الأمانة من الإيمان- النّهار أونلاين- ۲٠ كانون الثّاني ۲٠١٩
المتروبوليت أنطونيوس (الصوري)- متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس
الأمانة من الإيمان
كَثُرَ الفساد ولا يوجد فاسدون. كَثُرَ الإلحاد ولا يوجد ملحدون. كَثُرَ مُدَّعو الإيمان ولا يوجد مؤمنون.
الغريب في هذا البلد أنّ الكلّ يتكلّم عن الفساد والسرقات وإفلاس الدولة ولكن الدولة لا تستطيع أن تكتشف أحدًا من المسبّبين. في بلد تحكمه الطائفيّة يندر من يصنع أبسط أعمال الإيمان وهو الأمانة لله. لأن الطائفيّة ليست مرتبطة بالإيمان بل بالانتماء للقبيلة والزعيم. فمن كان أمينًا لله يكون أمينًا للإنسان والوطن ولا يُرتهن لأحد إلا للحقّ، والله هو الحقّ.
* * *
لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمنًا ما لم يكن أمينًا لعقائد إيمانه وصادقًا وثابتًا ووفيًّا في تطبيقها وعيشها. هل يوجد إيمان يدعو إلى الكذب والنفاق؟! أم إلى السرقة والفساد؟! … إذًا الفاسدون والمنافقون والكاذبون والسارقون ليسوا مؤمنين. نحن لا نُكفِّر أحدًا بهذه المقولة بل نبني رأينا بالقياس المنطقي والاستنتاج! … من المسلَّم به أنّ الإيمان يدعو إلى الأمانة لوصية الله، ومن هنا فمن ليس أمينًا ليس من الإيمان بشيء، إلا بالمظهر. لسنا نحن من يقدر أن يحكم على خفايا النفوس والقلوب، الله يحكم ويدين سرائر الناس (أنظر: رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 2: 16). المسألة الحقيقيّة هي أن الله هو الَّذي سيدين خفايا القلوب وأمّهات الأفكار وصلاح أو فساد النوايا والأعمال. من لا يهاب الله يسلك ضدّه ولو كان يقول لنفسه بأنّه مؤمن. المؤمن تُمتَحن نواياه وأفكاره وأعماله بالوصيّة الإلهيّة الآن وفي يوم الدين.
* * *
في العهد القديم، تكلّم الله بلسان إيليَّا النبيّ قائلًا لشعبه: “حَتَّى مَتَى تَعْرُجُونَ بَيْنَ الْفِرْقَتَيْنِ؟ إِنْ كَانَ الرَّبُّ هُوَ اللهَ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَعْلُ فَاتَّبِعُوهُ” (سفر الملوك الأول 18: 21). البشر بسبب خضوعهم لأهوائهم ومن أوّلها “حبّ المال” الّذي هو “أصل كلّ الشرور” يضلّون عن الإيمان الحقّ (راجع: رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس 6: 10). المال هو “البعل” واللذة هي “عشتاروت”. والبعل يقود إلى العشتاروت والعكس صحيح. كثير من الناس المؤمنين في كلِّ زمان يتركون الرب ويتبعون البعل والعشتاروت (راجع: سفر القضاة 2: 13). غير المؤمنين لا يستطيعون أن يقتنوا نور التمييز الحقيقيّ بين الخير والشّرّ لأنّ هذا الأمر هو من مواهب نعمة الله للإنسان. ملكة التمييز البشريّة محدودة بالتحليل والتقدير بناء على المعطيات البشريّة المُقاسة (mesurable)، بينما نعمة التمييز التي من الله فهي كشف لخفايا النفوس والقلوب بروح الرب لمن تنقّى بالتوبة …
* * *
على الإنسان أن يختار كيف يسلك في حياته. الإنسان حرّ. يحاسَب على خياراته وأعماله الناتجة عنها. والخيارات وراءها نوايا والنوايا قد تكون منسجمة مع الخيارات وهذا من الصدق والأمانة، وقد تكون منتزحة عنها بعيدًا وهذا من الرياء. لا يقدر الإنسان أن يخدع الله، قد يخدع نفسه والآخرين ولكنه سيحصد عندها نتيجة خياره بأن يكون منافقًا. قد يغبّطونه في الدنيا ولكنه مكروه في عين الله. من كان أمينًا على القليل يُقام على الكثير (انظر: إنجيل متّى 25: 21 و23)، لكن من يغتصب ما ليس له فالذي له يؤخَذ منه (انظر: إنجيل لوقا 19: 26).
* * *
“هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: أَجْرُوا حَقًّا وَعَدْلًا، وَأَنْقِذُوا الْمَغْصُوبَ مِنْ يَدِ الظَّالِمِ، وَالْغَرِيبَ وَالْيَتِيمَ وَالأَرْمَلَةَ. لاَ تَضْطَهِدُوا وَلاَ تَظْلِمُوا، وَلاَ تَسْفِكُوا دَمًا زَكِيًّا …” (سفر إرميا 22: 3) هذا ما يُرضي الله. أين الحق والعدل في العالم؟! … أين العاملون الرحمة تجاه المظلومين والغرباء والأيتام والأرامل، وتجاه كلّ إنسان في حاجة أو ضيق أو ألم؟! … من يشعر مع من، ومن يعين من؟! … ما قيمة الإنسان اليوم في عين الدول والحكّام؟! …
الرب يبقي لنفسه “سبعة آلاف” لم يحنوا ركبة لبعل (أنظر: سفر الملوك الأول 19: 18)، هؤلاء هم البقية الباقية التي لأجلها يحفظ الرب العالم ويخلّصه بها…