نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي
كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.
أحد مرفع اللَّحم (الدَّينونة)
العدد 8
الأحد 23 شباط 2025
اللّحن 2- الإيوثينا 2
أعياد الأسبوع: *23: القدِّيس بوليكَربُس أسقف إزمير، القدِّيسة غورغوني أخت القدِّيس غريغوريوس اللَّاهوتيّ *24: تذكار ظهور هامة السَّابق للمرَّة الأولى والثَّانية *25: القدِّيس طاراسيوس رئيس أساقفة القسطنطينيّة *26: القدِّيس بورفيريوس أسقف غزَّة، البارَّة فوتيني السَّامرية، البارّ ثيوكليتُس *27: القدِّيس روفائيل (هواويني) أسقف بروكلين، القدِّيس بروكوبيوس البانياسيّ المعترف، القدِّيس ثلالاوس السُّوريّ *28: القدِّيس باسيليوس المعترف، البارّ كاسيانوس الرّومانيّ، البارَّتين كيرا ومارانَّا *1: سبت مرفع الجبن، تذكار جامع للآباء الأبرار الَّذين تلألأوا بالنُّسك والجهاد المُقَدَّسَيْن، وتذكار البارّة في الشّهيدات إفدوكيّا، والبارَّة دُومنينا.
كلمة الرّاعي
مَنْ يَدِين؟ مَنْ يَخْلُص؟!
"لأَنَّ اللهَ يُحْضِرُ كُلَّ عَمَل إِلَى الدَّيْنُونَةِ، عَلَى كُلِّ خَفِيٍّ، إِنْ كَانَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا." (جا 12: 14)
تُحضِّرنا الكنيسة المقدَّسة لدُخول الصَّوْم الكبير بِرَفْعِنا تَدْريجيًّا نحو الانتباه الرُّوحيّ واليَقَظَة أكثر فأكثر كلّ أحدٍ من الآحاد قبل بدء الصَّوْم. هذا الأحد المعروف بـ"أحد الدَّيْنونة" تضعنا الكنيسة أمام حقيقة قلوبنا وثمار إيماننا. مَنْ صار رَحيمًا تشبَّهَ بالله: "تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي رِثُوا الْمُلْكَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ إِنشاءِ الْعَالَمِ"، ومَنْ تَخَلَّف عن الرَّحْمَة صار شبيهًا بإبليس: "اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ". المعادَلَة بَسيطة، إذا رحمْتَ تُمجَّد وتَصير وارثًا لله، وإذا أغْلقْتَ قَلْبَك عن الرَّحمة صِرْتَ شَريكًا لإبليس وملائكته في الهلاك الأبديّ...
* * *
عمل الله في الدَّينونة "التَّمييز" بين الخراف والجداء. الحديث عن خراف وجداء هو ليذكّرنا بأنَّ الرَّبَّ هو الرَّاعي الصَّالِح (راجع يوحنّا 10: 11 – 16)، وهو الَّذي يُميِّز بسهولة بين الخراف أي المؤمنين وبين الجداء أي غير المؤمنين، فهو "راعي الخراف العظيم" (عبرانيين 13: 20) وراعي النُّفوس وأسقفها (راجع، 1 بطرس 2: 25). هذا التَّمييز يَصير على أساس عَيْشِ الرَّحمة أي خدمة الضَّعيف بمحبَّةٍ وحُنوّ بلطفٍ ووَداعَة... يسوع هو "ابن البشر"، وهذه صورة عن الله الدَّيَّان منذ العهد القديم كما نراها في سفر دانيال النّبيّ (دا 7: 13-14). ابن الإنسان يَدين أي الإله المتجسِّد الرَّبّ يسوع المسيح هو الَّذي يَدين. لم يسأل عن صلوات وأصوام وعن توبة، هو دان دون أن يسأل لأنّه يعرف خفايا القلوب. ليس أنَّ الصَّلاة والصَّوْم وطاعة الكلمة الإلهيَّة ليست مُهمَّة، بل بالعكس لأنّ نتيجة الصَّلاة والصَّوْم والتَّوْبة هي رحمةٌ تجاه الآخَر، وإن لم تُثمِر هذه كلّها رحمةً فهي أعمالٌ عَقيمة لأنَّها بدون روح أي يصنعها الإنسان خارجيًّا من دون أن تُقرَّبَه إلى الله بل تصير هي غايةٌ بِحَدِّ ذاتِها وتاليًا أصنامًا يعبدها الإنسان...
* * *
أيُّها الأحبّاء، الدَّينونة هي للرَّبِّ يسوع المسيح الإله والإنسان معًا. هو "يعرف ما في الإنسان" (يو 2: 25)، هو الَّذي شارك الإنسان طبيعته وعرف ضعفها ولكنَّه جعلها تغلب الإنسان العتيق بطاعة الآب الكاملة (راجع فيليبي (2: 5 – 11). من هنا ليس لأحدٌ أنْ يَدين لأن لا أحد لديه المعرفة الكاملة الَّتي لدى المسيح لكلّ إنسان. يحقّ للإنسان أن يَدين نفسه، وهذا ينفعه ليَتَّضِع ويَتوب، فلا يَعود ينظر إلى خطايا إخوته وضعفاتهم بل لمعرفته بحقيقته الدَّاخليَّة يتّجه إلى الله ليطلب غفرانًا ورحمةً، ويتّجه إلى الآخَرين بروح الرَّحمة الَّتي يطلبها إلى الله من أجله. من يَرحم يُرحم، ومن يتحنّن على الضَّعيف يتحنّن الله على ضعفاته، ومن يَستر عَراء خطيئة أخيه يستر له الله عُريه من البِرِّ أمام الملائكة، ومن تَلَطَّف بالمهشَّمين شفى الله تهشُّمَه بسبب سقطاته... الرَّبّ رحمته واسعة وعلى الإنسان أن يستمطرها مِنْ خلال تعهُّد المترُوكين والمنبوذين والمحتقَرين والمهانين والمدانين والمساكين بأعمال الرَّحمة، فيهبه الله نعمته ويغفر له خطيئته ويزيد عليه بركته لكي يزداد في عمل المحبَّة والخدمة والتَّضحية ناظرًا إلى المسيح الَّذي هو المخدوم في كلِّ بشرٍ مَألوم... وهكذا يُرحَم مَنْ يَرحم ويَخْلُص بحنان الله ونعمته ويُدان مَنْ يَدين فلا يَرحم المسكين...
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّاني)
عندما انحدرتَ إلى المَوْت. أَيُّها الحياةُ الَّذي لا يَموت. حينئذٍ أَمَتَّ الجحيمَ بِبَرْقِ لاهوتِك. وعندما أقمتَ الأمواتَ من تحتِ الثَّرى. صرخَ نحوكَ جميعُ القُوّاتِ السّماويّين. أَيُّها المسيحُ الإله. مُعطي الحياةِ المجدُ لك.
قنداق مرفع اللَّحم (باللَّحن الأوَّل)
إذا أتيتَ يا الله على الأرضِ بمجدٍ. فترتعدُ منكَ البرايا بأسرها. ونهرُ النّارِ يجري أمامَ المِنبر. والمَصاحفُ تُفتَّحُ. والخفايا تُشَهَّر. فنجِّني حينئذٍ من النّار الّتي لا تُطفأ. وأهّلني للوقوف عن يمينِك، أيُّها الدَّيانُ العادِل.
الرّسالة (1 كو 8: 8-13، 9: 1- 2)
قُوَّتِي وَتَسْبِحَتِي الرَّبُّ.
أَدَبًا أَدَّبَنِي الرَّبُّ.
يَا إِخْوَةُ، إِنَّ الطَّعَامَ لا يُقَرِّبُنَا إِلَى اللهِ لِأَنَّا، إِنْ أَكَلْنَا لا نَزِيدُ، وَإِنْ لَـمْ نَأْكُلْ لا نَنْقُصُ. وَلَكِنِ انْظُرُوا أَنْ لا يَكُونَ سُلْطَانُكُمْ هَذَا مَعْثَرَةً لِلضُّعَفَاءِ. لِأَنَّهُ إِنْ رَآكَ أَحَدٌ، يَا مَنْ لَهُ العِلْمُ، مُتَّكِئًا فِي بَيْتِ الأَوْثَانِ، أَفَلا يَتَقَّوَى ضَمِيرُهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَلَى أَكْلِ ذَبَائِحِ الأَوْثَانِ؟ فَيَهْلِكَ بِسَبِبِ عِلْمِكَ الأَخُ الضَّعِيفُ الَّذِي مَاتَ الـمَسِيحُ لِأَجْلِهِ. وهَكَذَا، إِذْ تُخْطِئُونَ إِلَى الإِخْوَةِ، قَدْ تُجَرِّحُونَ ضَمَائِرَهُمْ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ، إِنَّـمَا تُخْطِئُونَ إِلَى الـمَسِيحِ. فَلِذَلِكَ، إِنْ كَانَ الطَّعَامُ يُشَكِّكُ أَخِي، فَلا آكُلُ لَحْمًا إِلَى الأَبَدِ لِئَلَّأ أُشَكِّكَ أَخِي. أَلَسْتُ أَنَا رَسُولًا؟ أَلَسْتُ أَنَا حُرًّا؟ أَمَا رَأَيْتُ يَسُوعَ الـمَسِيحَ رَبَّنَا؟ أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ عَمَلِي فِي الرَّبِّ؟ وَإِنْ لَـمْ أَكُنْ رَسُولًا إِلَى آخَرِينَ، فَإِنِّي رَسُولٌ إِلَيْكُمْ لِأَنَّ خَاتَمَ رِسَالَتِي هُوَ أَنْتُمْ فِي الرَّبِّ.
الإنجيل (متّى 25: 31- 46)
قَالَ الرَّبُّ: مَتَى جَاءَ ابْنُ البَشَر فِي مَـجْدِهِ، وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَـجْلِسُ عَلَى عَرْشِ مَـجْدِهِ وَتـُجْمَعُ إِلَيْهِ كُلُّ الأُمَمِ فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُـمَيِّزُ الرَّاعِي الـخِرَافَ مِنَ الجِدَاءِ، وَيُقِيمُ الخِرَافَ عَنْ يَـمِينِهِ وَالجِدَاءَ عَنِ يَسارِهِ. حِينَئِذٍ يَقُولُ الـمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَـمِينِهِ تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي رِثُوا الْمُلْكَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ إِنشاءِ الْعَالَمِ، لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي، وَعَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي، وَكُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي، وَعُرْيَانًا فَكَسَوْتُـمُونِي، وَمَرِيضًا فَعُدْتُـمونِي، وَمَـحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. حِينَئِذٍ يُـجِيبُهُ الصِّدِّيقُونَ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ، وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ، وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَـحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقوُل لَـهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ بـِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُم ذَلِكَ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ فَبِي فَعَلْتُمْوهُ. حِينَئِذٍ يَقُولُ أَيْضًا لِلَّذِينَ عَنِ يَسارِهِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ لأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي، وَعَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي، وَكُنْتُ غَرِيبًا فَلَمْ تُؤوُونِي، وَعُرْيَانًا فَلَمْ تَكْسُونِي، وَمَرِيضًا وَمَـحْبُوسًا فَلَمْ تَزُورُونِي. حِينَئِذٍ يُـجِيبُونَهُ هُمْ أَيْضًا قَائِلِينَ: يَا رَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا أَوْ عَطْشَانًا أَوْ غَرِيبًا أَوْ عُرْيَانًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ مَـحْبُوسًا وَلَـمْ نَخْدِمْكَ؟ حِينَئِذٍ يُـجِيبُهُمْ قِائِلاً: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ بِـمَا أَنَّكُمْ لَـمْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ بِأَحَدِ هَؤُلاَءِ الصِّغارِ فَبِي لَـمْ تَفْعَلُوهُ. فَيَذْهَبُ هَؤُلاَءِ إِلَى العَذَابِ الأَبَدِيِّ وَالصِّدِّيقُونَ إِلَى الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ.
حول الإنجيل
إحدى صفات الله عند أغلبيَّة النَّاس هي أنّه هو " الدَّيّان الحقيقيّ " والنِّهائيّ. هناك شرورٌ عَديدة في حياةِ البَشَر تَمُرُّ دونَ حساب بسبب فساد العدالة أو فِقدانِها في الواقع البَشَريّ. لكنَّ هذه الشُّرور بالنِّهايَة لن تَفُرَّ مِنْ دَينونَة "الدَّيّان" العادِل. فالله في قُدْرَتِه الكُلِّيّة هو الوَحيد القادر أنْ يُجْري الحُكم ويَدين المسكونة بالإنصاف. الأمر الَّذي يَعجز عنه التَّحرِّي البَشَريّ والقضاء الإنسانيّ والفَساد الإجتماعيّ هنا.
في هذا الأحد الثَّالِث من التّريوديّ الشّريف تُقيم الكنيسة تذكارًا ليوم الدَّينونة، " أي لمجيء ربّنا يسوع المسيح الثّاني الرَّهيب". والتَّذكار في الكنيسة لا نُعَيِّدُه بمعنى الذِّكرى فقط! إنّما بقصد التَّذكير والتأوين.
تذكّرنا، إذن، الخدمة الإلهيّة اليوم، والنَّصّ الإنجيليّ الَّذي سمعناه، بيوم الدَّينونة. وتُوضِح لنا، كما يُشَدِّد الصَّوْت الإنجيليّ، بأيِّ مقياس سوف نُدان. في تأمّلنا بأيقونة المجيء الثّاني لربِّنا يسوع المسيح نرى ميزانًا للأعمال يتوسّطها، وهو مستَنِد إلى مائدةٍ قد وُضِعَ عليها الإنجيل المقدَّس. اليوم الكنيسة تفتح المصحف على هذا النَّصّ، إنّه دستور الدَّينونة. وما سَمِعناه كان واضِحًا، أي أنّنا سنُحاسَب بمِقياس الرَّحمة، أي "المحَبَّة".
المحبَّة تَعني بصراحة، تفضيل الآخَر على ذاتي، والأنانيّة تعني العكس تمامًا، أي تَفضيل ذاتي على الآخَرين. "أُحبّ الآخَر" لا يَعني أبدًا أنّني أملك مشاعر حبّ نحوه وحسب، بل بالتَّمام أنّني أريد، وأستطيع أن أفضّله على حبّي لذاتي، وأنّ يكون خيره قبل خيري. هذا هو فعل المحبّة الذّي سنُفرَز على أساسه.
نعم سنُدان يومًا، فلْنَسْهَر! وسنُدان جميعنا فلا دِين ولا عِرق ولا أيّ انتماء يكون لنا شفيعًا، فقط أعمال محبّتنا! سنُسْأَل آنَذاك حَصْرًا عمّا إذا كنّا قَد عَمِلْنا مِنْ أجل مَحو البؤسِ والتَّهميش والظُّلم وعدم الرَّحمة عن وَجْهِ الأرض!
هكذا نتحَضَّر للصَّوْم، أوّلًا، بالسَّهر لأنَّ الزَّمان قصير! وثانيًا، بالتَّركيز على أنَّ غايَةَ الصَّوْم القادِم، هي فعل المحبَّة. نحن لا نَعْبُد الله حقيقة إن لم نخدم أولاده البشر. فلا تَدَيُّن دون عطاء ولا إيمان دون محبّة الآخَر وخدمته. إنَّ الدّين ويوم الدّين يزيداننا التزامًا ومسؤوليَّة. صومًا مباركًا، آمين.
إدانة النَّفس وتبرير الأخ
الإدانة انشغالٌ نَستَسيغُه. إلَّا أنَّنا يجب أن ننتبه إلى هذه المشكلة، لأنّ الإدانة تَجَلٍّ لأنانيّتنا. إذا أدَنّا إخوتنا بقساوةٍ ومِنْ دونِ رَحْمَة، فهذا يعني أنَّنا ممتلِئون من الأنانيّة، ويجب أن نُباشِر عملًا روحيًّا جدّيًّا. قال المسيح: “لا تَدينوا، لكي لا تُدانوا” (مت 7: 1).
هذه العادة السَّيِّئة المتفرِّعة من الكبرياء، تتغذَّى وتنمو من هذه الأخيرة، لأنّ الكبرياء تزيد بعد كلّ إدانة، بسبب الإرضاء الذَّاتيّ الَّذي يُرافقها”..
إنّ الإدانة تُبعِدُ عَنَّا النِّعْمَة والعِنايَة الإلهيَّتين. تبدأ الإدانة بالكبرياء، والكبرياء ليست سوى غياب المحَبَّة. الإنسان المتكبِّر لا يُحِبُّ قريبه. وحين نَدين إخوتنا، فهذا يعني أنّنا لا نحبّهم. فإذا أحببنا أخينا، لن نَدينه. حتّى ولو رأينا عَيْبًا جليًّا في قريبنا، سوف نجد تبريرًا له ونَسْتُره. والمسيح ذاته، حين كان على الصَّليب يتهيَّأ لِتَسليم روحه للرَّبّ، فكَّر بصالبيه. لم يتكلّم بالسُّوء عليهم ولم يَدِنهم، بل بالعكس، قال: “يا أبتاه، اغفر لهم؛ لأنّهم لا يَدرون ماذا يفعلون” (لو 23: 34). لقد برَّر لهم.
قال استفانوس أوّل الشُّهداء والشَّمامِسة، مع نَفَسِه الأخير بعد أن رجمه اليهود: “يا ربّ، لا تُقِم عليهم هذه الخطيئة” (أع 7: 60). اهتمّ القدّيس استفانوس بألَّا يكون لراجميه خطيئةٌ وذنب أمام الرَّبّ. تصرُّفُ القدِّيسين هذا يَشْهد لمحبّتهم للآخَرين. في النِّهاية، يسوع المسيح محبَّةٌ حقَّة، ومثالٌ لحياتنا، وكمالٌ لنا. لم يَدِن قدِّيسو الله حتّى الشِّرّير نفسه. يجب أن نملك حبًّا والديًّا كهذا لأقربائنا وألَّا نَدين أحدًا. كلُّ مَن يعظّم نفسه مذنبٌ أمام الله. إنّ الإنسان الَّذي يَعِي نواقِصَه الكثيرة لن يَدين غيره. وبالعكس، كلُّ مَن يظنُّ أنَّه نقيٌّ، يشرع بسهولةٍ بإدانة الآخرين، ظانًّا أنّه حرٌّ من خطيئةٍ معيّنة. هو، منطقيًّا، يبدو نقيًّا، ولكن من وجهة نظرٍ روحيّة، ليس كذلك. هذه جريمةٌ ضدَّ وصايا الله. القدّيس باييسيوس الآثوسيّ يقول إنّنا “يجب أن نملك مصنعًا للأفكار الجيّدة في داخلنا”، أي أن تُنتج عقولنا أفكارًا حسنة، إذ حين تُنتج أفكارًا شرّيرة، يتشوّه كلّ شيء في داخلنا، وتُعاني نفسنا وقلبنا وعيوننا وكلّ ما في داخلنا. إنّ رؤية خطايانا وضعفاتنا تساعدنا على تجنّب الإدانة، فتهبط نفوسنا وأذهاننا وقلوبنا في مطار تواضع ربّنا يسوع المسيح، الَّذي سيضع أفكارًا رائعةً فينا.
أوّلًا، ينبغي أن ندرك أنّ كلًّا منّا لديه خطايا عديدة. قد تختلف خطايانا عن خطايا قريبنا الَّذي نَدينه، ولكنّ هذا لا يهمّ. ما يهمّ فقط هو أنّنا خطأةٌ أمام الله، وبعض خطايانا أسوأ بكثيرٍ من خطايا قريبنا. وقد يحدث أنّ أخانا الَّذي أخطأ تابَ عن خطيئته. عبر الإدانة، لا نتوب، وبالتّالي نَخطَأ أكثر.
بعد ذلك، حين نشعر بعمق سقطاتنا وندرك مدى إثمنا، نتحسَّر بشدّة. وعندما نبدأ بالتَّحَسُّر على خطايانا، نلتجئ إلى الصَّلاة ويبدأ العمل الرُّوحيّ. حينها، تختفي كلُّ رغبةٍ في التَّفَوُّه بكلمةٍ ضدّ الآخَر، لأننا بإدانته ندين فعليًّا أنفسنا ونُقصي عنّا نعمة الله.
قال الرَّبّ : “سِراج الجسد هو العين، فمتى كانت عينُك بسيطةً فجسدك كلّه يكون نيّرًا، ومتى كانت شريرةً فجسدك يكون مظلمًا” (لو 11: 34). إذًا، تُعلّمنا الكنيسة تجنُّب مراقبة الآخَرين، لأنّنا بذلك نُدَمِّر نظرنا ونرى قريبنا بعدسة الشَّر...
يجب أن نتعلّم التَّكلُّم بالخير على أقربائنا. عندما نُسأل عن الآخَرين، يجب أن نقول فقط أقوالًا حسَنة، ولو بالغنا قليلًا. مَن يمدح أخاه يملُك فضيلةً عظيمة. ثمّة قصّةٌ رائعةٌ في كتاب الآباء الشُّيوخ، كيف أتى بعض السَّائحين إلى شيخٍ في إحدى المرّات قائلين: “نحن نبحث عن الأنبا بيمين”. كان الشَّيخ ناسكًا عظيمًا. شرع بمدح الأنبا بيمين، قائلًا إنّه يجدر بهم حتمًا أن يلتقوا به، وحين يرونه يجب أن يطلبوا منه أن يصلّي لأجله. حين التَقى السَّائحون بالأنبا بيمين، قالوا له: “أنبا، قبل أن نجدك، ذهبنا لنرى شيخًا يعيش بالقُرب مِنْ هنا، وقال لنا أشياءً جيّدةً كثيرةً عنك”. فابتسم الأنبا وقال: “مَن يمدح أخاه هو أعظم من الممدوح”. للأسف، غالبًا ما يصعب علينا أن نمدح الآخَرين في الحياة. من الأسهل أن نقذف بضعة جُملٍ مُهينَة... لقد سلك القدّيسون على نحوٍ مُغاير – مَدَحُوا إخوتهم.
في الصَّوْم الكبير، نقول باستمرارٍ صلاة القدّيس أفرام السُّريانيّ: “هَبْ لي أن أعرف ذنوبي وعُيوبي وألَّا أدين إخوتي”. من أجل تجنُّب الإدانة، علينا أن نرى خطايانا، وأخطاءنا، ونواقصنا. لنتمرَّنْ، نحن الَّذين نميل إلى إدانة الآخَرين، على رؤية أخطائنا، ونتوقّف عن ملاحظة أخطاء الآخَرين. وبذلك نجتذب نعمةَ الله ونُعتق أنفسنا من خطايا ثقيلة.