نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد ۲١ كانون الثّاني ۲٠١٨
العدد ٣
الأحد 15 من لوقا- زكَّا العشّار
اللّحن ٨- الإيوثينا ١١
كلمة الرّاعي
في رُوحِ الأَثَرَة ومُحَارَبَتِهَا
الكنيسة جسد المسيح، وفي الجسد أعضاء كثيرة. لذلك، لا يستقيم العمل في الكنيسة ما لم يَطرح النّاس عنهم الكذب ويتكلّموا بالصّدق ”لأَنَّنَا بَعْضَنَا أَعْضَاءُ الْبَعْضِ“ (أفسس ٤: ٢٥).
المؤمن، بعامّة، ومن يريد العمل في حقل الرّبّ، بخاصَّة، وجب عليه أن يكون بعيدًا عن روح الدَّينونة والأَثَرَة، محبًّا للخدمة، باذِلًا دون شروط أو مِنَّة، واضعًا نصب عينيه طاعة الرّبّ في خدمة شعبه بواسطة شركة العاملين معًا برئاسة الرّاعي.
لا يستطيع المؤمن أن يسلك في طريق الرّبّ إلَّا إذا تعلَّم الطّاعة ونبذَ الأَثَرَة.
* * *
الأثرة هي الأنانيَّة وحُبّ النَّفس، وتُطْلَقُ على ما لا يهدفُ إلاّ إلى نفعه الخاصّ. هي أن يَشُدَّ الإنسانُ كلّ شخص وكلّ شيء إلى ذاته وفي هذا يجدُ حياته. هي أن لا يرى الإنسان في الوجود مُهِمًّا سوى نفسه، وبالتالي يريد أن يطبع كلّ هذا بشخصيّته هو وآرائه وأهدافه لاغيًا وجود آخَر مختلف من حساباته وتفكيره.
الأَثَرَة، وهي مرض روحيّ، نوعان، غبيّة وخبيثة. الغبيَّة تظهر معالمها عند الشَّخص الَّذي لا يعرف أن يضبط ذاته وانفعالاته أمام الآخَرين وعند الصّغير النّفس ومحبّ المديح. أمّا الخبيثة فلا لا يستطيع أن يكتشفها إلَّا من عنده روح الرّبّ. فالأثرة الخبيثة قد تتغطَّى بثوب الغَيْرَةِ على الرّبّ وكنيسته ورداء التّقوى، فيما يكون حاملها مَسُوقًا منها إلى استعباد كلّ فكر وكلّ عمل لخدمة حبّه لنفسه. هو يريد أن يطوِّع ويستغلّ مشيئة الله لأجل إتمام مصالحه.
* * *
كيف يستطيع الإنسان أن يعرف إذا كان عنده هذا المرض؟ إذا كان مقتنعًا بأنّه لا يوجد رأي يجب أن يسود سوى رأيه، وإذا اغتاظ وتحرَّق وحَقَدَ في داخله عند عدم قدرته على إتمام مشيئته أو إقناع الآخَرين بها. بكلام آخَر من لا يقبل بصوابية رأي غير رأيه، من لا يقبل أن يتنازل عن مشيئته، (وهنا نتكلّم على صعيد القلب والنّيّة وليس على صعيد المظاهِر) فهذا الإنسان يريد كلّ شيء لذاته، ما له وما لغيره، هو لا يصنع شيئًا ما لم تكن نتيجته لصالحه، هذا مريض بالأثرة.
ما هو العلاج؟ من كان مستَعبَدًا لهذا المرض لا يستطيع أن يُشفى منه إلّا إذا أقرَّ أنّه مريض بكلّ صدق، وهو لا يستطيع أن يقرّ بهذا ما لم يرى العاقبة الأخيرة لمرضه، أي خسارته لذاته كونه يعيش في الوحدة دون تعزية قلبيّة حقيقيّة، دون وجود من يحبّونه حقًّا لشخصه. من لم يدرك أنّه في مرضه هذا يأكل نفسه ويفنيها لا يستطيع أن يُشفى. هو يكتشف هذا الأمر بالخسارة، خسارة الَّذين يعتبرهم ملكًا له سواءً بالتملُّك العاطفيّ أو المادّيّ، وبخسارة ما يمتلك من أموال وجاه وسلطة وأملاك... المريض بالأثرة ملحد عمليّ وإن كان يعترف بلسانه بالإيمان. أتريد أن تعرف نفسك إذا كنت مريضًا أم لا تأمّل في هذه المقولة للقديس يوحنّا السّلّميّ: ”من يتخلَّى عن الأموال من أجل الله فهو عظيم. أمّا من يتخلَّى عن مشيئته فهو قدّيس. الأوّل يأخذ مئة ضعف أموالًا أو مواهب، أمَّا الآخَر فيرث حياة أبديّة“.
الباب للخلاص هو الطّاعة لمشيئة الله. والطّاعة ابنة المحبّة. يغصب الإنسان نفسه على الطّاعة للكلمة الإلهيّة. بداية الطّريق صعبة ومؤلمة جدًّا ومُشبَعة بالدّموع، لكنّ نهايتها راحة وسلام وفرح. نغصب أنفسنا لكي يهبَّ روح الرّبّ لمعونتنا. هكذا نَسْتَنْزِلُهُ بحنان الله علينا. لكنّه لا يأتي قبل أن نصبر على الآلام المبرِّحة الناتجة عن سعينا للموت عن مشيئتنا وإنساننا العتيق. ما نخسره بلحظة من الرّوحيّات نجاهد سنين طوال في محاربة إنساننا النّفسانيّ الجسدانيّ لنستعيده بالنّوح غير اليائس والجهاد المُضْنِي والمثابرة.
أيّها الأحباء، لا نخافنَّ السّعي إلى البِرّ والقداسة، هذه دعوتنا وغاية حياتنا، بل فلنسلك في الجهاد ضدّ عدوّنا الأوّل وهو الأَثَرَة لكيما نربح الكلّ في هذه الدّنيا وفي الآخِرة. الطريق واضح وصريح: ”مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُني فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا“ (متّى ١٠: ٣٧—٣٩).
ومن له أذنان للسمع فليسمع
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (اللّحن الثّامن)
انحدرتَ مِنَ العُلوِّ يا مُتَحَنِّن. وقَبِلْتَ الدَّفْنَ ذا الثَّلاثَةِ الأيَّام. لكي تُعْتِقَنَا مِنَ الآلام، فَيَا حَيَاتَنَا وقِيَامَتَنَا يا رَبُّ المجدُ لك.
طروباريّة القدّيس مكسيموس المُعتَرِف (اللّحن الثّامن)
ظَهَرْتَ أَيُّهَا اللَّاهِجُ باللهِ مَكِسيمُوس، مُرْشِدًا إلى الإيمانِ المُسْتَقِيم، ومُعَلِّمًا لِحُسْنِ العِبَادَةِ والنَّقَاوَةِ، يا كوكبَ المسكونةِ وجمالَ رؤساءِ الكهنةِ الحكيم، وبتعاليمِكَ أَنَرْتَ الكُلَّ يا مِعْزَفَةَ الرُّوح، فتشفَّعْ إلى المسيحِ الإلهِ أَنْ يُخَلِّصَ نُفُوسَنَا.
القنداق لدخول السّيّد إلى الهيكل (اللّحن الأوّل)
يا مَنْ بِمَوْلِدِكَ أَيُّهَا المسيحُ الإلهُ للمُسْتَوْدَعِ البَتُولِيِّ قدَّسْتَ وَلِيَدَيْ سِمْعَانَ كما لَاقَ بَارَكْتَ، ولَنَا الآنَ أَدْرَكْتَ وخَلَّصْتَ، اِحْفَظْ رَعيَّتَكَ بسلامٍ في الحُرُوبِ، وأَيِّدِ المؤمنينَ الَّذينَ أَحْبَبْتَهُم، بما أَنَّكَ وَحْدَكَ مُحِبٌّ للبَشَر.
الرّسالة (1 تيموثاوس 4: 9-15)
الرَّبُّ يُعْطِي قُوَّةً لِشَعْبِه
قَدِّمُوا للرَّبِّ يا أَبْناءَ الله
يا إخوةُ، صادقةٌ هي الكلمةُ وجديرةٌ بكُلِّ قَبُولٍ. فإنَّنا لهذا نتعَبُ ونُعَيَّرُ، لأنَّنا أَلْقَيْنَا رجاءَنا على اللهِ الحَيّ، الَّذي هو مُخَلِّصُ النَّاسِ أَجْمَعِين ، ولا سِيَّمَا المؤمنين؛ فَوَصِّ بهذا وعَلِّمْ بهِ. لا يَسْتَهِنْ أحَدٌ بِفُتُوَّتِكَ، بل كُنْ مِثَالًا للمؤمنينَ في الكلامِ والتَّصَرُّفِ والمحبَّةِ والإيمان والعَفاف. واظِبْ على القراءةِ إلى حينِ قدومي، وعلى الوعظِ والتَّعليم، ولا تُهمِلِ الموهبَةَ التي فيكَ التي أُوتيتَها بنبوَّةٍ بوضع أيدي الكهنة. تأمَّلْ في ذلك وكُنْ عليهِ عاكِفًا، ليكونَ تَقَدُّمُكَ ظَاهِرًا في كلِّ شيءٍ.
الإنجيل (لوقا 19: 1-10)
في ذلك الزَّمانِ، فيما يسوعُ مُجْتَازٌ في أَرِيحَا، إِذَا بِرَجُلٍ اسْمُهُ زكَّا كانَ رَئِيسًا على العَشَّارِينَ وكانَ غَنِيًّا، وكانَ يَلْتَمِسُ أَنْ يَرَى يَسُوعَ مَنْ هُوَ فَلَمْ يَكُنْ يَسْتَطِيعَ مِنَ الجَمْعِ لأَنَّهُ كانَ قصيرَ القَامَة. فتقدَّمَ مُسْرِعًا وصَعِدَ إلى جُمَّيْزَةٍ لِيَنْظُرهُ لأنَّه كان مُزْمِعًا أَنْ يَجْتَازَ بِهَا. فَلَمَّا انْتَهَى يسوعُ إلى الموضِعِ رَفَعَ طَرْفَهُ فرآهُ فقالَ: يا زكَّا أَسْرِعِ انْزِلْ، فاليومَ ينبغِي لي أَنْ أَمْكُثَ في بيتِكَ. فأَسْرَعَ ونَزَلَ وقَبِلَهُ فَرِحًا. فلمَّا رأى الجميعُ ذلكَ تذمَّرُوا قائلينَ إنَّهُ دخلَ لِيَحُلَّ عندَ رجلٍ خاطِئ. فوقفَ زكَّا وقالَ ليسوع: هاءَنذا يا ربُّ أُعطي المساكينَ نصفَ أموالي. وإنْ كنتُ قد غَبَنْتُ أحدًا في شيءٍ أَرُدُّ له أربعةَ أَضْعَاف. فقالَ له يسوع: اليومَ قد حصلَ الخلاصُ لهذا البيتِ لأنَّه هو أيضًا ابنُ إبراهيم، لأنَّ ابنَ البشرِ إنّما أَتى ليَطْلُبَ ويُخَلِّصَ ما قَدْ هَلَك.
حول الإنجيل
كان زكَّا رئيسًا للعشارين. هذا العمل كان مرذولاً لدى اليهود، متطلعين إليه كعملٍ لحساب الإمبراطورية الرومانية، أي كخائن، هذا مع ما اتَّسم به العشارون بصفة عامة من حب لجمع المال بروح الطمع والجشع بلا رحمة من جهة إخوتهم اليهود. هذا العشار في نظر الجماهير يمثل الدنس بعينه والبعد الكامل عن كل ما هو إلهي. خلال اشتياقه القلبي الخفي أن يرى يسوع من هو، وترجمة هذا الشوق إلى عمل بسيط هو صعود شجرة الجميَّز ليرى من يحنّ إليه، يفتح أبواب الرجاء لكل نفس بشرية لتلتقي مع مخلص الخطأة. وكما يقول القديس أمبروسيوس: "قُدِّم لنا هنا رئيس العشارين، فمن منا ييأس بعد من نفسه وقد نال نعمة بعد حياة غاشة" .
القدّيس مكسيموس المُعترِف
ولد القديس مكسيموس سنة ٥٨٠ م. كان على ذكاء خارق وتمتّع بقدرة خارقة على التأمّلات الفلسفية السامية. درس فلمع وانخرط في السلك السياسي. عندما تولّى هيراكليوس العرش، لاحظ مكسيموس وما يتمتّع به من فهم وعلم وفضيلة فاختاره أمين سره الأوّل. لكنَّ الكرامات والسلطة والغنى لم تُطفئ فيه الرغبة لأن يصير راهباً. لهذا السبب، تخلّى عن وظيفته بعد ثلاثة أعوام وترهّب في دير لوالدة الإله. أَخضع الأهواء بالنسك، والغضب بالوداعة. غذّى ذهنه بالصلاة وارتقى في التأملات الإلهية. أمضـى في الهدوئيَّة ما يقرب من عشر سنوات، ثم باشر بكتابة أوّل مؤلّفاته وكان عبارة عن مقالات نسكية تناولت الصـراع ضد الأهواء، والصلاة، واللاهوى، والمحبة المقدّسة. في السنة ٦٣٠م عيّن الإمبراطور هيراكليوس كيرُس بطريركاً وكلّفه بتحقيق الوحدة مع أصحاب الطبيعة الواحدة الذين كان عددهم في مصـر كبيرًا. وما إن جرى توقيع اتفاق الوحدة هناك حتى خرج القديس صفرونيوس الأورشليمي عن صمته ودافع عن القول بالطبيعتين في المسيح يسوع. كما توجّه صفرونيوس إلى الإسكندرية فإلى القسطنطينية وتناقش وكيرُس وسرجيوس دون أن يكون من النقاش في الموضوع جدوى. على الأثر عاد صفرونيوس إلى أورشليم حيث استقبله الشعب المؤمن كمدافع عن الأرثوذكسية وجرى انتخابه بطريركاً جديداً في الوقت الذي اجتاح المسلمون العرب البلاد. وقد صدرت، عنه، للحال، رسالة حبرية حدّد فيها أن كلتا الطبيعتين في المسيح لها طاقتها الخاصة بها وإن شخص المسيح واحد فيما طبيعتاه اثنتان وكذلك طاقتاه.
الكلام على الطبيعتين والطاقتين في المسيح يسوع وكذلك الجدل القائم أُوقِفَ بأمر إمبراطوري. رغم ذلك دافع القديس مكسيموس من مقره في قرطاجة عن قول صفرونيوس معلّمه، بطريقة ذكية. قال: "يحقّق المسيح بشرياً ما هو إلهي، من خلال عجائبه، ويحقّق إلهياً ما هو بشري، من خلال آلامه المحيية". ولكن ما أن أصدر هيراكليوس مرسوم الاكتيسيس سنة ٥٣٨م وأكدّ حظر الكلام على الطاقتين أو الفعلين فارضاً على الجميع الاعتراف بإرادة واحدة في المسيح (مونوثيليتية)، حتى خرج مكسيموس عن صمته وجاهر بالحقيقة جهراً. القديس صفرونيوس كان في تلك السنة قد مات واتجهت الأنظار، مذ ذاك، نحو مكسيموس الذي أخذ الجميع يعتبرونه كأبرز المتحدّثين رسمياً بلسان الأرثوذكسية. وكما حدث في زمن القديس أثناسيوس الكبير ومن بعده القديس باسيليوس الكبير، استقر حِمل الإيمان القويم بالدرجة الأولى على كاهل رجلواحد هو مكسيموس.
أكّد القديس أنّ المسيح إذ كان هو حرّاً في التراجع أمام الآلام، أخضع نفسه، بملء إرادته كإنسان، للإرادة والقصد الإلهيّين فاتحاً لنا بذلك سبيل الخلاص بالخضوع والطاعة. وإذ اتحدت الحرّية الإنسانية بحريّة الله المطلقة في شخص الرب يسوع المسيح، وُجدت مُسْتَعَادَةً في حركتها الطبيعية نحو الاتحاد بالله والناس بالمحبة. ما سمحت له خبرة الصلاة والتأمل باستشفافه، أضحى بإمكان مكسيموس أن يقدِّمه مركِّزاً عقيدة تأليه الإنسان على قاعدة لاهوت التجسّد.
خشي الإمبراطور البيزنطي الجديد قسطنديوس الثاني العاقبة، إزاء الإنشقاق الحاصل بين الطرفين. فعلى المستوى السياسي، قد يفضي تطوّر الأحداث إلى انشقاق الغرب عن الإمبراطورية، لاسيما بعد سقوط مصر في يد العرب، فعمد إلى نشر مرسوم التيّبوس (٦٤٨م) الذي حرّم فيه على كل مسيحي، تحت طائلة العقاب الصارم، مناقشة موضوع الطبيعتين والمشيئتين. بناء عليه، بُوشِرَ بملاحقة الفريق الأرثوذكسي واضطهاده، لاسيّما الرهبان وأصدقاء القديس مكسيموس. أما مكسيموس فالتحق بمرتينوس الأول، أسقف رومية، الذي عزم على دعم الإيمان القويم ودعا إلى عقد المجمع اللاتراني (٦٤٩م) الذي أدان القول بالمشيئة الواحدة ونبذ المرسوم الإمبراطوري. فلما وصلت أخبار ما حدث للإمبراطور اغتاظ واعتبر أن في الأمر تمرّداً، فبادر إلى إرسال جيش إلى رومية لوضع حدّ للتدهور الحاصل (٦٥٣م). أوقف العسكر مرتينوس الأسقف، وكان مريضاً عاجزاً، واستاقوه كمجرم إلى القسطنطينية حيث أُهين أمام الملأ وحُكم عليه بالنفي، ثم اقتيد إلى شرصونه حيث قضى شهيداً في حال يرثى لها، في أيلول من السنة ٦٥٥م.
أما القدّيس مكسيموس فجرى توقيفه، بعد ذلك بقليل. وكذلك أُوقف تلميذه الأمين أنستاسيوس وأنستاسيوس آخر كان مندوباً لأسقف رومية. أُودِعَ الثلاثة السجن أشهراً طوالاً قبل أن يمثلوا للمحاكمة. وُجِّهت إلى مكسيموس تهم سياسية بالدرجة الأولى. قالوا إنه نَاهَضَ السلطة الرسمية وبارك اجتياح العرب لمصر وإفريقيا. وقيل أيضاً إنه تسبَّب في بذر الشقاق في الكنيسة بسبب عقيدته. أجاب مكسيموس بهدوء، ولكن بثبات عزم، إنه يؤثر قطع الشركة وسائر البطاركة والموت على أن يخون الإيمان القويم. وقد حُكم عليه بالنفي واستيق إلى بيزيا في تراقيا.
بقي مكسيموس في المنفى طويلاً وكابد الأمرّين. أخيراً قرّر الإمبراطور فتح باب الحوار معه عسـى أن يكسبه لأنه أدرك أنه ما لم ينجح في إقناع مكسيموس بالانضمام إلى حزبه فلن ينجح في كسب الرأي العام الأرثوذكسـي. لهذا أوفد سفارة من ثلاثة أشخاص، أسقفاً يدعى ثيودوسيوس ونبيلَين آخرَين. فلما التقوه وجدوه ثابتاً على قناعته الأولى. ولما دخلوا معه في بحث لاهوتي في الموضوع المطروح فَنَّدَ حججهم ودحض مزاعمهم، فثارت ثائرتهم عليه وأمطروه شتماً وضرباً وانصرفوا.
بعد ذلك جرى نقل مكسيموس إلى بربريس حيث بقي محتجزاً وتلميذه أنستاسيوس ست سنوات، بانتظار محاكمتهما من جديد. وفي السنة ٦٦٢م مثل أمام بطريرك القسطنطينية ومجمعه. سألوه: من أية كنيسة أنت؟ من القسطنطينية؟ من رومية؟ من أنطاكية؟ من الإسكندرية؟ من أورشليم؟ فها هم جميعاً متّحدون فيما بينهم. فأجاب مكسيموس: "إن الكنيسة الجامعة هي الاعتراف بالإيمان الصحيح والخلاصي بإله الكون". هُدِّد بالموت فأجاب: "ليتحقق فيّ ما رسمه الله من قبل الدهور لأعطي لله المجد الذي له من قبل الدهور!" فلعنوه وأهانوه وسلّموه لحاكم المدينة الذي حكم عليه بالجلد وقطع لسانه ويده اليمنى اللَّذَين بهما اعترف بإيمانه. وبعدما استاقوه في شوارع المدينة مُدَمَّى كلّه أودعوه قلعة في أقاصي القوقاز، في لازيكوس. هناك لفظ أنفاسه الأخيرة في ١٣ آب ٦٦٢م عن عمر ناهز الثانية والثمانين. وقد نُقل أن ثلاثة قناديل زيت كانت تشتعل على قبره من ذاتها كل ليلة.