الإنسان وحقيقته الأنطولوجيّة… نظرة مسيحيّة أرثوذكسيّة- النّهار أونلاين- ١٣ كانون الثّاني ۲٠١٩
المطران أنطونيوس (الصوري) متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس
الإنسان وحقيقته الأنطولوجيّة
نظرة مسيحيّة أرثوذكسيّة
“وَقَالَ اللهُ: ’نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ‘. فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ …” (سفر التكوين 1: 26 و27).
المسألة الأساس هي أن الإنسان “على صورة الله”. فما معنى هذه “الصورة” وما هي أوجه الشبه بين الله والإنسان، بين الخالق والمخلوق، بين الموجود والطارئ على الوجود، بين السّرمديّ والفاني، بين اللامحدود المحدود، بين الكامل وغير الكامل؟! …
قبل تجسد وميلاد يسوع المسيح كان سرّ الله غير مكشوف. في المسيح يسوع ابن الله المتجسِّد أزيل الحجاب وكَشفَ الله عن ذاته أنّه ثالوث واحد في الجوهر ومثلّث في الأقانيم. وكلمة أقنوم تعني شخص إلهيّ واحد مع شخص إلهيّ آخَر في الجوهر الإلهيّ الواحد والوحيد والغير القابل للتقسيم أو التجزيء. والأقانيم ثلاثة هم الآب المصدر، والابن المولود من الآب وحده خارج منطق وحدود الزمان والمكان، والروح القدس المنبثق من الآب وحده خارج منطق وحدود الزمان والمكان. فالوحدة بين الأقانيم قائمة لأنّ الأقنوم المصدر للألوهة واحد وهو الآب.
إذًا، الله ثالوث ولذلك قال الكتاب بأن الله خلق “الإنسان عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ“. الإزائيّة في النصّ تكشف أنّ الإنسان واحد “خَلَقَهُ” وفي نفس الوقت هو جماعة مؤلَّفَة من وحدة أساسيّة هي الذكر والأنثى. الذكر والأنثى والجماعة البشريّة كلّهم واحد ومدعوون إلى الوحدة. ففي الاصحاح الثاني من سفر التكوين يكشف الله سرّ الوحدة بين الذكر والأنثى إذ يقول: ” لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ …” (تكوين 2: 18)، وبعد أن خلق الله حواء من ضلع آدم للدلالة على أنّهما واحد يصدر واحدهما عن الآخَر إذ أتت المرأة من الرجل بعمل الله والرجل يأتي من المرأة بنعمة الله المعطاة للرجل. هذا معنى قولة آدم: ” هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ”. في كلّ الأحوال الله هو الجامع لهما والصانع لهما أحدهما من الآخَر وبالآخَر. هذا يفسِّر ما يقوله الكتاب حول العلاقة بين الرجل والمرأة إذ يؤسِّس سرّ الزواج بينهما معبِّرًا عن ذلك هكذا: “لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا” (تكوين 2: 24). الزواج سرّ الوحدة في التمايز بحضور الله الذي يجمع المتفرقين إلى واحد. فقط الله قادر أن يجعل من كيانَين كيانًا واحدًا، هذا ليس عمل الطبيعة بل عمل النعمة الإلهيّة أي الله نفسه في امتداده نحو خليقته بطاقاته الإلهيّة التي يعطي للإنسان أن يشترك بها ليشابهه في صفاته. الله واحد في التمايز بين الأقانيم، وكذلك الإنسان يصير واحدًا بعمل نعمة الله التي تجعل الإثنين واحدًا مع الله وبه وفيه.
صورة الله في الإنسان تعني أنّ الإنسان مفتوح على اللامحدود في محدوديّته، لأنّه مدعوّ إلى التشبّه بالله. والتشبّه بالله فيه عمل بشريّ هو المشيئة والإرادة والسعي لطاعة الكلمة الإلهيّة، وفيه جزء إلهيّ هو عمل نعمة الله أي قوّته في الإنسان، هذا ما يُسمَّى الـ “سينارجيَّا” أي التآزر بين المشيئة البشرية والنعمة الإلهيّة. في الأساس، خُلِق الإنسان حاملًا في ذاته قوة الله بنفخة الروح القدس التي أخرجها الله من فيه إلى أنف الإنسان فصار “آدم نفسًا حيّة” (تكوين 2: 7). خسر الإنسان نعمة الروح القدس بالمعصية واختل التوازن في شخصه ومع الشريك المرأة والكون انقسم على ذاته وعلى الإنسان. الإنسان مدعو إلى العودة إلى إنسانيّته التي خلقه الله ليكونها والتي تحقَّقت في المسيح يسوع ابن الله الوحيد المتجسِّد …
خلق الإنسان للحياة الأبديّة والفرح الذي لا يوصف في سرّ الوحدة بين البشر في الله بنعمة الله بالحبّ الّذي من فوق الذي هو الله نفسه … خارج الحبّ الإلهيّ لا معنى للإنسان ولوجوده وفيه كلّ الوجود…