هوشعنا لابن داود الحاكم العادل- النّهار أونلاين- ١٩ نيسان ۲٠١٩
المطران انطونيوس (الصوري) متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للرّوم الأرثوذكس
هوشعنا لابن داود الحاكم العادل
انتظر اليهود ملكًا أرضيًّا يسلِّطهم على البشر، لكنّ الرب كان قد تنبَّأ لهم قائلًا على لسان زكريا النبي حوالي سنة 519 ق.م.: “اِبْتَهِجِي جِدًّا يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ …” (سفر زكريا 9: 9). استقبل اليهود المسيح في دخوله إلى أورشليم ملكًا ظافرًا، بعد حدث إقامته للعازر الذي أنتن إذ كان له أربعة أيام في القبر، هاتفين له هتاف النصر ومعترفين به مسيحًا للرب وصارخين: “هُوشَعْنَا لابْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! هُوشَعْنَا فِي الأَعَالِي!” (إنجيل متى 21: 9). كانوا منتظرين منه أن يردّ لهم الحكم. لكنّه عوضًا عن ذلك، دخل إلى الهيكل وطرد الباعة منه قائلًا لليهود: “بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!” (إنجيل متى 21: 13).
المسيح أتى ليرد أبناء الله إليه، ليعيد دعوة البشرية إلى أحضان الآب، ليسكب روح الرب على كلّ إنسان. هو أتى ليتمّم عدل الله للمساكين والفقراء والأرامل واليتامى والمقهورين. هذا كلّه حقّقه بالحبّ والرحمة والحنان. من يتبعه يسلك وراءه في الحقّ الذي من فوق. وطريق الحق في هذا العالم صليب. أتمّ الحق إذ حمل خطايا البشرية وسمّرها على صليب ظلمهم ليجعل منه رحمة للعالمين وخلاصًا من الكراهية والبغضاء والحسد والكبرياء والأنانيّة. لم يأت المسيح ملكًا أرضيًّا ليحكم القانون والقوّة، بل ملكًا سرمديًّا يسود بالحبّ الإلهيّ على قلوب المؤمنين به ليغيِّر بهم العالم إلى مكان أفضل إذ تسود فيهم كلمته محقِّقة العدل والرحمة. لكن، ليدخل الإنسان في مدار الحبّ الإلهيّ عليه أن يبدأ بالتطهُّر من كلّ عبوديّة داخليّة في القلب، أي أن يتوب. التائب هو الذي يسير في طريق البرّ الَّذي في الحقّ الإلهيّ. على المؤمنين مسؤوليّة كبرى في أن يصير العالم مطرحًا لتجلّي الحقّ، وخاصّة المسؤولين منهم.
* * *
“اَلْمَلِكُ الْحَاكِمُ بِالْحَقِّ لِلْفُقَرَاءِ يُثَبَّتُ كُرْسِيُّهُ إِلَى الأَبَدِ” (سفر الأمثال 29: 1٤).
ما هو الحق؟!… هو ليس من صنع البشر ولا مما يحددونه في قوانينهم الوضعية أو الأخلاقية. إنّه مرتبط بالرب ومعبِّر عن أحكامه التي لا يُسبَر غورها بالعقل البشري بل تعطى هبة روحيّة للتائبين … فقط التائب-البار يستطيع أن يسلك في الحق ويشهد له في أحكامه.
الحق الإلهي هو أساس الحكم وغايته. من يحكم من ذاته يخرب حياته. ومن يطلب الحق لا يهتم برضى الناس. لأن الله أجدر بالطاعة من الناس. في العالم لا يمكن أن يسود الحق ما لم يكن الحاكمون به مستعدين لمواجهة الدنيا لأجله. والحقيقة أن الله يحارب عنهم. لكن، من ينوي سلوك هذا الدرب يضع نصب عينيه الاستشهاد. الاستشهاد الاول هو الموت عن المشيئة الذاتية بإزاء مشيئة الله. والاستشهاد الثاني هو الموت عن مشيئة الناس بإزاء الكلمة الإلهية. هذان الموتان الشهاديان ينتج عنهما صنع الحق الذي هو عدل رحيم ورحمة عادلة إتمامًا للإرادة الإلهية التي تقول: “فَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، لَمَا حَكَمْتُمْ عَلَى الأَبْرِيَاءِ!” (إنجيل متى ١٢: ٧).
* * *
غاية الحكم إرساء العدالة. والعدالة تأتي من معرفة الحق. والحق لا يُعطى إِلَّا للمتغرّبين عن أنفسهم… أن تُظلَم وتقبل الظّلم أمر يمنحك أن تصير حرّا من نفسك متماهيًا مع المسكين والفقير والعاجز … حينها يُكشف لك الحق وتحكم بعدله الَّذِي في البرّ المتنزِّل عليك من فوق … هذا ما أتمّه يسوع الملك الَّذي استقبله جمهور اليهود مسيحًا للرب مهللين له، ولكنهم لمّا رأوا أنّه “قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لاَ يُطْفِئُ. إِلَى الأَمَانِ يُخْرِجُ الْحَقَّ” رفضوه لأنّه لا يحقِّق لهم كبرياءهم ولا يتمِّم مشيئتهم ولا يسلك في ما يعتبرونه هم حقّ، لكنه غفر لهم لمّا صلبوه “لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ” (إنجيل لوقا 23: 34).
لا يعدل حاكم غير سالك في بر الله الَّذِي في الوصية أو الضمير … الحاكم العادل هو فقط الله، لأنه عالم بكل شيء ولا يخفى عليه أمر وهو منزّه من كل غاية ومصلحة. ليحكم الإنسان برضى الله يحتاج روح الرب. هذا هو مسيح الرب، هذا هو مختار الله … المصلوب والقائم …