Menu Close
kanisati250224

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي

كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.

الأحد 25 شباط 2024            

العدد 8

أحد الفرّيسيّ والعشّار

اللّحن 5- الإيوثينا 5

أعياد الأسبوع: *25: أحد الفرّيسيّ والعشّار، القدّيس طاراسيوس رئيس أساقفة القسطنطينيّة *26: القدّيس بورفيريوس أسقف غزّة، القدّيسة فوتيني السّامريّة، البارّ ثاوكليتس *27: القدّيس بروكوبيوس البانياسيّ المعترف، القدّيس ثلالاوس السّوريّ *28: القدّيس باسيليوس المُعترف، البارّ كاسيانوس الرّومانيّ، البارّتين كيرا ومارانا *1: البارّة في الشّهيدات إفذوكيَّا، البارَّة دومنينا *2: الشّهيد إيسيخيوس *3: الشّهداء افتروبيوس وكلاونيكس وباسيليسكس.

كلمة الرّاعي

الحياة في الحقّ والفريّسيَّة

"وجميعُ الَّذين يريدون أن يعيشوا بالتَّقوى في المسيح يسوعَ يُضطهَدون" (2 تي 3: 12)

التّقوى (ευσέβεια) الحالة الدَّاخليَّة للإنسان وحقيقة قناعاته العميقة في جوابه على كشف السّرّ الإلهيّ له حول حقيقة الله المُستَعْلَنَة بيسوع المسيح، والّتي تظهر في عيشه "للإيمان المُسلَّم مرَّةً للقدِّيسين" (يه 3) شهادةً لهذا الإيمان الواحد الحقّ في استقامة الحياة وامتدادًا للعبادة في البرّ والورع.

في العهد الجديد، كلمة "التَّقوى" ترتبط بـ "الطَّريق" (οδός) في سفر أعمال الرُّسُل (راجع 2:9؛ 9:19، 23؛ 4:22؛ 14:24، 22)، أي "طريق" الإيمان والعبادة الَّذي ميَّز الَّذين اتَّبعوا الرّبّ يسوع المسيح، أي ترتبط بالمسيحيَّة والمسيحيّين الَّذين كانوا يُضطهدون ويتألَّمون من أجل الشَّهادة لهذا الإيمان المُحارَب من اليهود والأمم والَّذي يحمله الرُّسُل والكنيسة إليهم لخلاص العالم... و"الطَّريق"  ليس هو سوى المسيح الَّذي هو "الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ" (يو 14: 6 ب)، فالمسيحيَّة هي المسيح والمسيح هو المسيحيّة، وبدونه لا وصول لأحد إلى الله إلى الآب (يو 14: 6 ت)...

التَّقوى، إذًا، هي تجسيد الإيمان ومعرفة الله في عيش "حقّ" الإنجيل، في القلب والأعماق وفي الحياة والعبادة عبر خدمة الرّبّ بورع. لا ينفصل التّعليم عن التّقوى ولا تنفصل التّقوى عن التَّعليم القويم (راجع 1 تي 6: 3؛ 2تي 13:1؛ 3:4؛ تي 9:1، 13؛ 1:2) الَّذي جاء لضحد كلّ تحريف للإنجيل على أساس خرافات وظنون عقليّة (راجع 1تي 4:1؛ 7:4؛ 3:6-6؛ 2تي 4:4؛ تي 14:1؛ 2بط 16:1).

*          *          *

إنجيل الفَرِّيسيّ والعشّار، الَّذي هو بدء زمن التّريودي والتّحضير للصَّوْم الكبير المُقَدَّس، تطرحه علينا الكنيسة كبداية لِمَسيرَة استعدادنا للسَّيْر في "الطَّريق" نحو القيامة عبر سلوك "طريق" الآلام في الجهاد الطّوعيّ لقهر الأهواء المُسْتَعْبِدَة إيّانا والمعيقة لنا في مسيرنا نحو الحياة الجديدة الّتي بالمسيح يسوع المخلِّص...

لا شكّ أنّ العِبَرَ التّي يمكن استخلاصها من هذا المثل كثيرة، لكنَّنا اليوم سنتوقَّف عند الموقف الفَرّيسيّ للفَرِّيسيّ. فالحالة الفَرِّيسيّة هي حالة تَزَمُّت ناموسيّ في حرفيَّة قاتلة لروح الشَّريعة أو لروح الكلمة. ومصدر هذا التزمّت ليس سوى الكبرياء، أي أن يرى الإنسان نفسه أسمى وأطهر من غيره، حيث يعتمد في نظرته هذه إلى نفسه على مدى دقّة التزامه بحرف الشّريعة بحجّة الأمانة للشّريعة. وهنا الطّامة الكُبرى، إذ تصير الأمانة للشّريعة مَطَيَّة لإبليس في إقناعه للفرِّيسيّ بأنّه هو الأمين على ما لله كونه متمسِّك ليس فقط بما ينصّه النّاموس بل عبر ما يستخرجه من النَّاموس من شرائع للتَّعبير عن مغالاته في دقة حفظه للنَّاموس على ما نرى في المثل حيث يقول الفرّيسيّ: "اللّهمَّ إنّي أشكرك لأنّي لستُ كسائر النّاس الخَطَفَةِ الظّالمين الفاسقين، ولا مثلَ هذا العشّار. فإنّي أصومُ في الأسبوع مرّتين وأعشّر كلّ ما هو لي" (لو 18: 11 و12). ناموس موسى لا يطلب صومًا أسبوعيًّا، كما أنّه يُحدِّد ما يجب أن يُعشَّر. إذّا، الفريسيّ يصنع أكثر ممّا تطلبه الشَّريعة، هذا في الظّاهر وفي الحرف، لكنّ روح الشّريعة هي "إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خَطَأةً إِلَى التَّوْبَةِ" (مت 9: 13، 12: 17 وراجع هو 6: 6).

روح النّاموس هي ذبيحة الرّحمة لا ذبيحة المُحْرَقَات والله يطلب معرفته كطالب لخلاص الخطأة أكثر من تَقَادم تُرفع إليه في العبادة. مشكلة الفرّيسيّة هي روح الدّينونة النّابعة من معرفة مغلوطة لله وتفسير خاطئ لكلمته وعيش منحرف لوصيّته. الفرّيسيّ يطلب أن يُسمَع ويُطاع ولا يقبل تصويبًا وتقويمًا من أحد لأنّه يعتبر نفسه المرجع الأوّل والأخير للتَّعليم. هذا بحدّ ذاته هرطقة وتجديف على روح الله. من كان هكذا يُخاطر بخسارة خلاص نفسه في حين أنّه يرى ذاتَه مُخَلَّصًا. هذه قمّة الضَّلالة الّتي يُوقِع بها إبليس من وقع في الفريسيَّة... لكي يضمّه إلى موكب المأسورين معه في جهنّم العذاب...

*          *          *

أيُّها الأحبّاء، إنّ الفريسيَّة مرض قتّال ينبغي علينا جميعًا أن نهرب منه بروح التّقوى أي الوداعة والاتّضاع النّابعَيْن من استقامة الإيمان وعمقه الَّذي هو المحبَّة كما علّمنا إيّاها الرّبّ يسوع المسيح أي بذلًا وتضحية مع جرأة في البشارة بالحقّ ولطف في الرُّوح القدس للرَّحمة وانفتاح على الآخر بالاتّضاع.

في زمننا الحاضر نجد أبواقًا تدَّعي الحفاظ على الإيمان والكرازة به باسم الأرثوذكسيّة في حين أنّها تتعاطى بروح فرّيسيّة باستعلاء ودينونة وتنصَّب نفسها معلَّمة وحيدة للإيمان. هذا أمر خطير ومضرّ بإيماننا الأرثوذكسيّ لأنّه يضخُّ حقدًا وكراهيةً للآخَرين ويسبّب نفورًا من الكنيسة الأرثوذكسيّة ورفضًا لها. المؤمن الحقّ متمسِّك بإيمانه وليس زِمِّيتًا متعصِّبًا، وذلك لأنّه يعرف الله ويحيا بالتَّقوى وفيها مبشِّرًا بروح الوداعة والمحبّة بالإيمان القويم الَّذي هو نفسه منذ بداية كرازة الرَّبّ وحتّى اليوم والمسلَّم إلى الرُّسُل والقدّيسين.

لنتعلَّم يا أحبَّة من تواضع العشّار أنّنا خطأة نحتاج رحمة الله، ولا ندن من يخالف إيماننا بل فلنرحمه، ولا نتعظِّم في أنفسنا ببرِّ ذواتنا "إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ" (رو 3: 23) الَّذي هو محبّة وسلام وليس إله تشويش (1 كو 14: 33).

يا أحبَّة، "لِنهُربنَّ مِن كلام الفرّيسيّ المُتَشامِخ، ونتعلَّم تواضُعَ العشاّر، هاتفين بالتنهُّداتِ إلى المخلِّص: ارحمنا أيُّها الحَسَنُ المصالحةِ وحدك" (قنداق أحد الفريسي والعشار)

ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...

+ أنطونيوس

متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

طروباريّة القيامة (باللَّحن الخامس)

لِنُسَبِّحْ نحنُ المُؤمنينَ ونسجُدْ للكلمة. المُساوي للآبِ والرُّوحِ في الأزَليّةِ وعدمِ الابتداء. المَوْلودِ مَنَ العذراء لِخلاصِنا. لأنّه سُرَّ أن يَعلُوَ بالجَسَدِ على الصَّليب. ويحتمِلَ المَوْت. ويُنهِضَ المَوْتى بقيامتِهِ المَجيدة.

قنداق أحد الفرّيسيّ والعشّار (باللّحن الرّابع)

لِنهُربنَّ مِن كلام الفرّيسيّ المُتَشامِخ، ونتعلَّم تواضُعَ العشاّر، هاتفين بالتنهُّداتِ إلى المخلِّص: ارحمنا أيُّها الحَسَنُ المصالحةِ وحدك.

الرسالة (2 تي 3: 10-15)

صلُّوا وأَوْفُوا الرَّبَّ إلهَنا     

الله معروفٌ في أرضِ يهوذا 

يا ولدي تيموثاوس، إنّك قد اِستقرأت تعليمي وسيرتي وقصدي وإيماني وأناتي ومحبّتي وصبري واضطهاداتي وآلامي، وما أصابني في أَنطاكية وإيقونية ولُستَرة، وأيّةَ اضطهاداتٍ احتملتُ، وقد أنقذني الرَّبُّ مِن جميعها. وجميعُ الَّذين يريدون أن يعيشوا بالتَّقوى في المسيح يسوعَ يُضطهَدون. أمّا الأشرارُ والمُغوُونَ من النَّاس فيزدادون شرًّا مُضِلِّين وضالّين. فاستمِرَّ أنتَ على ما تعلّمتَه وأيقنتَ به، مِمَّن تعلّمتَ، وأنّك منذ الطّفوليّةِ تعرف الكتبَ المقدّسة القادرةَ على أن تُصَيِّرَك حكيمًا للخلاص بالإيمان بالمسيح يسوع.

الإنجيل(لو 18: 10-14)

قال الرَّبُّ هذا المَثل: إنسانانِ صعِدا إلى الهيكلِ ليصلّيا، أحدُهما فرّيسيٌّ والآخَرُ عشّار. فكان الفرّيسيُّ واقفًا يُصَلّي في نفسه هكذا: "اللّهمَّ إنّي أشكرك لأنّي لستُ كسائر النّاس الخَطَفَةِ الظّالمين الفاسقين، ولا مثلَ هذا العشّار. فإنّي أصومُ في الأسبوع مرّتين وأعشّر كلّ ما هو لي". أمّا العشّار فوقف عن بُعدٍ ولم يُرِدْ أن يرفع عينيه إلى السَّماء، بل كان يَقرَعُ صدرَه قائلًا: "اللّهمَّ ارحمني أنا الخاطئ". أقولُ لكم إنّ هذا نَزَل إلى بيته مُبرَّرًا دون ذاك. لأنّ كلَّ من رفع نفسه اتّضع، ومن وضع نفسه ارتفع.

حول الإنجيل

"إجعلني فَرّيسيًّا بروح العشّار؟!"

مع بداية زمن التّريودي، وفي الأسابيع الَّتي تسبق بداية الصَّوْم الأربَعينيّ المُقَدَّس تضع الكنيسة أمامنا هذا المثل الَّذي قاله الرَّبُّ يسوع المسيح حول فَرّيسيّ وعشّار ذهبا إلى الهيكل ليُصلّيا، وعند خروجهما منه يخبرنا السَّيّد أنّ العشّار عاد مبرًّرًا دون الفرّيسيّ...

للوهلة الأولى يُخَيَّل إلينا أنّ الفرّيسيّ إنسانٌ شرّير، سيّئ، مجبول بالخطايا، وأنّ العشّار إنسان بارٌّ وصالح ولكنّ ذلك غير صحيح! فالفرّيسيّ طَبَّقَ كلّ قواعد الاستقامة الخارجيّة وِفقًا للنَّاموس وبشكلٍ صحيح؛ فقد كان يصوم ويصلّي ويقدّم العشور. وبالمقابل، فإنّ العشّار خرق جميع قواعد النَّاموس؛ فكان نموذجًا للخطأة في زمن يسوع؛ جباة الضَّرائب كانوا يهودًا خانوا شعبهم، وعملوا لصالح الرُّومان، وابتزّوا الأموال من النَّاس، وجمعوا أموالًا للضَّرائب أكثر ممّا يحتاجون، وأعطوا تلك الأموال للمحتلّين الرُّومان واحتفظوا بالباقي لأنفسهم فهم بالتّالي كانوا يُعتبرون أناسًا خاطئين جدًّا. وبالفعل، إنّ هذا العشَّار لم يكن مختلفًا عن سائر أعضاء زمرته. أضف إلى ذلك أنَّه لم يحفظ الشَّرائع، ولم يَصُمْ مرَّتَيْن في الأسبوع، ولم يعشّر لا بل كان يسرق المال بجسارة. ولكن، عندما دخل الهيكل، لم يَجرُؤ على الوُقوف في المُقَدِّمة، كما فعل الفرّيسيّ. لم يجرؤ على شكر الله لأنَّه لم يكن مثل الآخرين، كما فعل الفرّيسي. على الأقل، في تلك اللَّحظة، عرف حقيقته فكان له لقاءٌ حقيقيّ مع الله، وفي هذا اللِّقاء، صرخ قلبه: "اللَّهُمّ ارحمني أنا الخاطئ". مشكلة الفَرِّيسيّ أنّه لم يكن قد التقى حقًا مع الله الحَيّ، ولم يُقابِل قط الله البارّ القدُّوس المجيد، الرَّحيم والرَّؤوف، البَطيء الغضب، والكثير الرَّحْمَة. لقد ظنّ، كما يفعل معظمنا، أنَّه بهذه القواعد الخارجيّة وحفظها بشكلٍ صحيح يصبح مُبرَّرًا أمام الله، ولكنّ ذلك لم يحصل.

يا إخوة، إنّ الكنيسة حازمة في ضرورة تطبيق قواعد الحياة الرُّوحيّة؛ يجب أن نصوم، وينبغي أن نصلّي يجب علينا أن نقدّم أكثر من العشور، ويجب أن نسهر ويجب أن نقوم بخدمات الكنيسة ويجب أن نستمرّ في السُّجود ويجب أن نقرأ الكتاب المقدَّس – هذه الأشياء كلّها ضروريّة، لا بل في جوهر حياتنا وجهادنا، إنّها ما يُثبِتْ أنّ لدينا الإيمان، وهي الطُّرُق الَّتي نفتح بها أنفسنا على نعمة الله واللِّقاء به. ومع ذلك، وكما يعلّم جميع آباء الكنيسة وقدّيسيها، فهذه تبقى وسائل لتحقيق الغاية؛ وهي ليست الغاية في حَدِّ ذاتها. إذا أهملنا هذه الوسائل، ستكون حياتنا خاطئة حقًا، ولكن إذا اعتقدنا أنّنا نتبرّر بمجرّد قيامنا بهذه الأفعال، فإنَّنا أيضًا نبقى بَعيدين جدًّا عن الله؛ لا بل ومخدوعين، إذ نستحيل، كما يقول آباء الكنيسة عبدة أوثان لأنّنا نعبد القوانين وليس واضع القانون.

نحن نعرف أنّ ذلك العشّار قد تاب لأنّه عند خروجه من الهيكل "نَزَل إلى بيته مُبرَّرًا "، كما حصل مع زكّا. ولكن، نعلم يقينًا أنّه، في تلك اللَّحظة أمام الله، وهو يسجد إلى الأرض في زاوية الهيكل، استُجيبتْ صلاته لأنّها كانت حقيقيّة وصادقة. أمّا صلاة الفَرِّيسيّ فلم تكن حتّى صلاةً؛ لقد كانت مجرَّد تدريب على برّه أمام عقله وأمام النَّاس. ونحن اليوم، وكما تقول إحدى قطع هذا الأحد، لا نملك حتّى برّ الفَرّيسيّ، ومع ذلك فإنّنا لا نزال نميل إلى التَّفاخر بمدى عظمتنا. ونحن نخطئ مثل العشَّار لا بل أكثر منه، ومع ذلك لا نملك ذرّة من تواضعه أمام الله، فكيف نجسر أن نرنّم: "افتح لي أبواب التَّوبة يا واهب الحياة"؟ فلنأخذ من الفرّيسي التزامه ومن العشار تواضعه ونقدّم توبةً حقيقيّةً، صارخين مع داوود "ارحمني يا الله بحسب عظيم رحمتك!"، فقد اقترب الختن!

ما بين الكبرياء والتّواضع

"تعَلَّموا منّي فإنّي وَديعٌ ومتواضعُ القلب" (متى 11: 29)

يقول القدِّيس أفرام السوري أنّ بداية تخلّي الله عن الإنسان تكون حين يُبعِد الإنسان نفسه عن التّواضع. لأنّ عدم التَّواضع بالنِّسبة للقدّيس أفرام يأتي من كلّ شرّ دخل إلى البشريَّة وكان سببه حبّ السَّيْطرة، لهذا كره الرَّبُّ التّكبُّر، الَّذي جعل البشريَّة مَكروهة مِنَ الله. التَّواضُع ليس ضعفًا كما يحاول العالم تصويره لنا، بل هو قُوَّة المسيح فينا، كما يؤكِّد القدّيس لاوُن الكبير قائلًا: "كلّ انتصار المخلّص، ذاك الانتصار الَّذي به غلب الشّيطان والعالم، إنَّما بدأ بالتَّواضع وانتهى بالتَّواضع. هذا التَّواضع الَّذي اعتنقه ربُّنا يسوع المسيح، من حشا أمِّه وحتّى عذاب الصَّليب". يقول القدِّيس مرقس النَّاسك: "أسس الشّرّ في النَّفس يستحيل تدميرها طالما هي متجذِّرة بقوَّةِ التَّكبُّر". يتكلَّم القدِّيس مكسيموس المُعترف عن التَّكبُّر: "بأنّه يأتي من نوعَيْن من الجَهل: جَهل المَعونة الإلهيَّة وجَهل ضعف الإنسان البَشَريّ". أمّا التَّواضع عند القدّيس غريغوريوس السّينائيّ، وبحسب الآباء القدِّيسين، فهو نَوْعان: "أن يرى الإنسان نفسه أنّه الأدنى من الآخَرين، وأنْ ينسب كلّ ما يحقِّقُه إلى الله وليس إلى ذاته". هذا التَّعريف للتَّواضع يعني أنّ كلّ مسيرة الإنسان المَسيحيّ وجهاداته ينبغي أن يرافقها جهادٌ آخَر وقد يكون قاسيًا وصعبًا، هدفه اقتناء التَّواضع. وإلّا فإنّ هذا المَسيحيّ باطلًا يُدعى مَسيحيًّا .

إذًا المُتواضع الحَقيقيّ لا يرى نفسه صالحًا، بل اسوأ من الجميع. هذا ما نكتشفه من سيرة القدّيس سلوان الآثوسيّ، الَّذي يقول: "عندما كنت في العالم كان النّاس يمدحوني وكنت أظنُّ أنّني صالح. ولكن عندما أتيت إلى الدَّير، صادفت أناسًا صالحين حقًّا، بل ولا أساوي حتّى ضفر إصبعهم أو جَوْرَبهم". هكذا الإنسان الَّذي يُخضِع نفسه لهوى الكبرياء ويسقط فيه يهلك. ويقول أيضًا: "إنْ كنا متواضعين فلسوف يُرينا الرَّبُّ الفردوس كلَّ يوم. ولكن بما أنّنا غير متواضعين، فعلينا أن نُجاهد وأن نَشِنَّ حربًا ضِدَّ أنفسنا. ثم إن تغلبت على نفسك فعندئذ يزوّدك الرَّبُّ بِعَوْنه المُقدَّس مقابل تواضعك وتعبك". إذًا عند الإنسان المسيحيّ التَّواضع المطلوب هو تواضع الذِّهن لا تواضع الوجه، لا تواضع الشَّكل بل تواضع الدّاخل.

لنحذر كي لا نثق ببرِّ ذواتنا أو نظنّ بأنَّنا أقدَسَ مِنْ غيرنا أو أن نُجاهِر بفضائلنا، أو نكون كاملين في نظر أنفسنا، بل لنتواضع على غرار رَبِّنا ومعلِّمنا يسوع المسيح الَّذي كشف لنا أنّنا بالتَّواضع "ينبغي لنا أن نُتِمَّ كلّ بِرٍّ" (متّى 3: 15). لنتذكَّر أنّ "لا صالحٌ إلّا واحِدٌ"، وأنه لا يمكننا إحراز أيَّة فضيلة ولا الحفاظ على أيّة فضيلة بدون التَّواضع، لأنّ التَّواضع هو الَّذي يحرِّك شهيَّتنا إلى إتْمام كلِّ عملٍ صالِحٍ. لذلك، التَّواضُع الأكبر هو معرفة الذَّات. ما مِنْ شيء يدفع الإنسان إلى التَّوبة بعمقٍ مثل التَّواضع. لأنّ التَّكبُّر هو ظلمة تحجب رؤية ومعرفة خطايانا كي نتوب عنها ونتخلَّص منها. والَّذي يرى خطاياه صغيرة وبسيطة سيقع حتمًا في خطايا أسوأ منها...