Menu Close
kanisati260524

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي

كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.

الأحد (3) بعد الفصح (المخلَّع)

العدد 21

الأحد 26 أيّار 2024

اللّحن 3- الإيوثينا 5

أعياد الأسبوع: *26: تذكار الرَّسول كَرْبُس أحد السّبعين، القدّيس يعقوب بن حلفى *27: الشّهيد في الكهنة ألَّاذيوس،  القدّيس يوحنّا الرُّوسيّ *28: القدّيس أفتيشيوس أسقف مالطية، القدّيس أندراوس المُتبالِه *29: انتصاف الخمسين، الشّهيدة ثاودوسيَّا، القدّيس ألكسندروس رئيس أساقفة الإسكندريَّة *30: البارّ إسحاقيوس رئيس دير الدّلماتن، البارّة إيبوموني *31: الشّهيد هرميوس *1: الشّهيد يوستينوس الفيلسوف.

الكلمة الافتتاحيّة

آباء الكنيسة والفلاسفة

 الكنيسة عندها التَّقليد منذ البدء، هكذا أيضًا وفي الخضمِّ ذاته، وُجد الكتاب المقدَّس (وهو من ضمن التقليد) الَّذي أسَّس مع كتابات الآباء الرسوليين ومن ثمّ الآباء المدافعين الحيثيَّة المدوَّنة في تقليد المسيحيّة الأولى، أي في القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الكنيسة.

هل كلّ ما كتبه الآباء اللّاهوتيّون القدِّيسون ينتمي إلى تقليد الكنيسة؟ نعم، ولكن يُقبل كتعليم فقط ما قبلته المجامع المسكونيّة أو المحليّة وكلّ ما تمّ التّوافق حوله بما يخصّ اللاهوت والعقيدة والتّعليم فيما بين أباء الكنيسة عبر العقود والقرون، وهو ما يُعرف بـ"توافق الآباء" (consensus de pères). قد يكون صدر عن بعض الآباء آراء في بعض كتاباتهم لا تتوافق مع الإجماع الآبائي، ولذلك لا تُعتبر هذه الآراء تعليمًا في الكنيسة، وهي بالتالي ليست ضمن تقليد الإيمان.فالآباء يُكملون ويتابعون عمل الرُّسل بإنارة الرُّوح القدُس وإرشاده ووحيه، لذا فإنَّ عملهم هذا هو بقوّة عمل الرُّسُل، لأنّ "الروح واحد" (1 كو 12: 4)

نعم، كتب الآباء اللَّاهوت بإنارة من الرُّوح القدس وبنعمته ولكن بصياغة علميَّة تتناسب مع عصرهم نابعة من الخبرة العمليّة في الصلاة وعيش الكلمة... قد يكون بعضهم أخطأ في آراء معيّنة، لا سيّما قبل تحديد العقائد الإلهيّة من قبل المجامع المسكونيّة المقدَّسة، لكنّ الكنيسة ثبّتت التعليم الحقّ وفرزت ما هو غير منسجم مع خبرة وإيمان وعقيدة الكنيسة كما حُدِّدت في مجامعها المُعترف بها. فواقع إنارة الرُّوح ظهر في تعاليم الآباء الَّتي تبنَّتها الكنيسة، واعتُبرت هذه التَّعاليم موافقة ونظيرة لما أتى في الكتاب، فصدَّقَتْ عليها المجامع المقدَّسَة وأصبحتْ تقليدًا للكنيسة. أمّا  ما لم تتبنّاه الكنيسة في مجامعها فأوضحته وأهملته ورفضته. على سبيل المثال رفضت الكنيسة آراء القديس إيريناوس أسقف ليون حول ما يختص بالألفيّة...

أحد الآباء الكبار في الكنيسة القدِّيس فوتيوس الكبير (+٨٩١) معبّرًا عن ضمير الكنيسة وتقليدها، لاحظ بأنّ بعض الآراء اللّاهوتيّة عند بعض الآباء يُستفاد منها أنّها حصلت بسبب خطأ إنساني.

في كلّ الأحوال، لم يحدث حينها أن أوصلت هذه الأخطاء إلى مشاكل آنيّة في عصرهم، كما لم تستدعِ أزمة عصريّة. إذ في تلك الأوقات كان المؤمنون يركّزون على ما هو مفيد لموضوع خلاصهم، إذا ما استُدعوا إلى الجواب وإبداء الرّأي. فما هو في خدمة خلاص الإنسان يستنير به معلِّم الكنيسة ليشهد للحقّ ويسلط الضوء عليه ويؤكّد على تعليم الكنيسة وليس على الآراء والاجتهادات الشخصيّة.

مِنْ هنا إنّ مَنْ يحفظ الحقيقة سالمة في الكنيسة هو الرُّوح القدس. وقد عبّر الآباء عن خبرة شخصيّة لهذه الحقيقة بلغة عصرهم كشهود لها...

شكَّلَ عمل الآباء جوابًا إيمانيًّا وعقائديًّا على ما شكَّلَتْهُ التَّيّارات الفلسفيَّة المعاصرة، والقناعات الدِّينيّة والأفكار العالميّة والسياسيّة. من العوامل الَّتي كان لها دور، في القرون الأولى لحياة الكنيسة، في تشكيل خبرتها وترجمة إيمانها والكرازة به تعليمًا وعقيدة وطقوسًا هي اليهوديَّة والهللّينيّة والغنوصيّة والدّيانات الوثنيّة بالإضافة إلى العوامل السِّياسيّة. شكَّلتْ هذه العوامل مجتمعةً تحدِّيًاللكنيسة وآبائها ومعلميها في نقل الكرازة إلى أبناء عصرها والإجابة على كلّ ما هو مخالف لحقيقة إيمانها ومعرفتها لله الثالوث. استطاع الآباء بقوّة الروح القدس أن يعبّروا عن الكشف الإلهي للحقيقة بلغة زمانهم. لهذا فإنّ تقليد الكنيسة حيّ وهو عمل الروح القدس فيها على مرّ القرون وبالتالي ليس هو مجموعة نظم وأشكال ناريحيّة متغيِّرَة.

آباء الكنيسة يعيشون التقليد وينقلونه حاملين الحقيقة ومفسّرينها عبر الكرازة بجوهر الإيمان والعقيدة الثابت والمُعطى بالإعلان والكشف الإلهيّين في سرّ خبرة عيش الكلمة بالروح.

العكس تمامًا يحصل مع المفكِّرين والفلاسفة الَّذين يبحثون عن الحقيقة بحيرة وعن عدم اختبار الرُّوح.

يفكر الفيلسوف أقلَّه نظريًّا، يتأمَّل باستقلاليَّة في أفكاره السَّابقة، ولا يرتبط أو يتقيَّد بأيَّة نتيجة وصل إليها غيره من الفلاسفة في النِّقطة ذاتها مدار البحث. ذلك أنَّه يتطلَّع ويطمح أن يُعطي حلًّا شخصيًّا للغز العالم يُحسب له فضلًا فيه، وأن يُقنع ذاته بصحَّة وصواب رأيه المستقلّ. هكذا ومع مجيء كلّ فيلسوف كبير عندنا تفسير وتحليل جديدَين لسِرِّ العالم، وذلك بخلق نظام فلسفيّ يستفيد منه الإنسان، نظام فلسفيّ جديد يعني اللُّجوء إلى المدرسة الغنوصيَّة.

أمَّا الآباء فيأخذون ويفسِّرون الحقيقة إنطلاقًا من الغنى الرُّوحيّ وكنز الكنيسة الَّذي يغرفون منه، وهم على خُطى ما قدَّمه الآباء السَّابقون وأضافوه إلى التُّراث الكنسيّ كالتَّفسير العلميّ والرُّوحيّ أيْ الَّذي هو المعين الرُّوحي للكنيسة الَّذي لا ينضب بل يتجدَّد دائمًا، كالماء الَّذي أعطاه الرَّبُّ يسوع للمرأة السّامريّة لتشرب ولا تعطش أبدًا.

فما يستطيع أن يقدِّمه أو يضعه الآباء من جديد هو على صّعيد خبرتهم الشَّخصيّة، وهذه هي مساهمتهم بفتح نافذة جديدة للإنسان المعاصر نحو الحقيقة الَّتي الموجودة والثابتة، ممّا يوسّع الأفق الروحي للمؤن في كلّ زمن ، ما يعطي للإنسان المؤمن أجنحةً للارتقاء إلى خبراتٍ روحيَّة جديدة في حياته منبثة من علم روح الرب غيه على غرار من سبقه من القديسين، وهذه هي الأرض الثّابتة للتَّقليد، رغم عدم وجود حدود وحواجز في الخبرة الرُّوحيَّة والمعرفة بقوة الله رغم الضُّعف البشريّ.

يصنع الفيلسوف بناءً جديدًا مُستعملًا موادًا غير مستعملة من البناء القديم نفسه، أمّا الآباء فيتابعون فيشتركون في خبرة البنيان الروحي الواحد بالروح الواحد في الكلمة الواحد للإله الواحد المثلث الأقانيم. فالأوَّل بفكره المستقلّ يشكّ ويتسائل ويُلغي الماضي، أمّا الثّاني فيخبر سرّ الأبديّة في تدبير الله الخلاصيّ الذي حدث في الزمن الماضي والذي هو دائم خاضر وآنيّ.

إنَّ قُبول أي موقف لاهوتيّ آبائيّ يستند أوّلًا على مدى انسجامه مع تقليدالكنيسة وعقيدتها وإجماع الآباء على مرّ القرون، وثانيًا على تنزّله من روح الرب القدّوس. "فالمقياس الأخير للّاهوت الآبائيّ والمجامع الكنسيّة هي الحقيقة الَّتي يقدِّمونها، والباقي نقاش" (ستيليانوس باباذوبولوس، آبائيّات، الجزء الأوَّل).

طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّالث)

لِتفرحِ السَّماوِيَّات ولتَبتَهِجِ الأرضِيَّات لأنَّ الرَّبَّ صنعَ عِزًّا بساعِدهِ، ووَطِئَ المَوْتَ بالمَوْت وصارَ بِكرَ الأموات، وأنقذَنا من جَوفِ الجحيم ومَنَحَ العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.

قنداق الفصح (باللَّحن الثّامن)

وَلَئِنْ كُنْتَ نَزَلْتَ إلى قبرٍ يا مَن لا يموت، إِلَّا أَنَّكَ دَرَسْتَ قُوَّةَ الجحيم، وقُمْتَ غالِبًا أَيُّها المسيحُ الإله، وللنِّسوَةِ حامِلاتِ الطِّيبِ قُلْتَ افْرَحْنَ، ولِرُسُلِكَ وَهَبْتَ السَّلام، يا مانِحَ الواقِعِينَ القِيَام.

الرّسالة (أع 9: 32– 42) 

رتّلوا لإلهِنا رتّلوا

يا جميعَ الأممِ صَفقّوا بالأيادي

في تلكَ الأيَّامِ، فيما كانَ بُطُرسُ يَطوفُ في جَميع الأماكِنِ، نَزَل أيضًا إلى القدِّيسينَ السّاكِنينَ في لُدَّة، فوَجَدَ هناكَ إنسانًا اسمهُ أينِياسَ مُضَطجِعًا على سرير مِنذُ ثماني سِنينَ وهُوَ مُخلَّع. فقالَ لهُ بطرُسُ: يا أينِياسُ يشفِيكَ يسوعُ المسيحُ. قُم وافتَرِش لنفسِك. فقام لِلوقت. ورآه جميعُ السَّاكِنين في لُدَّةَ وسارُونَ فَرَجَعوا إلى الرَّبّ. وكانت في يافا تِلميذَةٌ اسمُها طابيِثا الَّذي تفسيرُهُ ظَبْية. وكانت هذه مُمتَلِئةً أعمالًا صَالحةً وصَدقاتٍ كانت تعمَلُها. فحدَثَ في تِلكَ الأيّامِ أنَّها مَرِضَت وماتَت. فَغَسَلوها ووضَعُوها في العُلِّيَّة وإذ كانت لُدَّةُ بقُربِ يافا، وسَمعَ التَّلاميذُ أنَّ بطرُس فيها، أرسلُوا إليهِ رجُليْن يسألانِهِ أنْ لا يُبطِئَ عن القُدُوم إليهم. فقام بطرُسُ وأتى معَهما. فَلمَّا وَصَلَ صَعِدوا بهِ إلى العُليَّة. ووقَفَ لديِه جميعُ الأرامِلِ يبكينَ ويُرينَهُ أقمِطةً وثِيابًا كانت تَصنَعُها ظَبيةُ معَهَنَّ. فأخرَجَ بُطرُسُ الجميعَ خارجًا، وجثا على رُكبَتيِه وصلَّى. ثمَّ التَفتَ إلى الجَسدِ وقالَ: يا طابيثا قُومي. ففتَحت عيَنْها. ولما أبصرَتْ بُطرُسَ جَلَست، فناوَلها يَدَهُ وأنهضَها. ثم دعا القدّيسيِنَ والأرامِلَ وأقامها لَديهمِ حيَّةً. فشاعَ هذا الخبرُ في يافا كلِّها. فآمنَ كَثيرون بالرَّبّ.

 الإنجيل (يو 5: 1-15) 

في ذلك الزّمان، صعد يسوع إلى أورشليم. وإن في أورشليم عند باب الغنم بركةً تسمى بالعبرانيّة "بيتَ حَسْدا" لها خمسة أروقة، كان مضطجعًا عليها جمهور كثير من المرضى من عميان وعرج ويابسي الأعضاء ينتظرون تحريك الماء، لأنّ ملاكًا كان ينزل أوّلًا في البركة ويحرِّك الماء، والَّذي ينزل أوّلًا من بعد تحريك الماء كان يبرأ من أيّ مرض اعتراه. وكان هناك إنسانٌ به مرض منذ ثمانٍ وثلاثين سنة. هذا إذ رآه يسوع مُلقىً وعلم أنّ له زمانًا كثيرًا قال له: أتريد أن تبرأ؟ فأجابه المريض: يا سَيِّد ليس لي إنسان متى حُرِّك الماء يُلقيني في البركة، بل بينما أكون آتيًا ينزل قبلي آخَر. فقال له يسوع: قم احمل سريرك وامشِ. فللوقت برئ الرَّجل وحمل سريره ومشى. وكان في ذلك اليوم سبتٌ. فقال اليهودُ للَّذي شُفي: إنّه سبتٌ، فلا يحلّ لك أن تحمل السَّرير. فأجابهم: إنّ الَّذي أبرأني هو قال لي: إحمل سريرك وامشِ. فسألوه: من هو الإنسان الَّذي قال لك إحمل سريرك وامش؟ أمّا الَّذي شُفي فلم يكن يعلم مَن هو، لأنّ يسوع اعتزل إذ كان في الموضع جمعٌ. وبعد ذلك وجده يسوع في الهيكل فقال له: ها قد عُوفيتَ فلا تعدْ تخطئُ لئلاّ يصيبك شرٌّ أعظم. فذهب ذلك الإنسان وأخبر اليهودَ أنّ يسوع هو الَّذي أبرأه.

حول الإنجيل

إنّ محور التّلاوة الإنجيليَّة الَّتي سمعناها مُقعدٌ عند باب الضَّأن في أورشليم، حيث يوجد بِركة "عجائبيَّة" تُدعى بيت حسدا (بيت الرَّحْمَة) يتجمَّع حولها المـُصابون بأمراضٍ مُزمِنة. وكان ملاك الرَّبِّ ينزل، مِنْ وَقتٍ لآخَر، ويحرّك ماءَها، فمَن نَزَل فيها أوّلًا كان يبرأ من أيِّ مرضٍ اعتراه. فالمسألة، إذًا، هي مسألة سباق؛ ومُقعَد التّلاوة الإنجيليَّة عاجزٌ عن المُسابقة نَظَرًا لوضعه، ولم يكن أحدٌ يتحنَّن عليه ويَرميه في الماء في اللَّحظة المـُؤاتية، إذ إنّ كلّ واحدٍ من المتحلِّقين حول البِركة كان همُّه خلاصَ نفسه؛ لَكأنّ الشِّعار هنا: "يا ربُّ نفسي".

هذا رآه يسوعُ وعَلِمَ أنّ له زمانًا طويلًا على هذه الحال (ثمانيًا وثلاثين سنةً)، فسأَله: "أتُريد أن تُشفى؟". هذا هو يسوع، وهذا دَأْبُه. والبشيرُ متّى الإنجيليّ يُخبرنا عنه أنّه "كان يطُوف المُدُن كُلّها والقُرى، يُعلِّمُ في مَجامِعها ويكرزُ ببشارة الملكوت، ويشفي كلَّ مَرضٍ وكلَّ ضُعفٍ في الشّعب" (متّى9: 35). هذا هو يسوع؛ إنّه الرَّؤوفُ، الرَّحومُ، الحَنَّان. يسوعُ لا يمرّ مرورَ الكرام. يسوع لا يتحمَّل أنْ يسمع مَوجوعًا يستغيث ولا يستجيب له. يسوع لا يصرِف وَجهه عن كلّ مَن هو بحاجة إليه. وما انعطافُه على أَعمًى هنا، ومُقعَدٍ هناك، ومَيتٍ وَحيدٍ لأُمّه هنالك، ألّا تمتماتٌ استباقيّةٌ للحبّ "الجنونيّ" العظيم الَّذي سيقوله على الصَّليب، مرّةً وإلى الأبد، دَمًا مُهراقًا فِداءً للعالَمِين وخلاصًا.

قد يبدو سؤالُ يسوعَ للمُقْعَد "أَتُريد أَن تُشفى؟" مُستغرَبًا؛ إذ هل يَتوقّع من الـمُقَعد أن يُجيبه بِسِوَى أن يقول له: "نعم يا سيّدُ، هذا ما أُريده؟" فلماذا سأَله إذًا؟ سأَله لِسببَين: أوّلًا، ليتأكّد من أنّه يُريد هذا الشِّفاءَ ويرغب فيه رغبةً صادقة. إنّ ربّنا يسوعَ المسيح يمتاز بالتّواضع والوداعة "تَعَلَّموا منّي (يقول) لأنّي وديعٌ ومتواضعُ القلب (متّى 11: 29)؛ ولعلَّه، بسبب من هاتَين الفضيلتَين، يتّصف بالخَفَر الَّذي ينبثق منهما. أجل إنّ يسوعَ خَفِرٌ؛ وهو، بفعل خَفَرِه، لا يفرض نفسَه علينا فرضًا. هو يحترم حرّيّتَنا، حرّيّةَ أن نقبلَه أو أن نرفضَه. يسوع لا يقتحم أحدًا. وثانيًا، ليُحمّلَه المسؤوليّة عن نعمة الشّفاء الَّتي سيمنحُه إيّاها مجّانًا، وسيَقبلها هو بإرادته، إذ سيقول له: "لقد عُوفِيتَ، فلا تَعُد إلى الخطيئة" لِئلّا تُصابَ بأَسوَأ". أَمّا قولُ يسوعَ للمُقعَد "لا تَعُد إلى الخطيئة" فمَردُّه إلى أنّ شعب العهد القديم كان يعتقد أنّ المرضَ هو علّةُ الخطيئة.

قال له يسوع: " قُمِ احمِلْ سريرك... فللحال بَرِئَ وحَمل سريرَه...". كلمةُ اللّه وحدَها كانت كافيةً لحصول الشّفاء، وهذا تَمّ دُفعةً واحدةً وليس على مراحل. لا فاصلَ زمنيًّا بين كلمة اللّه وفعلها. هي، بِحَدِّ ذاتها، الفعلُ. هكذا كانت في الخلق "وقال اللّه: "ليَكُن نُورٌ"، فكان نُور" (تك 1: 3)، وهكذا هي في مُعجزات الشِّفاء وإِقامة الـمَوْتى.

أمّا اليهود فقد ثارت حفيظتُهم واستنكروا مُبادرةَ يسوع تُجاه الـمُقعَد لأنّها تمّت يَومَ سبت، والسَّبت، في شريعة اليهود، هو يومُ الرّاحة، فلا يجوز العملُ فيه. وأمّا هو فلم يكترث لاستنكارهم، وأراد أن يُعلّمهم أمرَين: الأوّل أنّه هو ربُّ السَّبت (متّى 12: 8)، والثَّاني أنّ السَّبت جُعِل للإنسان وليس العكس (مرقس 2: 27 و 28). إنّ يسوع حَرَّرَنا من ناموس الحرف ليربطنا بناموس الرُّوح، لأنّ "الحرف يُمِيت أمّا الرُّوح فيُحِيي" (2 كور 3: 6). ولذلك نقرأ: "... لأنّ النّاموس بمُوسى أُعطِي، وأَمّا النِّعْمَةُ والحقّ فبيسوعَ المسيحِ حَصَلا" (يو 1: 17).

"أؤمن يا ربّ فأعِن عدم إيماني"

وردت هذه الآية عن الإيمان عند الإنجيليّ مرقس (٩: ٢٤)، أثناء الحوار بين الرَّبّ مع الرَّجُل من الجمع الَّذي أتى بابنه المصاب بالصَّرع، ليشفيه يسوع. وذلك في معرض سؤال يسوع للرَّجُل إن كان يستطيع أن يؤمن، وأنّ كلّ شيءٍ ممكن للَّذي يؤمن. فلو ذهبنا بالمقابل إلى قولٍ آخر ليسوع في إنجيل متّى عن الَّتينة الملعونة لأدركنا ماهيَّة وكَنَه هذا الإيمان الَّذي يطلبه الرَّبُّ من والد المصروع: "إنْ كان لكم إيمان ولا تشكُّون فلا تفعلون أمر الَّتينة فقط، بل إن قلتم أيضًا لهذا الجبل انتقل واهبط في البحر فإنَّه يكون ذلك. وكلُّ ما تطلبونه في الصَّلاة بإيمانٍ تنالونه."

ليست المرَّة الأولى الَّتي يفترض فيها يسوع الإيمان القَويّ عند من يطلب منه شيئًا، حيث يبدو أنَّ إيمان أبو المصروع كان ضعيفًا وبحاجة إلى ثباتٍ، بمعنى آخر كان إيمان مبتدِئ، لذلك ظهر وكأنَّه في حيرةٍ من أمره ليس لأنَّه لا يعرف كيف يؤمن فحسب بل إنّ يسوع يريده أن ينتقل من إيمان العهد القديم المتمثِّل بالكتبة والفرِّيسيِّين الَّذين تركوا أثقل ما في النَّاموس وهو العدل والرَّحْمَة والإيمان (متّى ٢٣: ٢٣)، إلى إيمان العهد الجديد بالرُّوح القدس.

يحاول يسوع بهذه الآية أن يعين الإنسان للإيمان به دون أن يمسَّ حرِّيّته وإرادته في الخيار أو عدمه. قلَّة الإيمان تدلُّ على الضُّعف وعدم الإيمان هو إلحاد. والرَّجُل أبو المصروع يُظهر اهتمامه وسعيه كي يصير مؤمنًا. بكلِّ الأحوال نحن لا نعلم صدق ما يقوله إلّا بناءً لسُلوك يسوع معه. وبما أنَّ يسوع استجاب لطلب الرَّجُل بعد سؤاله له عن إيمانه، ممّا يؤكِّد لنا أنَّ الرَّجُل كان صادقًا، ولم يكن فقط ذا مصلحة بأن يُشفى ابنه فيطمئنّ ويفعل لاحقًا ما يشاء. بل إنّ سؤال يسوع كان يدلُّ على واجب التزام الرَّجُل بعد شفاء ابنته بهذا الإيمان الَّذي سيغيّره ويغيّر نمط حياته، وإلّا فإنَّ حياة ابنه وحياته سيكونان سلعة في يد الشّرّير.

الإيمان يبدأ بقبول الإنجيل قبولًا قلبيًّا، ومن قَبِل تعليم يسوع بقلبٍ تائب هو مؤمن. ومن رفضه عُدّ من الكفرة.

أرسل يسوع تلاميذه للنَّاس وقال لهم: "إذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلِّها. مَنْ آمَن واعتمد خَلُصَ ومَنْ لم يؤمن يُدان" (مر ١٦: ١٥).

 الإيمان كما يعرفه الرَّسول بولس: "هو قوام الأمورٍ المرجُوَّة والَّتيقُّن من الحقائق الَّتي لا تُرى... وبغير الإيمان يستحيل نَيْل رضى الله، لأنَّه يجب على الَّذي يتقرَّب إلى الله أن يؤمن بأنَّه موجود وأنَّه يُجازي الَّذين يبتغونه" (عب ١١: ١، ٦).

"يسوع هو مُبدِئ إيماننا ومتمِّمه، يسوع الَّذي، في سبيل الفرح المعروض عليه، تحمّل الصَّليب مستخفًّا بالعار، ثمّ جلس عن يمين عرش الله" (عب ١٢: ٢).