كلمة المتروبوليت أنطونيوس (الصوري)
راعي أبرشيّة زحلة وبعلبك وتوابعهما
في ذكرى السنة على رقاد الأخ طوني بيطار
بيت الحركة – الميناء
الجمعة في 1 كانون الأول 2023
“طُوبَى لِلْكَامِلِينَ طَرِيقًا، السَّالِكِينَ فِي شَرِيعَةِ الرَّبِّ.
طُوبَى لِحَافِظِي شَهَادَاتِهِ. مِنْ كُلِّ قُلُوبِهِمْ يَطْلُبُونَهُ.
أَيْضًا لاَ يَرْتَكِبُونَ إِثْمًا. فِي طُرُقِهِ يَسْلُكُونَ…”
(مز 119: 1 – 3)
هكذا عرفته، إنسانًا ساعيًا إلى الكمال في حفظ الوصيّة وطاعة المسيح. لم يكن عنده كلمة فوق كلمة الرّبّ، ولا قوّة فوق قوّتها. يخاف أن يرتكب الخطيئة أو أن يصنع ما لا يرضي الرّبّ. كلّ هاجسه هو المسيح وبشارته. كلّ حياته وما فيها متمحور حول يسوع المسيح وكلمته.
الأخ طوني بيطار كان مأخوذًا كلُّه بالمسيح مشدودًا إليه في كلّ حين، لا شيء له معنى عنده ما لم يكن مرتبطًا بالرّبّ وببشارته. هذه المحوريّة للرّبّ في حياته كانت مبدأُ عيشه وطموحاته وأهدافه. لا هدف آخر له سوى يسوع المسيح.
هذه الرؤية للحياة والوجود عاشها الأخ طوني على كلّ الصعد: في حياته الشخصية، في زواجه وعائلته، في بيته، في عمله، في خدمته الكنسيّة والحركيّة وفي كلّ خطوة خطاها، وبكلِّ تفانٍ…
* * *
مسيحيّ أرثوذكسيّ لا غشّ فيه، هكذا هو الأخ طوني بيطار. متمسِّكٌ بكنيسته وإيمانها ومنفتح على كلّ آخَر بالمحبّة دون مساومة على عقيدته والتعليم. هو آبائيّ الروح في تعاطيه الإيمان والروح هو يقود كنيسة المسيح في هذا العالم، وبهذه الروح حمل هاجس النهضة ونَقْلَ البشارة إلى الشبيبة، بخاصّة، لإيمانه بدور الشبيبة في نهضة الكنيسة. كان يمتهن سرَّ الاختفاء إذ يهمُّه أن يَبْرُزَ الشباب أن يُعْطَوا الفرصة للخدمة والقيادة وأن يُدرَّبوا على هذا بالعِشرة مع الـمُـخْتَبَرين أي بالتَّلْمَذَة. هكذا، في أيام رئاسته لمركز طرابلس وفي الذكرى الخمسين لتأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة أصرّ أن يكون للشباب كلمة في احتفال عيد الحركة في مركز طرابلس، وشاء الرّبّ أن أكون أنا هذا الشاب الَّذي حمل كلمة الشبيبة آنذاك. وجدت منه كلّ دعم وتشجيع منذ ذلك الوقت إلى الآن…
رافقته هو وإيرين زوجته في العديد من رحلاتهما البشارية إلى الجنوب والبقاع وعملت معهما في الميناء ومركز طرابلس كعلمانيّ وكإكليريكيّ. كانا لي الدّعم الدائم والاحتضان الكامل في كلّ النّواحي والمجالات. كان هو وإيرين متمسِّكين بمبدأ أن الخدمة في الكنيسة هي امتداد لحياتهما وتحقيق لها وأنها عمل تطوّعيّ على الإنسان أن يبذل ويعطي لاتمامه.
حين شاء الرب أن أدخل الدير في بكفتين، رتّب الله أيضًا أن يتقاعد الأخ طوني من عمله في نفس الوقت، وكانت فرحته لا توصف بأنه سينتقل إلى الخدمة في الدير بالإضافة إلى خدماته الكنسيّة والحركيّة الأخرى. حقيقتُه أنّه إنسانٌ أخذ كلمة الرّسول بولس، “ويل لي إن لم أُبشِّر” (1 كو 9: 16)، على مَحْمَلِ الجِدّ فلم يكن يعرف الاستكانة في الخدمة والبشارة لأنّها هي حياتُه كلِّها.
في الحقيقة لا بدّ من التأكيد أنّ الأخ طوني كان راهبًا بكلّ ما للكلمة من معنى في التزامه النذور الرهبانيّة أي الفقر والطاعة والعفة في حياته البيتيّة والعمليّة والكنسيّة والحركيَّة والديريّة.
في الدير كان يعيش معنا كأحد الرهبان في الصلاة والخدمة. كان يدفع من جيبه لأجل الدير، كما كان في كلّ حياته يخدم البشارة من تعب يديه. كان حُرًّا من المال والسلطة، وعفيف النفس والجسد، وفقيرًا إلى الله لأنّه عاش مع عائلته حياة البساطة الإنجيليَّة. بيته هو هو منذ زواجه إلى اليوم، أثاثه قمّة في البساطة والأناقة، صغيرٌ في المساحة ورَحْبٌ يَسَعُ كلَّ الأحبَّة. الشركة الكاملة الإنجيليّة هي القاعدة في بيته. هو وإيرين متّفقان كلّيًّا على أنّ لا أحد منهما يملك شيئًا لذاته، كلّ شيء مشترك ليس فقط بينهما ولكن أيضًا مع المحتاج…
في الراحة كما في الشدّة، كان الأخ طوني واحدًا، ثابتًا في إيمانه واتّكاله على الله. لم اسمع منه كلمة نابية، كلُّ كلامِه متوازنٌ ومستقيم وصادق وحازم ومُحِبٌّ، ومَنْبَعُ فكرِه كلُّه هو كلمة الله الّتي كان يتأمّل فيها على الدّوام لكي يعيشها على قدر ما يعطيه الله من مِلء…
اليأسُ لا مكان له في فكر وقلب وحياة الأخ طوني. طبعًا، كان يتعب أحيانًا أو يغضب أو يشعر بالخِذْلانِ لأنّه كان يريد للحركة أن تكون متحرِّكة نابضة بالحياة الجديدة، وللكنيسة أن تكون حاضرة في حياة شعبها وشعبُها حيًّا فيها… لكن هذه كلُّها لم تكن له إلّا حوافز لمزيد من العمل والجهد في خدمة البشارة وكلمة الله…
* * *
عندما عرف بمرضه تقبّل الأمر وكأنّي به في مغامرة بشاريّة وخبرة جديدة لعيش كلمة الرّبّ والكرازة بها. كان كمن أُعطي مَهَمَّةً مميَّزة من الله وهو متحمِّسٌ لخوض غمارها حبًّا بالله وأمانة له. كان دَيْدَنُهُ دومًا التّسليمَ بمشيئة الله…
زرته سريعًا بعد معرفتي بمرضه وأقمنا في البيت مع العائلة صلاة مسحة الزيت المقدَّس، وقد أبى إلّا أن يشارك في الصلاة قراءة وترتيلًا وقوفًا رغم شعوره بالتعب. وتكررت زياراتي له والصلوات، وفي كلّ مرّة كنت أرى جسده يضعف ويذوي بينما كانت روحه تشتدّ وإيمانه يزيد وتسليمه لأمر الله ومشيئته يتجلَّى أكثر فأكثر بكلّ رضًى واتّضاع. مرة بعد مرة كانت روحه تصير شفّافة أكثر فأكثر لنور النعمة الإلهيَّة. لم يستسلم للمرض، سلَّمَ أخيرًا لمشيئة الله بعد أن قبل الإخلاء الكامل لذاته بواسطة المرض ونتائجِه على جسده.
مرضه جعله عاجزًا في الجسد هو الَّذي كان لا يتوقّف عن الحركة والعمل والجهد الجسديّ، هذا آلمه لكنّه تقبَّل وصبر على الرّجاء. مع تقادم الوقت صارت الأوجاع تزيد، ومع ذلك لم يفارقْ شُكرُ الله شفتَيه. تحمّل الألم وصبر على عدم إمكانيّة إحضار العلاج له أو تأخُّر ذلك ولم يَقْنَطْ. كان واضعًا حياتَه بين يدَي الله في تسليم يتكامل يومًا بعد يوم، وفي نفس الوقت لم يُردْ أن يوفِّرَ فرصةَ إمكانيةِ شفاءٍ لأنّه كان يريد أن يبشِّر أكثر فأكثر إنطلاقًا من هذه الخبرة. ربّما لم يكن يعلم بعد أنَّ بشارتَه في مرضه ستكون قمّة عمله البشاريِّ وتتويجها!…
هذا الهاجسُ البشاريُّ لديه، الَّذي لم يقطعْهُ المرضُ والوَهَنُ، عِشْتُهُ معه في متابعته لنشاط مسؤول المدّ الحركيّ في الأمانة العامّة قدس الشماس الياس صفتلي، الذي كان يتواصل معه ليضعه في أجواء العمل البشاري، وفي المقابل كان الأخ طوني يفرح بسماع أخبار هذا العمل ويشجّع ويحاور ويقترح من خبرته ما يمكن أن يساعد الشماس والذين معه في مَهمَّتهم.
بعد تعييني معتمدًا بطريركيًّا لأبرشيّة أميركا الشمالية زرته قبل سفري فأوصاني بأن أعود لأكمل خدمتي في هذه البلاد. كانت زيارتي الأخيرة له، وقد علمت أنّني سأنظر وجهَه واسمع صوتَه وآخذ بركتَه للمرة الأخيرة. تواصلت معه بعد سفري، وفي آخر اتصال كان في المستشفى. في اليوم التالي، كنا نحتفل بعيد القديس نيقولاوس العجائبي في الكاتدرائيّة في بروكلين – نيويورك، وفي أثناء ذكري للأسماء في الذبيحة الإلهيَّة وبعد أن ذكرت الأخ طوني مع الأحياء أتاني قدس الأب بورفيريوس إبراهيم ليقول لي بأن الأخ طوني قد رقد في الرّبّ… لقد كان حاضرًا بقوّة في هذا القداس الإلهيّ معي…
* * *
هذه الشهادة اليوم حول الأخ طوني بيطار هي غيض من فيض فيه، لأنّي إن اردت أن أخبر عنه أكثر فلن يُسْعِفَنا الوقت اليوم…
عاش الأخ طوني بيطار للمسيح كلّ حياته، كان مبشِّرًا بكلّ ما للكلمة من معنًى، معطيًا حياته بالكليّة لله، وقد كرّمه الله بإكليل شهداء الكلمة المعترفين الذين تحمّلوا الآلام وثبتوا على الإيمان وقولِ كلمة الحقّ مهما كان الثّمن… كان عاشقًا للكلمة الإله فصار هو كلمةً من الكلمة أثمرت إلى مئة ضِعْفٍ، وعلى مثال المعلّم صار هو معلِّمًا لأنّه لم يحمل في ذاته إلَّا المعلّم لينقله في حياته وخدمته وبشارته…
التفاف المحبّين حول الأخ طوني وإيرين وهلا ليس سوى شهادة على أنّ زرع الكلمة أثمر حبًّا في حياته والذين عرفوه تجلّى لهم إيمانه النّقيّ اكثر فأكثر خلال مرضه، فصار لهم ذخيرةً يتبرّكون منها في خدمته وزيارته. الذين عرفوا الأخ طوني عرفوا قيمته الحقيقيّة وهو على سرير مرضه.
الشكر لله على محبّة الإكليروس والرهبان والراهبات والأخوات والإخوة الحركيين والمؤمنين الذين عبّروا عن هذه المحبة بوقوفهم إلى جانب الأخ طوني وعائلتِه وعلى صَلواتِهم وخدمتِهم لهم.
هذه العائلة المباركة هي شهادة ساطعة في أيامنا أنّ المسيحيّة ممكنة العيش في العالم كما في الدير، وأنّ العائلة هي مطرح أساسيّ للتقديس، وأنَّ القداسة ممكنة في كلّ عصر وزمان ومكان، وأنّ محبّة الرّبّ تغلب محبّة العالم في الّذين يؤمنون.
كم نحن بحاجة إلى أمثال الأخ طوني بيطار الذّين هم ضمير الكنيسة الحيّ وفَعَلَةٌ في كرم الرب يريدون للمسيح أن ينمو ويظهر ولهم أن يختفوا، يَسْعَوْنَ لتشجيع الشبيبة ودفعها إلى العمل في حقل الرب…
نِعِمَّا لك أيها العبد الصالح، كنت أمينًا على الكثير وها أنت اليوم تُقام على الأكثر في فرح ربّك…
السلام لك أيها المبشِّر…
أيّها الأخوات والإخوة “اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ. انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ…” (عب 13: 7)
أيها الأخ الأب طوني بيطار، تعلّمنا منك الدروس الكبرى في محبّة الله…، نفتقدك وسنفتقدك، لكن ذكراك لنا مشعلٌ يضيء طريقنا في اتّباعنا الرب المسيح، صلِّ لأجلنا…