Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد (12) بعد العنصرة- العدد 35

27 آب 2023

كلمة الرّاعي

التّكريس

”لِأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي“ (يو 17: 19)

أن تصير مكرَّسًا للرَّبّ يعني أنَّك تحبُّه أوَّلًا وأخيرًا بالمُطلَق. الله لا يحتاجك، أصلًا، لأنّه كامل ولكنَّه يشاء أن يحتاج إليك لتمدَّ خلاصه في العالم بالكرازة في العمل والقَوْل بقوّته ونعمة روحه القدّوس. هو مَثَلُكَ ومعلِّمُكَ إن عشقته. بعشقه تطرد عشقك لذاتك، فتتحرَّر من الأنا ويصير الأنت فيك الأنا وتصير الأنت فيه أي أنَّك تدخل في سرّ ”يا أنا أنتَ“، فلا يعود فيك إلّا ”أنا الَّذي أنا“ (خر 3: 14)، كما يوضح ذلك الرَّسُول بولس بقوله: “مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ…“ (غل 2: 20).

أن تعشق المسيح هو أن تموت عن العالم وعن إنسانك العتيق، أي أن تصلب العالم العتيق فيك لتصير ”خليقة جديدة“ (2 كو 5: 17). هذا دأبُك المستمرّ وجهادك، أي أن تتغيَّر وأن تخرج من ماضيك وتعلُّقاتك الَّتي تجعلك عتيقًا قديمًا، لأنّ الخروج هو تحوُّل كلّيّ نحو الله ونسيان ما عداه. إيّاك أن تتوه في ماضيك لئلا تخسر خلاصك. أن تتكرَّس هو أن تضع يدك على المحراث، لأنّه ”لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللهِ“ (لو 9: 62).

*          *          *

التّكريس بالمحبَّة يكون، لأنّه فعل محبَّة وطريق محبَّة غايته المحبَّة، لأن ”الله محبَّة“ (1 يو 8: 16). الرّبّ هو يدعونا، نحن نستجيب دعوته. الرّبّ دعانا بابنه لأن نكون له بنين وبنات، أي أن نحقِّق صورته فينا بطاعته المطلقة على شبه طاعة الابن الوحيد الَّذي ”أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ“ (في 2: 7 و8).

التّكريس هو الحياة الجديدة الَّتي نحياها للمسيح بموتنا عن ما ليس فينا منه وبه وفيه. أن نتكرَّس يعني أن نقدِّس حياتنا لأجل المسيح وحبًّا به، لكي نخدمه في أحبّائه، مستعبدين أنفسنا للكلّ لنربح على كلّ حال إنسانًا للمسيح. لكن، لكي استعبد نفسي للكلّ يجب أن أكون حرًّا بالمسيح وفيه، وإلّا أصير عبدًا لأهواء البشر وليس لأجل خلاصهم. هذا ما يوضحه الرَّسُول بولس حين يقول: ” فَإِنِّي إِذْ كُنْتُ حُرًّا مِنَ الْجَمِيعِ، اسْتَعْبَدْتُ نَفْسِي لِلْجَمِيعِ لأَرْبَحَ الأَكْثَرِينَ (…) صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ، لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَال قَوْمًا. وَهذَا أَنَا أَفْعَلُهُ لأَجْلِ الإِنْجِيلِ، لأَكُونَ شَرِيكًا فِيهِ“ (1 كو 9: 19—23).

لكي تكون شريكًا في الإنجيل يجب أن يصير الإنجيل حياتك، أن تأكله كما تأكل جسد ودم الرّبّ، لكي تصير إيّاه. التَّكريس هو أن تصير إنجيلًا حيًّا، وأن تقول مع المسيح الرّبّ: ”طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ“ (يو 4: 34). بغير هذا يصير التَّكريس سلطةً ونُفوذًا وخدمة للأنا. يصير المتكرِّس للرّبّ ضدًّا للمسيح ما لم ينقص هو ليزداد الرّبّ فيه، أن يختفي الإنسان بالتَّواضُع ليكشف مجد الله وقوّته وليس أن يجعل ذاته محورًا لنفسه وللآخَرين.

*          *          *

أيُّها الأحبّاء، ”الْحَصَادُ كَثِيرٌ وَلكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ“ (مت 9: 37). فقط المميَّزون في حياتهم والنَّاجحون فيها بالمحبَّة والاجتهاد والأمانة والصِّدق في سَعْيِهِم لله هم المُختارون لخدمة الرَّبّ، لأنّهم يعرفون أنَّ محبّه الله تتطلَّب التَّخَلّي عن كلّ محبَّة أخرى أي أن يكون هو أوَّلًا في حياتهم، لذلك، قال الرَّبّ: ”مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ لَا يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُني فَلَا يَسْتَحِقُّنِي. مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا“ (مت 10: 37—39).

أيُّها المُكَرَّسون في خدمة الرَّبّ فلننتبه ولنعدْ إلى ”محبّتنا الأولى“ (راجع رؤ 2: 4)، لئلًا نخسر كلّ شيء، ولئلّا نكون قد تركنا العالم فصار تَرْكُنَا له فخًّا عَلَّقَنَا به وفيه، فنخسر خلاصنا وندخل جحيم الشَّهوة مِنَ الآن وإلى الأبد، وأنْ نكون بدلًا مِنْ أنْ نربح للمسيح بشرًا نبعدُهم عنه بعشقنا لأنفسنا وعبوديّتنا للعالم…

الكنيسة بحاجة إلى أبطال في الإيمان وليس إلى جبناء وخانعين لضغوطات الدُّنيا وما ومن فيها. فلننفض عنّا غبار الكسل والخوف، ولنتجلبب برداء النّعمة الَّذي نقتنيه بالتَّوبة والاعتراف وتقويم السِّيرة، ولنتشدَّد بجهادات القدِّيسين وشفاعاتهم، ولننمو في الرّوح بالصَّلاة المُستَديمة باللِّسان والقلب والذّهن…

”ثِقُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا“ (مر 6: 50). مع المسيح لا مطرح إلّا لمخافة الله الّتي في الحبّ، وهذه أساسها استقامة القلب والفكر والحياة والَّتي لا حياة تكريس من دونها. النّاس يخافون أن يتكرَّس أبناءهم للمسيح، في حين أنّهم لا يمانعون أنْ يكرّسوا حياتهم للعالم ولشهواته، وهذه قمّة الغباء، لأنّ ثمرتها موتٌ روحيّ وخراب. أنْ يتكرَّس ابنك أو بنتك للمسيح هي بركة لك ولبيتك لأجيال وأجيال وسبب لتنزّل رحمة الله عليكم. اليوم، مطلوب منّا جميعًا أن نعيد قراءة حياتنا لِنُصَوِّب بُوصلتها نحو مشرق الخلاص، نحو يسوع المسيح الغالب، الَّذي يُعطي من يغلب بمحبّته وطاعته أن ”أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضًا وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ…” (رؤ 3: 21).

ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

مواضيع ذات صلة