعدل والاستقامة للبنيان ... رؤساء الدول والشعوب يقودونهم إمّا إلى ما يرضي الله أو إلى يرضي أهواءهم ... الذين مُنحوا الحكمَ والرئاسة في هذا العالم يُطلب منهم دم وألم وحزن وكآبة وإحباط وقلق وخوف (إلخ.) كلُّ مظلوم ...
* * *
لا رئاسة خارج المحبّة، بل تسلُّط. لا يمكن أن يحكم من لا يحبّ سوى نفسه. كذبة العدالة والحرية والديمقراطيّة في العالم مكشوفة. ما لم يكن الرؤساء خاضعين لحكم العليّ لن تكون مسؤوليتهم سوى دينونة لهم، لأنّ من يصنع مشيئته في السلطان المُعطى له، سيكيل له الرب بمكياله حسبما عمل، لأنّه يقول: "لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ ..." (إنجيل متّى 7: 2). لا يُعطى السلطان إلّا لخدمة الإنسان والحفاظ على كرامته بحسب مشيئة الله. لذلك، كلّ مسؤول يساهم بتشويه حقيقة الإنسان ودعوته ويسيء إلى كرامته التي هي من كرامة خالق الأكوان يجلب على نفسه جحيمًا أبديًّا ... العبرة في نهاية المرء وليس في بداياته ...
من يطلب الرئاسة فليفقه أنّه مدعوّ ليقود مرؤوسيه بالدعة والتواضع، ان يكون باذلًا لنفسه لأجلهم وليس العكس. لأنّ من يسيء استغلال عبيد الله ويسوقهم إلى طرق معوَجّة تحاربه ملائكة الله كإبليس وهو مطرود من أمام وجه الرحيم ...
* * *
في المسيحيّة، اتّخذ الله ما للبشر في ابنه الوحيد الذي تجسَّد في ملء الزمان من مريم الفتاة العذراء المختارة من العليّ بحلول الروح القدس عليها وتظليل النعمة الإلهيّة. الإله صار إنسانًا دون اختلاط أو امتزاج بين الطبيعتين الإلهيّة والبشريّة في اتّحاد دون انقسام أو انفصال. ابن العليّ الوحيد الجنس تنازل ليبذل نفسه كإنسان عنّا. من هو الإنسان؟! ... من هو الرئيس؟! ... ثمن حياتنا دم ابن الله، فمن ذا الذي يجرؤ أن يتسلّط على البشر أو يدّعي أنّه لهم مخلّص ... الرئاسة الحقانية استعباد للذّات في خدمة الإنسان لأنّ هذا الله افتداه بمن هو أثمن من كلّ الوجود ... لا تجوز رئاسة إلّا في الخدمة وبذل الذات في الحبّ للمعطي الحياة في مَن برأهم ... ومن ظنّ غير ذلك فهو لفي ضلال مبين ...