نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد ۲٠ أيّار ۲٠١٨
العدد ۲٠
أحد آباء المجمع المَسكونيّ الأوّل
اللّحن ٦- الإيوثينا ١٠
كلمة الرّاعي
عيد الصّعود
بعد أربعين يوماً من الفصح نعيّد لصعود ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح بالجسد إلى السّماوات وجلوسه عن يمين الآب. أسرار (mysteries) الله غير مُدرَكة بالعقل. هي تُكشَف للبشر في ابنه بروحه القدّوس. لأنّ ”السّرّ المكتوم منذ الدهور“ (أفسس 3: 9 وكولوسي 1: 26) أي تجسُّد الكلمة ابن الله الوحيد المساوي للآب في الجوهر هو أساس كلّ سرّ وجوديّ بالنسبة للإنسان، لأنّ يسوع المسيح هو ”الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ“ (رؤيا 1: 8 و 21: 6 و 22: 13).
* * *
أَوْجَدَ الله الخليقة لسبب وغاية. السبب هو مشيئته وهو ”يفعل ما يشاء“ (دانيال 4: 35)، وما يشاؤه هو أن يكون الإنسان ”على صورته ومثاله“ (تكوين 1: 26). مشيئة الله هي الغاية ومشيئة الله هي السبب، الله يريدنا أن نصير مثله ليس فقط في الصورة أي في الصفات التي أعطانا إيَّاها في الطبيعة والتي هي على صورة صفاته الإلهيّة، ولكن في المثال أي في الشـركة الحقيقيّة معه ومع ألوهته ومع أقانيمه الثلاثة لنقيم في سرّ الوحدة في ما بيننا كبشر من خلال اتّحادنا به عبر ابنه بنعمة روحه القدّوس بحسب مشيئة الله الآب.
الإنسان يُحدَّد بالنسبة إلى المسيح ابن الله المتجسِّد الَّذي ”هُوَ بَهَاءُ مَجْدهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ“ (عبرانيين 1: 3)
نحن على صورة ابن الله المتجسِّد خُلقنا، لكيما باتّباعنا إيّاه نصير إيّاه بشركة الاتّحاد به في أسرار الكنيسة الّتي وهبنا إيّاها عربونًا لحياة الدّهر الآتي وتثبيتًا لحقيقتنا الأخرويّة (eschatological) في الله.
* * *
ابن الله المتجسِّد أخذ طبيعتنا وافتداها من موت الخطيئة ونتائجه أي موت الجسد وفساده وأقامها بقيامته إلى حياة أبديّة. بعد أن استمرّ الرّبّ بالظهور لتلاميذه لمدّة أربعين يوماً بعد قيامته من بين الأموات يعلّمهم ويفسِّر لهم الكتب، أخيرًا صعد عنهم إلى السماوات بالجسد الممجَّد أي إلى حضرة الله بجسده، فصارت البشريّة في ابن الله يسوع المسيح حاضرة عن يمين العظمة وارتقت إلى حيث أرادها الله أن تكون، إلى الشركة معه.
هذا الارتقاء يهبنا إيّاه الله عبر اتّحادنا بيسوع في الأسرار بنعمة الثالوث القدّوس. نحن الَّذين ولدنا من جرن المعموديّة لم نعد من هذا العالم رغم سكنانا فيه، نحن نأتي من فوق، من ملكوت السماوات، من الكنيسة، من شركة الثالوث القدّوس، من النّور الإلهيّ غير المخلوق الَّذي سكن فينا بالمعموديّة ويتجدَّد بالروح القدس في غسل دموع التوبة إلى أن يأتي يوم الرّبّ...
* * *
أيُّها الأحبّاء، ليست المسيحيّة شعائر وشعارات بل هي حياة جديدة في المسيح. لدينا نعمة الله ساكنة فينا، فلنُؤَجِّج نار حبّ الثّالوث في قلوبنا بمحبّة المسيح، ولنشهد لخلاص البشرية بطاعة كلمة الإنجيل، ولنجدِّد العالم بموتنا عن كلّ عتاقة وحملنا للخليقة كلّها في أجسادنا لترتفع بالمسيح دومًا فينا إذ نحيا فيه...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة الإيصوذون للصّعود (باللّحن الرّابع)
صَعِدْتَ بمَجْدٍ أيُّها المسيحُ إلهُنا، وفرَّحْتَ تلاميذَك بموعِدِ الرُّوحِ القُدُس، إذ أيقَنُوا بالبَرَكَة أنَّكَ أَنْتَ ٱبنُ اللهِ المنْقِذُ العالَم.
طروباريّة القيامة (باللّحن السّادس)
إنَّ القوَّاتِ الملائكيَّة ظَهَرُوا على قبرِكَ الـمُوَقَّر، والحرَّاسَ صاروا كالأموات، ومريمَ وَقَفَتْ عندَ القبرِ طالِبَةً جسدَكَ الطَّاهِر، فَسَبَيْتَ الجحيمَ ولم تُجرَّبْ منها، وصادَفْتَ البتولَ مانِحًا الحياة. فيا مَنْ قامَ من بين الأمواتِ، يا ربُّ المجدُ لك.
طروباريّة الآباء (باللّحن الثّامن)
أنتَ أيُّها المسيحُ إلهُنا الفائِقُ التَّسبيح، يا مَنْ أَسَّسْتَ آباءَنا القدِّيسينَ على الأرضِ كواكِبَ لامِعَة، وبهم هَدَيْتَنَا جميعًا إلى الإيمانِ الحقيقيّ، يا جزيلَ الرَّحمةِ المجدُ لك.
القنداق (باللّحن السّادس)
لـمَّا أَتْمَمْتَ التَّدبيرَ الَّذي من أجلِنا، وجعلتَ الَّذين على الأرض مُتَّحِدِينَ بالسَّمَاوِيِّين، صَعِدْتَ بمجدٍ أَيُّهَا المسيحُ إلهُنا غيرَ مُنْفَصِلٍ من مكانٍ بل ثابتًا بغيرِ ٱفتِرَاق وهاتِفًا بأحبّائِكَ أنا معكم وليسَ أحدٌ عليكم.
الرّسالة (أعمال الرّسل 20: 16– 18، 28-36)
مُبَارَكٌ أَنْتَ يا رَبُّ إلهَ آبائِنَا
فإنَّكَ عّدْلٌ في كلِّ ما صَنَعْتَ بِنَا
في تلكَ الأيَّامِ ارتأَى بولسُ أنْ يتجاوَزَ أَفَسُسَ في البحرِ لِئَلَّا يعرِضَ له أن يُبْطِئَ في آسِيَةَ، لأنَّه كان يَعْجَلُ حتَّى يكون في أورشليم يومَ العنصرةِ إِنْ أَمْكَنَهُ. فَمِنْ مِيلِيتُسَ بَعَثَ إلى أَفَسُسَ فاسْتَدْعَى قُسوسَ الكنيسة. فلمَّا وصَلُوا إليه قال لهم: ﭐحْذَرُوا لأنفُسِكُم ولجميعِ الرَّعِيَّةِ الَّتي أقامَكُمُ الرُّوحُ القُدُسُ فيها أساقِفَةً لِتَرْعَوا كنيسةَ اللهِ الَّتي اقْتَنَاهَا بدمِهِ. فإنِّي أَعْلَمُ هذا، أَنَّهُ سيدخُلُ بينَكم، بعد ذهابي، ذئابٌ خاطِفَةٌ لا تُشْفِقُ على الرَّعِيَّة، ومنكم أنفُسِكُم سيقومُ رجالٌ يتكلَّمُون بأمورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا التَّلامِيذَ وراءَهُم. لذلكَ، ﭐسْهَرُوا مُتَذَكِّرِينَ أَنِّي مُدَّةَ ثَلاثِ سنينَ لم أَكْفُفْ ليلًا ونهارًا أنْ أَنْصَحَ كلَّ واحِدٍ بدموع. والآنَ أَسْتَوْدِعُكُم يا إخوتي اللهَ وكلمةَ نعمَتِه القادِرَةَ على أَنْ تبنيَكُم وتَمْنَحَكُم ميراثًا مَعَ جميعِ القدِّيسين. إنِّي لم أَشْتَهِ فِضَّةَ أَحَدٍ أو ذَهَبَ أَحَدٍ أو لِبَاسَه، وأنتم تعلَمُونَ أنَّ حاجاتي وحاجاتِ الَّذين معي خَدَمَتْهَا هاتان اليَدان. في كلِّ شيءٍ بَيَّنْتُ لكم أنَّه هكذا ينبغي أن نتعبَ لنساعِدَ الضُّعَفَاء، وأن نتذكَّرَ كلامَ الرَّبِّ يسوعَ. فإنَّه قال: إنَّ العطاءَ مغبوطٌ أكثرَ من الأَخْذِ. ولـمَّـا قال هذا جَثَا على رُكْبَتَيْهِ معَ جميعِهِم وصَلَّى.
الإنجيل (يوحنّا 17: 1-13)
في ذلكَ الزَّمان رَفَعَ يسوعُ عَيْنَيْهِ إلى السَّماءِ وقالَ: يا أَبَتِ قد أَتَتِ السَّاعَة. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابنُكَ أيضًا، بما أَعْطَيْتَهُ من سُلطَانٍ على كُلِّ بَشَرٍ ليُعْطِيَ كُلَّ مَن أعطيتَه لهُ حياةً أبديَّة. وهذه هي الحياة الأبديَّةُ أن يعرِفُوكَ أنتَ الإلهَ الحقيقيَّ وحدَكَ، والَّذي أرسلتَهُ يسوعَ المسيح. أنا قد مجَّدْتُكَ على الأرض. قد أَتْمَمْتُ العملَ الَّذي أعطَيْتَنِي لأعمَلَهُ. والآنَ مَجِّدْني أنتَ يا أَبَتِ عندَكَ بالمجدِ الَّذي كانَ لي عندَك من قَبْلِ كَوْنِ العالَم. قد أَعْلَنْتُ اسْمَكَ للنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَهُمْ لي مِنَ العالم. هم كانوا لكَ وأنتَ أعطيتَهُم لي وقد حَفِظُوا كلامَك. والآنَ قد عَلِمُوا أنَّ كُلَّ ما أعطَيْتَهُ لي هو منك، لأنَّ الكلامَ الَّذي أعطَيْتَهُ لي أَعْطَيْتُهُ لهم. وهُم قَبِلُوا وعَلِمُوا حَقًّا أَنِّي مِنْكَ خَرْجْتُ وآمَنُوا أنَّك أَرْسَلْتَنِي. أنا من أجلِهِم أسأَلُ. لا أسأَلُ من أجل العالمِ بل من أجل الَّذينَ أَعْطَيْتَهُم لي، لأنَّهم لك. كلُّ شيءٍ لي هو لكَ وكلُّ شيءٍ لكَ هوَ لي وأنا قد مُجِّدتُ فيهم. ولستُ أنا بعدُ في العالم وهؤلاءِ هم في العالم. وأنا آتي إليك. أيُّها الآبُ القدُّوسُ احْفَظْهُمْ بـاسمِكَ الَّذينَ أعطيتَهُمْ لي ليكُونُوا واحِدًا كما نحنُ. حينَ كُنْتُ معهم في العالم كُنْتُ أَحْفَظُهُم باسمِكَ. إِنَّ الَّذينَ أَعْطَيْتَهُم لي قد حَفِظْتُهُمْ ولم يَهْلِكْ منهم أَحَدٌ إلَّا ابْنُ الهَلاكِ لِيَتِمَّ الكِتَاب. أمَّا الآنَ فإنِّي آتي إليك. وأنا أتكلَّمُ بهذا في العالَمِ لِيَكُونَ فَرَحِي كامِلًا فيهم.
حول الرّسالة
إنّ أحد الآباء الذي يصادف سنويّاً في الأحد السادس الذي يلي الفصح نقرأ في أعمال الرسل الإصحاح العشرين تحذيراً يسوقه الرسول بولس على القسوس في كنيسة أفسس، حيث لم يكن آنذاك واضحاً الفصل بين الكاهن والأسقف، فتارة يعنى بالقس الأسقف وطوراً يعني به الكاهن، وفي مجمل الأحوال فإنّ الرسول العظيم يضع على عاتق القادة المحافظة على الأمانة أي الكنيسة التي اقتناها الرب يسوع بدمه الكريم.
إنّ المحافظة على الأمانة يتطلّب نقاوةً في القلب والذهن لئلّا يقع الإنسان فريسة الشرير، والاستقامة القلبيّة أساس للتوازن البشري وهذه عطية الله التي أغدقها على الصليب. فالأسقف والكاهن وكلّ مكرس في الكنيسة يتعرّض للتجارب أكثر من الشعب ذلك أنّ عدوّ الخير يبذل كلّ الجهد ليدمّره فيدمّر من خلاله الرعية. وإنّ صفة الراعي هو ذاك الذي يبذل نفسه عن الخراف فكلٌ منّا ملتزم بكل نفسٍ لأنه سيقدّم عنها حساباً أمام الله. وعلى هذا، فإنّ القادة في الكنيسة هم القدوة للمؤمنين في كلّ شيء ولا أعني بالقادة فقط الأسقف أو الكاهن بل إن كلّ أبٍ وأمٍّ هم قادة في بيوتهم، وكلّ رئيس زمني هو مؤتمن على شعبه، وفي زمن الرب يسوع القائد العظيم هو من يحارب في الصفوف الأماميّة فيكون قدوة في الحماسة والصبر على التحدّيات والآلام، ذلك أنّه يشجع جيشه على الصمود والاستبسال في القتال لكي يتكلّلوا بالنصر ويعمّ بعدها السلام.
إنّ نموّ كلّ جماعة مرتبط بوحدة الفكر ووحدة الروح وإنّ نموّ الكنيسة وشهادتها في العالم مرتبط باستقامة الرأي، فكلّ انقسام وتشوّش دليل على تسرّب الشـرير إلى العمق الداخلي للإنسان ومنه إلى الجماعة فيستحيل عندها أداة للخراب والدمار. وعليه فإنّ اختيار الأسقف على أبرشيّته والكاهن على رعيّته خضع في قوانين الكنيسة للتمحيص والتدقيق، وقد شدّدت الكنيسة على أنَّ أيَّ خطأ يرتكبه الكاهن أو الأسقف يسيء إلى جسد المسيح أي الكنيسة وكان يعاقَب عليه وتصل المسألة بحسب نوع الخطأ إلى حدّ إيقافه عن الخدمة وقطعه من شركة جسد المسيح. وحيث أنّ الأسقف هو على صورة المسيح في الكنيسة فعليه أن يكون باراً تقيّاً ورعاً أميناً على التقليد والعقيدة الأرثوذكسية في التعليم والعيش معاً، والكاهن هو صورة الأسقف في الرعية. ولهذا فإنّ الرسول بولس يقول لأساقفة أفسس بأن "احترزوا لأنفسكم وللرعية التي اقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه الكريم". "احترزوا لأنفسكم" أي اسهروا على خلاصكم ممحّصين أفعالكم وأقوالكم كلّها مقتدين بالرب يسوع المسيح في كلّ شيء. وقد أشار الرسول بولس إلى تلميذه تيموثاوس قائلاً: "إنّك تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تصيّرك حكيماً للخلاص"، أي أنّ المقياس الذي يبني عليه الأسقف أحكامه وأعماله كلّها قائم على معرفته للكلمة الإلهية، ولذلك فمن واجبه أن ينقي الشوائب والتعاليم الفاسدة التي يسوقها البعض إن من الداخل أو من خارج الجماعة، لكي تبقى الكنيسة متجلية وشاهدة في هذا العالم. إنّ أحد الآباء القدّيسين الذي نعيّد له يعلّمنا بأنّ قادة الكنيسة والمعلمين فيها تشدّدوا في استقامة العقيدة والتعليم، وكان هؤلاء يجتمعون بدعوة من الإمبراطور من كل اصقاع المسكونة ليمحصوا أي فكر غريب وأمر جديد يطرأ على الكنيسة وقد يشكل خطراً عليها ويؤكدوا على ما هو موافق لعمل الروح القدس ويزيلوا الروح الغريبة التي تشوش جسد المسيح البهي.
المجمع المسكونيّ الأوّل
مقدمة: هو المجمع "المسكوني" الأول وليس المجمع الأول على العموم، ذلك أن مجامع كنسية عدة التأمت في القرون الثلاثة الأولى لأهداف خاصة وفي ظروف طارئة لبحث أمور معينة تهمّ الجميع. غير أن ما يميز مجمع "نيقية" (اسم المدينة التي عُقد فيها المجمع المسكوني الاول) عمّا قبله هو أن المجامع الأولى "كانت أحداثًا أكثر منها مؤسَّسَة"، كما يقول الاب جورج فلورفسكي. وكان مجمع نيقية، بالتالي، نموذجا للمجامع اللاحقة، وذلك لأن اهتداء الإمبراطورية الرومانية جعل الظروف تتغير عما قبل، فاستلزم وضع الكنيسة الجديد عملا مسكونيا هو بالحقيقة موجود وأصيل في الكنيسة ولكنه بان بشكل مرئي اكثر.
الدعوة للمجمع: اختلفت الآراء حول تحديد من هو صاحب المبادرة لعقد المجمع المسكوني الأول، وتنوعت حول مَنْ رَئِسَه. غير أن الأمر الذي لا ريب فيه هو أنه عُقد في نيقية في تركيا الحالية ورئسه اسقف ارثوذكسي (ربما يكون: أوسيوس اسقف قرطبة، او افسافيوس اسقف انطاكية)، وأن الإمبراطور قسطنطين الكبير حضر افتتاحه. اول ما يَلفت نظر الباحثين هو أن علامات الاضطهادات – التي هدأت – كانت ظاهرة جلياً على أجساد معظم الآباء الذين أتو من كنائس العالم ليشهدوا للمسيح الحي والغالب على الدوام. فأعضاؤهم المشوّهة او المبتورة وآثار الجروح والضـرب والجلدات شهادة على أن الإيمان الحيّ الذي دونوه في نيقية كان محفوظا في قلوبهم وعقولهم ومكتوبا على صدر وصبر أجسادهم. ولا يخفى على أحد أن هذه الآلام بقيت – وسوف تبقى – رفيقة القدّيسين الشاهدين، ولعل أبرز شهادة عليها هي أن الشمَّاس اثناسيوس، الذي رافق الاسقف ألكسندروس الإسكندري الى المجمع كان بطل نيقية، نُفي بعد تَرأسه سدّة البطريركية في الإسكندرية خمس مرات، وبقي خارج كنيسته ما يزيد على العشرين سنة.
التآم المجمع: بدأ مجمع نيقية جلساته في الـ 20 من أيار عام 325 حضره حوالى الـ 318 أُسقف معظمهم من الشرق (يعود عدد الأساقفة الـ 318 إلى ما بعد السنة 360، وربما وصلنا تأثرا بـ"غلمان ابراهيم المتمرنين"، راجع: تكوين 14: 14). اهم ما حققه هذا المجمع هو أنه دان بدعة كاهن ليبي عاش في الإسكندرية اسمه آريوس الذي تتلمذ على لوقيانوس الانطاكي. أنكر آريوس ألوهية الابن (الأقنوم الثاني في الثالوث القدوس) فاعتقد بأنه كان هناك وقت لم يكن الابن موجودًا فيه، وأعتبره رفيعًا بين مخلوقات الله ومِنْ صُنْعِهِ، كما أن الروح القدس من صُنْعِ الابن ايضًا. يعتقد بعض المؤرخين أن الآباء في نيقية سدّوا آذانهم اشمئزازًا حال سماعهم هذه الأقوال التجديفية، واكتفوا ببعض العيِّنات المقروءة من رسالة آريوس "المثالية" للحُكْم عليه.
من أعمال المجمع: دحض الآباء بدعة آريوس وشهدوا للإيمان المستقيم، فاعترفوا بأن المسيح إله حقيقي وهو وحده يستطيع أن يفتح للإنسان طريق الاتحاد به، فلو كان يسوع أحد المخلوقات – كما ادَّعى آريوس – لاستحال عليه أن يخلّص العالم وتاليًا أن يوصله الى غاية تدبير الله الآب، وأعني التأله. وَضعَ الآباء في نيقية دستور الإيمان الذي نتلوه في القدَّاس الإلهي والعماد وغيرهما من الصلوات، ومما جاء فيه أن المسيح "إله حقّ من إله حقّ، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر (هومووسيوس—homoousios)". في دستور نيقية إعلان إيمان واضح بالثالوث القدُّوس وإنما من دون توسّع بعلاقة الأقانيم في ما بينها، فالابن الذي هو متميّز – حسب الأقنوم – عن أبيه علّةِ الوحدة في الثالوث هو غير منفصل عن جوهره الإلهي. فكلمة "هومووسيوس" تعني ان الجوهر واحد والطبيعة واحدة مع وجود تمييز بين شخص وآخَر في الأقانيم الثلاثة. اصطلاح "هومووسيوس" (مساوٍ للآب في الجوهر) سبَّبَ جدلًا كبيرًا داخل المجمع وخارجه، لأن اتباع آريوس قالوا بأن العبارة غير كتابية، واتّهموا الآباء بالوقوع ببدعة صاباليوس (الذي اعتقد بإله واحد ذات ظهر بأشكال ثلاثة)، وذلك لأن عبارة "هومووسيوس" – في العالم اليوناني – كانت تفيد "الكيان الواحد". الافلاطونية الحديثة والغنوصية (العرفانية) في القرن الثالث استعملتا اللفظة للدلالة على الكائن العاقل أو الشخص. بيد أن آباء المجمع الذين دحضوا "شكلانيّة" صاباليوس (اي الاعتقاد بإله واحد ذات أشكال ثلاثة)، والذين هم، كما يقول القديس غريغوريوس النزينزي، من أتباع طريق الصيادين – الرسل وليس طريقة الفلاسفة، سَمَوا فوق الفلسفة البشـرية وجميع مناهجها، فعمّدوا لفظة "هومووسيوس" اي أنهم أعطوها معنى مسيحيًّا مؤكِّدين أنها وإن لم توجد حرفيا في الكتاب المقدس إلَّا أنها مستوحاة على أسس ثابتة منه. وقد ورد في مجموعة الشرع الكنسي (ص. 45) أن القديس إيريناوس أسقف ليون استعمل هذا المصطلح أربع مرَّات، كما أن الشهيد بمفيليوس روى أن اوريجانس المعلم استعمله أيضًا بالمعنى ذاته الذي أراده له المجمع النيقاوي. وقد أوضح القديس اثناسيوس الكبير ما عنى المجمع بمصطلح "هومووسيوس" بأنّ ”الابن هو كالآب وليس ذلك فحسب بل هو غير منفصل عن جوهر الآب. وأنّه هو والآب واحد والجوهر هو ذاته كما قال الابن نفسه ان الكلمة هو دائمًا في الاب، والآب دائمًا في الكلمة (يو 14: 11) كما أنّ الشمس وبهاءها هما غير منفصلَين أحدهما عن الآخَر“ (الشرع الكنسي، ص. 44—45).