“الحرّيّة الجنسيّة”، حرّيّة أم عبوديّة (١) النّهار أونلاين- الأحد في ١٦ كانون الأوّل ۲٠١٨
المتروبوليت أنطونيوس (الصوري)- متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للرّوم الأرثوذكس
“الحرّيّة الجنسيّة”، حرّيّة أم عبوديّة (١)
ظهور علم الجنس كاختصاص طبي وتأسيس أول معهد للبحوث الجنسية، من قبل ماغنوس هيرسفيلد (1868-1935) هما العنصران الممهدان لـما يُسمَّى بـ “الثورة الجنسية”. هيرسفيلد كان يدعو للمساواة السياسية والجنسية بين المرأة والرجل، ولإخراج الزواج من شرعيّة الكنيسة والدولة، بالإضافة إلى دعوته لإلغاء القوانين المضادة لمنع الحمل، وإصلاح القوانين التي تعاقب الإجهاض، وإدخال التعليم الجنسي للشباب والبالغين، والتساهل مع المثليين وقبولهم. لقد أسس بأفكاره هذه للتفلّت من كلّ المبادئ الإيمانيّة والأخلاقيّة وفتح الطريق أمام قبول المثلية (homosexuality) ودفع باتّجاه التّفلُّت من كلّ مبدأ أخلاقيّ في العلاقة الجنسية بين الراشدين المتراضين.
“ويلهيلم رايتش” (1897-1957) من المدرسة الفرويدية، والشيوعي كان يبحث عن حل سياسي لما يسميه “الوعكة في الحضارة”، ووجد الحياة الجنسية أساسًا جوهريًّا للنضال السياسي إذ كان يعتبر التحرر من القيود الموضوعة على الجنس من خلال الدين والزواج والعائلة أسبابًا رئيسيّة لضمور الثورة والتمرد عند الإنسان. وآمن بضرورة حلّ العائلة الحلقة الأساسيّة في القمع الجنسي. كتابه “الثورة الجنسية” (1930) الَّذي أدّى إلى فصله من الحزب الشيوعي صار مصدر إلهام اليساريين الفرنسيين، في عام 1968. أبحاثه خلقت موجات من الاعتراض والرفض لكن أفكاره سلَّطت الضوء على مسألة “النشوة الجنسية”.
مفهوم “النشوة” سيطغى في القرن العشرين عند الباحثين الجنسيين في الولايات المتحدة لأن فكرة فكّ الارتباط بين الجنس والزواج والجنس والتناسل سيتنامى ويؤدّي إلى تطوّر مفهوم “حرية التصرف بالجسد”، ومع انتشار وسائل منع الحمل، انعتقت المرأة من مخاطر الإنجاب التي كانت تحد بشكل كبير من حريتها الجنسية، وهذا هو العامل الأساسي للتحرر الجنسي لدى النساء والهدف هو ضرب العائلة وهدمها كخلية أساسيّة وضرورية لسلامة حياة الإنسان ونموّه وبنيانه في الاتجاه الصحيح.
مبدأ السعي إلى النشوة الجنسيّة فتح الباب عريضًا أمام كلّ الممارسات التي تؤدّي إلى الحصول على هذه المتعة، ولم يعد –بالنسبة للمطالبين بالحرية الجنسية- من وجود لمفهوم شريك في الحياة ترتبط به العلاقة الجنسيّة في الحبّ بل صارت الغاية من الجنس طلب اللَّذَّة بكل الوسائل المتاحة مع أيّ آخر أكان رجلًا أم امرأة أم حيوانًا أم آلة أم مجموعة عناصر مختلفة …، وهذا أدّى إلى انحرافات خطيرة على كلّ الصعد في مفهوم الجنس ومبدئه وطريقة تعاطيه وأهدافه… دخلنا عصرًا جديدًا صار فيه الإنسان “لحمًا ودمًا” للاستهلاك …
* * *
ضاع الإنسان في زمننا عن هويّته. هو ليس “حيوانًا اجتماعيًّا” كما قال أرسطو قديمًا وكما تريد “الحضارة” أن تُزيِّن له لأنّه ليس مجرَّد بدن وجثّة وحيوان ذات عقل ويتكلم ويستطيع أن يتواصل مع آخرين وأن يبني مجتمعًا وحضارة … بل هو “صورة الله” (راجع سفر التكوين 1: 26 و27) و”مسكن العليّ” (راجع ارمياء 31: 33 وحزقيال 11: 19 36: 26 ورسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 3: 16و17). الإنسان وُجدَ للحبّ، والحب الإلهيّ مصدر الحرية الحقّانيّة، والحرية هي الانعتاق من كلّ قيد داخليّ وخارجيّ يجعل الإنسان عبدًا لفكرة أو للذّة أو لحاجة أو لشخص … لأنّه “ما الحاجة إلا إلى واحد” (إنجيل لوقا 1: 42).
حضارة اليوم هي حضارة اللذة بأيّة طريقة كانت تحت ستار الحرية الشخصيّة. صار الإنسان أسير هذا العالم الفاني باسم الحرية بينما هو مدعوّ إلى ما هو أبعد من هذا العالم إلى حياة أبديّة. يُصوِّرُ مسوِّقو اللذائذ -الساعون إلى السلطة والمال- الله كمُستَعبِد للبشر وقامِع لحرّيتهم بينما هم يجعلون الإنسان لاهثًا وراء حاجات مصطنعة كاذبة لا تزيد على الإنسان سوى الألم والمرارة إذا لم يستطع تلبيتها. استُهلِك الإنسان باسم الحرية واستُهلِكَت الحرية باسم الإنسان … (يتبع)