الحقّ في المسيحيّة- النّهار أونلاين- الأحد في ١٠ شباط ۲٠١٩
المطران أنطونيوس (الصوري) متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس
الحقّ في المسيحيّة
الحقّ والحقيقة كلمتان مترادفتان، فالحقيقة تعبِّر عن جوهر الحقّ وفحواه. و “ما هو الحقّ؟!” (إنجيل يوحنا 18: 38). في المسيحيّة ليس الحقّ فكرة إنّه شخص. “أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي …” (إنجيل يوحنا 14: 6). الحقّ يكشف لنا حقيقة الوجود ومعناه، حقيقة الله الّتي يستطيع البشر تقبُّلها دون تحديدها أو حدِّها لأنّ الله غير محدود ولا مُدرَك. من يعرف الله يعرف ذاته وغاية حياته. لا يستطيع الإنسان أن يعرف كنه الوجود والهدف من وجوده دون استعلان هذه الحقيقة له من فوق … من الخالق نفسه …
* * *
غاية الحياة الوصول إلى الحقّ، معرفته اقتناؤه. لكن، الله هو الحقّ؟! كيف يكون هذا إذًا؟!… الله يهبنا أن نعرفه في ابنه الوحيد المولود منه قبل كلّ الدهور بواسطة نعمة الرّوح القدس، “رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ” (إنجيل يوحنا 14: 17). الحقّ مجهول في العالم إلّا عند القلّة التي تطهَّرَت لأنّ الأنقياء القلوب فقط يستطيعون أن يقبلوه. ما عدا ذلك، البشر الخاضعون لأهوائهم هم مستعبدون مقيَّدون بحدود البَشَرَة والمنطق والعقل. الإنسان في طبيعته له بُعْدَين لوجوده: الجسد والرّوح، هذا يجعله ابعد من أُطُرِه المُقاسَة، وبُعد الحقّ فيه هو بُعد إلهيّ من صورة الله فيه من غير الممكن له أن يعرفه ما لم يكشفه له الله نفسه!…
* * *
الحقّ هو الحياة وطريق الحياة وغاية الحياة لأنّ المعرفة هذه تكشف للإنسان سرّ الوجود كلّه من خلال سرّ الله الذي يُكشَف للرّوح ويبقى مُحْتَجِبًا على العقل، فالمعرفة هي اتّحاد. من هنا، يَعرف الإنسان نفسه من الله ويَعرف الله من نفسه. ليس أنّ الله بأقنومه (شخصه) يحلّ في الإنسان ملغيًا له، بل بسرّ الوحدة في التّمايز من خلال سُكنى المعرفة بالنّعمة في الإنسان تستضيء البَشَرة بالنّور غير المخلوق فتستحيل ترابيَّة الإنسان نورانيّة فتزول الحُجُب عن الإدراك الكيانيّ للحقيقة، إذ يصير الإنسان في الحقيقة ومنها …
* * *
الرَّبّ يسوع المسيح الإله المُتأنِّس كشف لنا من هو الله: “اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ” (إنجيل يوحنا 14: 9) ومن هو الإنسان. كلّ هذا حقَّقه في أقنومه. هو حقَّق دعوة البشر لمَّا أطاع الله طاعة كاملة كإنسان، لأنّ مشكلة الإنسان هي عصيان مشيئة الله وكلمته. لذلك، يقول سفر الجامعة “اتَّقِ اللهَ وَاحْفَظْ وَصَايَاهُ، لأَنَّ هذَا هُوَ الإِنْسَانُ كُلُّهُ” (12: 13).
المعرفة تتأتّى من الاتِّضاع، على الإنسان أن يواضع نفسه أي أن يعترف أنّه ضعيف وخاطئ وميَّال إلى الشّرّ ويحتاج، تاليًا، إلى قوّة الله لإتمام مشيئة العليّ. هذه حقيقة لا بدّ له من الإقرار بها ليبدأ مسيرة التّغيير أي ليترك الرَّبّ يفعل فيه ويُجدِّده. طريق الحقّ مجٌّ للكذب مع النّفس، أوَّلًا، وخلعٌ للطّبيعة العتيقة الّتي حقيقتها صنع “الزِّنَا، النَّجَاسَةَ، الْهَوَى، الشَّهْوَةَ الرَّدِيَّةَ، الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ (…) الْغَضَبَ، السَّخَطَ، الْخُبْثَ، التَّجْدِيفَ، الْكَلاَمَ الْقَبِيحَ” (رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي 3: 5 و9). التّحرُّر والانعتاق يصيران بقوّة الله الّتي يقتنيها البشر من خلال الولادة الجديدة في المسيح، وهكذا نلبس الإنسان الجديد “الَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ” (رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي 3: 10).
المسيح الرَّبّ يمنحنا المعرفة للحقّ فيه لأنّه هو “الحقّ” المتجسِّد، “اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ” (رسالة يوحنا الرسول الأولى 1: 1). بهذه المعرفة ندخل في شركة مع الله الآب بالابن في الرّوح القدس. هذا هو كمال الحقّ في كمال المعرفة بالشركة للّتي في الوحدة مع الله والبشر لحياة أبديّة …