Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 28 أيّار 2023      

العدد 22

الأحد (6) بعد الفصح (آباء المجمع المسكونيّ الأوّل)

اللّحن 6- الإيوثينا 10

أعياد الأسبوع: *28: آباء المجمع المَسكونيّ الأوّل أي الآباء ال 318 المتوشّحين بالله المُجتمعين في نيقية، القدّيس أفتيشيوس أسقف مالطية، القدّيس أندراوس المتباله *29: الشّهيدة ثاودوسيَّا، القدّيس ألكسندروس رئيس أساقفة الإسكندريَّة *30: البارّ إسحاقيوس رئيس دير الدّلماتن، البارّة إيبوموني *31: الشّهيد هرميوس *1: الشّهيد يوستينوس الفيلسوف *2: وداع الصُّعود، القدّيس نيكيفورُس المُعتَرِف رئيس أساقفة القسطنطينيَّة *3: سبت الرّاقدين، الشّهيد لوكليانوس، الشّهيدة بافلا.

الكلمة الإفتتاحيّة

الصُّعود 

لعيد الصُّعود الإلهيّ معنى عظيمٌ وأهمّيّة في مسيرة خلاص المؤمن، لأنّه يرتبط بالهدف النّهائيّ للإنسان ألا وهو التّألُّه: "أنَا قُلتُ إنَّكُم آلِهَةٌ وبَنُو العَليِّ كُلُّكُم" (مز81: 6؛ يو10: 34). فصعود المسيح إلى السّموات، حيث كان قبلًا، لا يعني أنّه كإله لم يكن في السّموات، خلال زمن تجسّده، بل إنّه يصعد إلى هناك ببشريّته. فهو لم يأخذ جسدًا من العذراء ليستعمله إلى حين فقط، لكن ليحتفظ به إلى الأبد. ولم يسكن جسدًا موقّتًا، بل تجسّد دائمًا، وهو يبقى: "الإله-الإنسان"، إلى الأبد.

يقول القدّيس إبيفانيوس القبرصيّ في عظمة عيد الصُّعود وأهمّيّته: "إنّ كثيرين لا يعرفون سموّ هذا العيد، ويعتبرونه دون الأعياد الأخرى. مع هذا، فكما أنّ الرّأس هو جوهرة الجسد، كذلك عيد الصُّعود هو زينة كلّ الأعياد السَّيّديّة وكمالها. أوّل هذه الأعياد هو عيد ميلاد المسيح بالجسد، والثّاني هو عيد الظُّهور الإلهيّ، والثَّالث هو عيد القيامة الَّذي يظهر أكثر مَجدًا من الأوّلَيْن، لأنّ فيه يُغلَب الموت، لكن حتّى هذا العيد ليس هو ملء الفرح، لأنّ المسيح لم يزل على الأرض. أمّا عيد الصُّعود الإلهيّ فقد ملأ العالم بالابتهاج، لأنّ المسيح فتح السّماوات وأرانا رؤية فوق العادة، أرانا جسدَنا مرفوعًا إلى العرش الملوكيّ عن يمين الآب".

في حدث الصُّعود نرى الرُّسُلَ مجتمعين على جبل الزَّيتون، والرَّبُّ الصَّاعد إلى السَّماء يباركهم مُرْسِلًا عليهم نعمته: "وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ، انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ" (لوقا 24: 51).

وصعود المسيح إلى السَّماء وهو يبارك تلاميذه يعني أنّه سوف يكون معهم دائمًا مباركًا إيّاهم بنعمته الَّتي لا تنتهي: "هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ" (متّى 28: 20).

فيما هو يرتفع مباركًا تلاميذه وأنظارهم مثبّتة إليه، ظهر ملاكين متّشحين بالبياض ينظران إلى التّلاميذ، ويشيران بأيديهما إلى السَّماء ليقولا لهم ولنا: "هذَا الَّذي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقًا إِلَى السَّمَاءِ" (أعمال الرسل 1: 11).

 الكتاب المقدّس لم يذكر وجود العذراء مريم مع الرُّسُل يوم الصُّعود، لكنّ التقليد الشَّريف يُثبت ذلك، إذ نسمع في صلاة المساء الكبرى للعيد: "يا ربّ لَمَّا أَتْمَمْتَ، بما أنّكّ صالح، السِّرَّ المكتومَ عن الأجيال منذ الدَّهر، أقبلتَ مع تلاميذك إلى جبل الزَّيتون، وكانت معك والدتُكَ، أيّها البارئُ والخالقُ الكلّ، لأنّ الَّتي توجَّعتْ في حين آلامك أكثر من الجميع، توجُّعًا والديًّا، كذلك وجب أن تتمتّع أكثر من الكلّ بالفرح بتشريف ناسوتك. ونحن، أيضًا، إذ نشارك فرَحَ صعودِكَ إلى السَّموات، أيّها السَّيّد، نُمَجِّدُ غزارةَ مراحمِكَ الصائرةِ لأجلنا" (قطعة المجد والآن في اللّيتين).

نعم، والدة الإله حاضرةٌ بثبات في حدث الصُّعود الإلهيّ. ولهذا الحضور معنى عميق، فهي ترمز إلى الكنيسة الَّتي تولد أمام أعيننا، حيث المسيحُ رأسُها (أفسس 22:1-23)، ووالدةُ الإله صورتُها، والرُّسُلُ أساسُها، وهي تنمو بالبركة المستمرّة الآتية من السَّماء.

يخبرنا الإنجيليّ لوقا أنَّ التّلاميذ من بعد صعود السَّيِّد "رَجعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ" (لوقا 24: 53).

فرحون بكلام الملاك: "هذَا الَّذي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقًا إِلَى السَّمَاءِ" (أعمال الرُّسُل 1: 11)،

فرحون بوعد الرَّبِّ لهم بإرسال الرُّوح القدس، فالحرمان من المسيح بالجسد كان ليربحوا شركة واتّحادًا آخَرَيْن معه: "خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لَا يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي" (يوحنّا 16: 7).

فرحون باليقين إنّ صعود المسيح هو تحقيق الوعد بصعود القدّيسين: "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ" (يوحنّا 12: 32).

فرحون بوالدة الإله، صورة الكنيسة، الملجأ الأمين، والحصن الثَّابت، الَّتي لن تقوى عليها أبواب الجحيم.

فرحون لأنّهم رأوا ربّهم وإلههم صاعدًا فنالوا نصيبًا من روحه، إذ تذكّروا أنّ أليشع طلب من إيليّا النّبيّ أن يكون له نصيبًا من روحه، فأجابه إيليّا: "إِنْ رَأَيْتَنِي صَاعِدًا يَكُونُ لَكَ كَذلِكَ، وَإِلاَّ فَلاَ يَكُونُ" (2 ملوك 2: 10).

أخيرًا، إنّ الاحتفال المبكر للجماعات المسيحيّة الأولى بالصُّعود الإلهيّ يوم عيد العنصرة، هو تعبير عن الارتباط اللَّاهوتيّ للعيدين معًا: صعود السَّيّد إلى السَّماء وانحدار الرُّوح القدس. وقد عبّرت الإيقونغرافيا المبكرة عن هذا الواقع بأيقونات تجمع العيدين معًا، كتلك الَّتي على أمبولات (قوارير—ampullas) الزّيت المقدّس، الَّتي تعود إلى القرن السَّادس.

كذلك انعكس هذا الارتباط على تموضع أيقونة الصُّعود في الكنيسة، إذ أخذت مكانها في قبّة الكنيسة إلى ما بعد القرن العاشر، بحيث إذا ما رفع المؤمن ألحاظه، لينظر أيقونة الصُّعود، شابه الرُّسُل النّاظرين المسيح الصّاعد والمنتظرين نعمة الرُّوح القدس الَّتي ستنحدر من ذرى الأعالي. وليتذكّر المؤمن أيضًا قول الكتاب: "حِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي سَحَابَةٍ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ عَظِيمَيْنِ... فَانْتَصِبُوا وَارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ لأَنَّ خَلَاصَكُمْ قَرِيبٌ" (لوقا 21: 27 – 28).

هكذا يبقى عيد الصُّعود الإلهيّ جوهرة الأعياد السَّيّديّة، وكمال ما صنع المسيح من أجلنا بعمل التَّدبير الإلهيّ. فيه يغادرنا الرَّبّ بالجسد ليبقى معنى دائمًا بروحه القدس. يسلّم الرِّسالة إلى كلّ تلميذ، وهذه الرِّسالة لا نستلمها وكأنّنا يتامى، بل ننال معها "موعد الرُّوح القدس".

طروباريّة القيامة (باللَّحن السّادس)

إِنَّ القوَّاتِ الملائِكِيَّة ظَهَرُوا على قبرِكَ الـمُوَقَّر، والحرَّاسَ صَارُوا كَالأَموات، ومريمَ وَقَفَتْ عندَ القَبْرِ طَالِبَةً جَسَدَكَ الطَّاهِر، فَسَبَيْتَ الجَحِيمَ ولَمْ تُجَرَّبْ مِنْهَا، وصَادَفْتَ البَتُولَ مَانِحًا الحَيَاة، فَيَا مَنْ قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ، يَا رَبُّ المَجْدُ لَك.

طروبارية الآباء (باللَّحن الثّامن)

أنتَ أيّها المَسيحُ إلهنا الفائق التّسبيح، يا مَن أسّستَ آباءَنا القدّيسين على الأرض كواكب لامعة، وبهم هَدَيتنا جميعًا إلى الإيمان الحقيقيّ، يا جزيل الرّحمة المجد لك.

طروباريّة الصّعود (باللَّحن الرّابع) 

صَعِدْتَ بمَجْدٍ أيُّها المسيحُ إلهُنا، وفرَّحْتَ تلاميذّك بموعِدِ الرُّوح القُدُس، إذ أيقَنوا بالبَرَكة أنَّك أنْتَ ابنُ اللهِ المنْقِذُ العالَم.

قنداق الصّعود (باللَّحن السَّادِس)

 لـمَّا أَتْمَمْت التَّدبيرَ الّذي من أجلِنا، وجعلتَ الّذين على الأرض مُتَّحِدِينَ بالسَّمَاوِيِّين، صَعِدْتَ بمجدٍ أَيُّهَا المسيحُ إلهُنا غيرَ مُنْفَصِلٍ من مكانٍ بل ثابتًا بغيرِ ٱفتِرَاق وهاتِفًا بأحبَّائكَ: أنا معكم وليسَ أحدٌ عليكم.

الرّسالة (أع 20: 16– 18، 28– 36)

مُبَارَكٌ أَنْتَ يا رَبُّ إلهُ آبائِنَا            

فإنَّكَ عّدْلٌ في كلِّ ما صَنَعْتَ بِنَا

في تلكَ الأيَّامِ ارتأَى بولسُ أنْ يتجاوَزَ أَفَسُسَ في البحرِ لِئَلَّا يعرِضَ له أن يُبْطِئَ في آسِيَةَ. لأنَّه كان يَعْجِلُ حتَّى يكون في أورشليم يومَ العنصرةِ إِنْ أَمْكَنَهُ. فَمِنْ مِيلِيتُسَ بَعَثَ إلى أَفَسُسَ فاسْتَدْعَى قُسوسَ الكنيسة. فلمَّا وصَلُوا إليه قال لهم: ﭐحْذَرُوا لأنفُسِكُم ولجميعِ الرَّعِيَّةِ الّتي أقامَكُمُ ﭐلرُّوحُ القُدُسُ فيها أساقِفَةً لِتَرْعَوُا كنيسةَ اللهِ الّتي ﭐقْتَنَاهَا بدمِهِ. فإنِّي أَعْلَمُ هذا، أَنَّهُ سيدخُلُ بينَكم بعد ذهابي ذئابٌ خاطِفَةٌ لا تُشْفِقُ على الرَّعِيَّة، ومنكم أنفُسِكُم سيقومُ رجالٌ يتكلَّمُون بأمورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا التَّلامِيذَ وراءَهُم. لذلكَ، ﭐسْهَرُوا مُتَذَكِّرِينَ أَنِّي مُدَّةَ ثَلاثِ سنينَ لم أَكْفُفْ ليلًا ونهارًا أنْ أَنْصَحَ كلَّ واحِدٍ بدموع. والآنَ اَسْتَوْدِعُكُم يا إخوتي اللهَ وكلمةَ نعمَتِه القادِرَةَ أَنْ تبنيكُم وتَمْنَحَكُم ميراثًا مَعَ جميعِ القدِّيسين. إنِّي لم أَشْتَهِ فِضَّةَ أَحَدٍ أو ذَهَبَ أو لِبَاسَ أَحَدٍ، وأنتم تعلَمُونَ أنَّ حاجاتي وحاجاتِ الّذين معي خَدَمَتْهَا هاتان اليَدان. في كلِّ شيءٍ بَيَّنْتُ لكم أنَّه هكذا ينبغي أن نتعبَ لنساعِدَ الضُّعَفَاء، وأن نتذكَّرَ كلامَ الرَّبِّ يسوعَ. فإنَّه قال: إنَّ العطاءَ مغبوطٌ أكثرَ من الأَخْذِ. ولـمَّـا قال هذا جَثَا على رُكْبَتَيْهِ مع جميعِهِم وصَلَّى.

الإنجيل (يو 17: 1– 13)

في ذلكَ الزَّمان رَفَعَ يسوعُ عَيْنَيْهِ إلى السَّماءِ وقالَ: يا أَبَتِ قد أَتَتِ السَّاعَة. مَجِّدِ ٱبْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ٱبنُكَ أيضًا، كما أَعْطَيْتَهُ سُلطَانًا على كُلِّ بَشَرٍ ليُعْطِيَ كُلَّ مَن أعطيتَه لهُ حياةً أبديَّة. وهذه هي الحياة الأبديَّةُ أن يعرِفُوكَ أنتَ الإلهَ الحقيقيَّ وحدَكَ، والّذي أرسلتَهُ يسوعَ المسيح. أنا قد مجَّدْتُكَ على الأرض. قد أَتْمَمْتُ العملَ الّذي أعطَيْتَنِي لأعمَلَهُ. والآنَ مَجِّدْني أنتَ يا أَبَتِ عندَكَ بالمجدِ الّذي كانَ لي عندَك من قَبْلِ كَوْنِ العالَم. قد أَعْلَنْتُ ٱسْمَكَ للنَّاسِ الّذينَ أَعْطَيْتَهُمْ لي مِنَ العالم. هم كانوا لكَ وأنتَ أعطيتَهُم لي وقد حَفِظُوا كلامَك. والآنَ قد عَلِمُوا أنَّ كُلَّ ما أعطَيْتَهُ لي هو منك، لأنَّ الكلامَ الّذي أعطَيْتَهُ لي أَعْطَيْتُهُ لهم. وهُم قَبِلُوا وعَلِمُوا حَقًّا أَنِّي مِنْكَ خَرْجْتُ وآمَنُوا أنَّك أَرْسَلْتَنِي. أنا من أجلِهِم أسأَلُ. لا أسأَلُ من أجل العالم بل من أجل الّذينَ أَعْطَيْتَهُم لي، لأنَّهم لك. كلُّ شيءٍ لي هو لكَ وكلُّ شيءٍ لكَ هوَ لي وأنا قد مُجِّدتُ فيهم. ولستُ أنا بعدُ في العالم وهؤلاء هم في العالم. وأنا آتي إليك. أيُّها الآبُ القدُّوسُ ٱحْفَظْهُمْ بـٱسمِكَ الّذينَ أعطيتَهُمْ لي ليكُونُوا واحِدًا كما نحنُ. حينَ كُنْتُ معهم في العالم كُنْتُ أَحْفَظُهُم بٱسمِكَ. إِنَّ الّذينَ أَعْطَيْتَهُم لي قد حَفِظْتُهُمْ ولم يَهْلِكْ منهم أَحَدٌ إلَّا ٱبْنُ الهَلاك لِيَتِمَّ الكِتَاب. أمَّا الآنَ فإنِّي آتي إليك. وأنا أتكلَّمُ بهذا في العالَمِ لِيَكُونَ فَرَحِي كامِلًا فيهم.

حول الإنجيل

نعيّد في هذا الأحد الّذي يقع قبل أحد العنصرة لآباء المجمع المسكونيّ الأوّل المنعقد في نيقية.

يصف القدّيس صفروني (سخاروف) الّذين تعتبرهم الكنيسة "آباءً" قائلًا عنهم: "كان لديهم خبرةٌ شخصيّةٌ مع الله ومواهب فكريّةٌ بديعةٌ، وقد تلقّنوا العلوم الموجودة في أيّامهم. استطاعوا بالتّالي أن يُدوِّنوا هذه الخبرة من جهةٍ، وأن يواجهوا مختلف الهراطقة في عصرهم من جهةٍ أخرى".

نستطيع القَوْل إنّ آباء الكنيسة هؤلاء هم مسيحيّون "ناضجون ومختبَرُون". إنّ حقيقة الله تنكشف بالخبرة؛ فإنّهم في خبرتهم، الّتي فيها يُنارُون بالنّعمة الإلهيّة، يَرَون الله، كما يكتب الرّسول متّى: "طُوبَى لِلْأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لِأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ" (متّى 8:5). وهذا يصحّ ليس على الآباء في زمن المجامع المسكونيّة فقط، بل في كلّ عصر.

بالعودة إلى المجمع المسكونيّ الأوّل، نجد مَثَلَيْن يشار فيهما إلى المعيار في التّعاطي مع الهراطقة. المثل الأوّل هو القدّيس إيريناوس الّذي يصف عقائد الإيمان مثل صورة ملكٍ جُعِلت من جواهر ثمينة. ويقول إنّ الهراطقة يُعيدون ترتيب هذه الجواهر ليصنعوا صورة ثعلب. والمثل الثّاني هو القدّيس أثناسيوس الّذي يُشير إلى "المنظور الشّامل للإيمان" ويقول إنّ الهراطقة ينقصهم هذا، ولذلك يستشهدون بآياتٍ من الكتاب المقدّس خارج السّياق. يصف هذا المثلان خبرة القدّيسين الّذين يعبّرون بالكلمات عن الخبرة الإلهيّة الّتي منها تأتي عقائد الإيمان. وحده النّقيّ القلب الّذي عاين الله يعرف كيف تبدو صورة الملك ويعلم المنظور الشّامل للإيمان.

لقد عاش هؤلاء القدّيسون في تقليد الكنيسة ونحن نعيش في التّقليد نفسه. لقد اعتمدوا المعموديّة ذاتها الّتي اعتمدناها نحن. لقد حاربوا وجاهدوا الجهاد الحسن مغتصبين ملكوت السّماوات بالقوّة واتّحدوا بالله. لقد تلقّوا الاستعلانات الإلهيّة واستخدمهم الله في هذه المجامع كي يدافعوا عن الإيمان ويُظهِروا لنا من خلال حياتهم الطّريق الضّيّق الّذي يقود إلى المسيح تقدسينا. لم يكونوا رجالًا عاديّين، بل كانوا قدّيسين تكلّموا كما أعطاهم الرّوح القدس أن ينطقوا.

استقبال العنصرة

"وأنا أطلب من الآب فيعطيكم مُعزّيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحقّ الَّذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأمّا أنتم فتعرفونه لأنَّه ماكثٌ معكم ويكون فيكم" (يوحنّا 14: 16 -17).

هذا الوعد الَّذي قاله يسوع لرُسُله، قبل الآلام، قد تمّ في عيد العنصرة في اليوم "الخمسون"، وكلمة عنصرة أصلها عبريّ ومَعناها "اجتماع"، حيث كانوا يجتمعون ويُعيّدون في هذا العيد.

وكما أنّ في العهد القديم أخذ الشَّعب العبرانيّ الشَّريعة في اليوم الخمسين، كذلك يُرسل الله الرُّوح القدس في اليوم الخمسين أيضًا، ليُعطينا "الشَّريعة" أي الرُّوح الإلهيّ الَّذي يسكن فينا ويجدِّدنا ويُحيينا إلى الأبد...

أمّا ثمار الرُّوح القدس الَّتي ينالها المؤمن بيسوع فهي: "محبَّة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفُّف" (غلاطية 5 : 22 – 23).

الإيمان بيسوع وحفظ وصاياه هو الشَّرط الأساسيّ لِنَيْل الرُّوح القدس: "مَنْ آمن بي، كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماءٍ حَيّ" (يوحنّا 7 : 38)، يحصل عندئذ على قلبٍ مُحبٍّ، يصبح وديعًا ومتواضع القلب، يكون عفيفًا في كلِّ شيء، ينال الفرح الدّاخليّ الَّذي لا يستطيع أحد أن ينزعه منه، يملأه السَّلام الَّذي في المسيح، يعامل الجميع بلطف وصلاح، إيمانُه لا يتزحزح، يصبر على المِحَن والاضطهادات...

في أيام بابل انقسمت الشُّعوب وتَفَرَّقوا، أمّا في هذا اليوم يصبح المؤمنون واحدًا في المسيح، فكرًا واحدًا وقلبًا واحدًا وإيمانًا واحدًا، لأنّنا بالرُّوح القدس نصير في الله، وبالتَّالي نَصير مُتَّحدين بعضُنا مع بعض في الله (القدِّيس أثناسيوس الكبير).

في هذا العيد المبارَك يتجدَّد المسيحيّ في حياته الرُّوحيّة، ويَعي أكثر هويَّته المسيحيّة، وبأنّه ممتلئٌ من روح الله، غاية الإنسان المسيحيّ (القدِّيس سيرافيم ساروف)، وبأنّ لديه رسالة نقلِ بشارةِ الحياة إلى جميع مَنْ هم حَوْلَه، إلى عائلته وأقربائه وأصدقائه وجميع مَنْ يُصادفهم في حياته وفي عمله... لأنْ حيث يوجد الرُّوح القدس توجد الحياة الأبديَّة (القدِّيس أمبروسيوس).

نصرخ إليك يا ربّ في هذا اليوم قائلين: "قلبًا نقيًّا أخلق فييَّ يا ألله، وروحًا مستقيمًا جدّد في أحشائي" ...

لا تطرحني مِنْ أمامِ وجهكَ وروحُكَ القدُّوس لا تنزِعهُ منّي" ...

"أيّها المؤمنون، لنعيّد بابتهاج العيد الأخير، الَّذي هو آخر العيد، لأنَّ هذا هو الخمسينيّ غاية الوعد المفترض وإنجازه. لأن فيه انحدرتْ نار المعزّي على الأرض كهيئة ألسُنٍ، وأنارَتْ التَّلاميذ وأوضحتهم مُسارّين الأمور السّماويّة، نور المعزّي حضر وأنار العالم" (كاتسما الستيخولوجيا الأولى سحر أحد العنصرة).

أنقر هنا لتحميل الملفّ