نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 16 شباط 2020
العدد 7
أحد الابن الشّاطر
اللّحن 2- الإيوثينا 2
أعياد الأسبوع: *16: الشّهيد بمفيلس ورفقته *17: العظيم في الشّهداء ثاوذورُس التّيروني *18: لاون بابا رومية، أغابيتوس السّينائيّ *19: الرّسول أرخيبّس، البارّة فيلوثاي الأثينائيّة *20: لاون أسقف قطاني، الأب بيساريون *21: البارّ تيموثاوس، أفستاثيوس أسقف أنطاكية *22: سبت الأموات، وجود عظام الشّهداء في أماكن أفجانيوس.
كلمة الرّاعي
حرّيّة الاستعباد وعبوديّة التّحرير
لماذا نعيش في هذا العالم: أليس لكي نتمتّع بما فيه؟ أليس لكي نقتني السّعادة من خلاله؟ أليس لكي نكتشف ما فيه من ملذّات وأطايب ونتعاطاها؟ ... هذه الأسئلة وغيرها يطرحها الفكر، في هذا العصر المادّيّ، على الإنسان ليدفعه إلى فهم معيَّن لغاية وجوده ومعنى ما وُهِبَه من إمكانيَّات في هذ العالم، فيقوده إلى إجابات تُحَدِّد خياراته في الحياة ... هذا المنطق مبنيّ على الفلسفات الّتي تنظر إلى الإنسان من خلال طبيعته/مادّته إنطلاقًا من المُسلَّمة أنّ المادّة/الطّبيعة تسبق وجود الإنسان، وبالتّالي الإنسان يخضع لحتميّات وآليّات صادرة عن القوانين الّتي تحكم الطّبيعة وضرورات الحياة العضويّة، وكأنّ الإنسان مجبور على السّيْر في الطّريق الّذي تُحدِّده له حاجاته الجسديّة والنَّفسيّة الّتي ليس له دور كبير في تكوّنها فيه وتكوّنه منها ...
الحقيقة الإنسانيّة تتخطّى الطّبيعة المادّيّة الجسديّة، وهذا يُعبَّر عنه من خلال مظاهر متعدِّدة تتعلَّق بخيارات الإنسان وإبداعاته في الحضارة والفلسفة والتّعليم الأخلاقيّ وتمييز الجمال والتّطوّر العلميّ ... إلى اكتشاف ذاته في توقه إلى ما أو مَن هو أعظم منه ... عقل الإنسان وبحثه عن العِلَل الأولى لكلّ موجود يقوده إلى ما هو أبعد من الوجود ... إلى الله ...
* * *
الابن الشّاطر، الّذي تذكّرنا به الكنيسة المُقدَّسة، في هذه المَسيرة التَّحضيريّة للصّوم الكبير، رمز لكلّ من اعتقد أنّ حياته تتحقَّق إذا ما تبع حاجات مكوِّنات طبيعته الجسدانيّة المُولِّدة اللَّذّة النّفسيّة ليقتني السّعادة. السّعادة وَهْمُ الجسدانيّين، أي الَّذين يطلبون ما في العالم وله، لأنّ كلّ ما يقزّم حقيقة الإنسان يستحيل أن يكون مَصدرًا للرِّضى والرَّاحة الدّاخليّة الكيانيّة. ليست السَّعادة، في مفهوم العالم المادّيّ، سِوى لُحَيْظات ارتعاشٍ بكلّ ما يُدغدغ الجسد والنّفس ... ولعمري إنّ هذا ”باطل الأباطيل وقَبضُ الرِّيح“ (سفر الجامعة 1 و2).
خبرة الابن الأصغر، في مثل الابن الشّاطر، قادته إلى يَقين أنّ اقتناء السّعادة بسلطة المال واللَّذة خدعة كبرى، لأنّ السّعادة لا تُقتَنى خارج الحبّ الأمين الّذي لا يتخلَّى عن المحبوب، وإن شرد بعيدًا وتغرَّب ... هذا ما كان يعرفه الابن الّذي شرد عن ذاته في طلب ملذّاته، ولذلك، لمّا ”حزّت المَحزوزيّة“ عاد تلقائيًّا إلى نفسه وعرف، بدون أي تردُّد أو شكّ، أنّ لا رجاء له سوى في بيت أبيه، الّذي خان هذا الابن محبّته ...
* * *
رحمة الله لا حدود لها على التّائب، إذ كما يقول آباؤنا: ”لا خطيئة بدون مغفرة إلّا الّتي بدون توبة“. لكن، التّوبة ليست أمرًا مُمْكِنًا طالما لم يَزَل الإنسان في كَرامَةٍ أمام ذاته. يكذب الإنسان على نفسه إذ يُبرِّر خطاياه مُوجدًا لها أسبابًا إمّا تتعلّق بضعف الطّبيعة أو بالآخَرين. ما حجّة الابن الشّاطر ليترك البيت الأبويّ؟ إنّها حرّيّته الشّخصيّة الّتي هي الأهمّ بالنّسبة إليه. لكن أيّة حرّيّة؟! ... كما الابن الضّال، كذلك مُعظم البشر يرون في المحبّة قيدًا يحدُّ من انقيادهم لمشيئتهم الخاصّة. المسألة هي أنّ المحبّة هي الّتي تحرِّر وليس صنع المشيئة الذّاتيّة. التّوبة هي أن يتوب الإنسان عن نفسه أي أن يرجع عن التَّمسُّك بها كمحور ومركز لوجوده ويعرف أنّ إنسانيّته وفرحه يتحقَّقان في الحبّ الّذي موضوعه الآخَر وليس الذّات. لكن، ليلج الإنسان إلى سرّ الحبّ الحقيقيّ عليه أن يتقبّله عطيّة من عند العَليّ، لأنّ الحبّ الإلهيّ ينسكب على طالبيه إذ ما اتّضعوا وعرفوا أنّهم لا يستحقّونه.
* * *
أيّها الأحبّاء، الإنسان كائن شركويّ لا يمكنه أن يفرح ويبتهج حقًّا ما لم يُحِبّ ويُحَبّ. من هنا، الشّهوة وَهْمُ حبٍّ وأنانيّة مُحقَّقة في الاستهلاك. الاستهلاك جوهر حياة السّقوط والغربة عن الله والقريب والذّات، والحبّ هو الامتداد في الشّركة وعطاء الذّات دون قيود أو شروط في الأمانة والعفّة والصّدق. في الحبّ نستعبد ذوتنا لله وفيه وبه للآخَر، وهذه هي العبوديّة المُحرِّرة المنتجة السّعادة الكاملة لأنّها اقتناء لروح الرَّبّ وعيش فيه. أمّا تعاطي للكيان الإنسانيّ والحياة على أنّها تفلُّت من كلّ آخَر إرضاء للذّات فهذه هي العبوديّة القاتلة النّفس والجسد، وهذا هو جوهر حضارة الاستهلاك في أيّامنا وفي كلّ عصر.
”اُنْظُرْ. قَدْ جَعَلْتُ الْيَوْمَ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْخَيْرَ، وَالْمَوْتَ وَالشَّرّ“ (تثنية 30: 15) فاختر أيّهما تريد! ...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّاني)
عندما انحدرتَ إلى المَوْت. أَيُّها الحياةُ الَّذي لا يَموت. حينئذٍ أَمَتَّ الجحيمَ بِبَرْقِ لاهوتِك. وعندما أقمتَ الأمواتَ من تحتِ الثَّرى. صرخَ نحوكَ جميعُ القُوّاتِ السّماويّين. أَيُّها المسيحُ الإله. مُعطي الحياةِ المَجدُ لك.
قنداق أحد الابن الشاطر (باللّحن الثّالث)
لمّا عَصَيتُ مجدَكَ الأبَويَّ بجَهلٍ وغباوة. بَدَّدتُ في المَعاصي الغنى الّذي أعطيتني. فلذلك أصرخُ إليكَ بصوتِ الابن الشّاطر هاتفًا. خَطئتُ أمامَكَ أيّها الآبُ الرَّؤوف. فاقبَلني تائبًا. واجعلني كأحد أجرائِكَ.
الرّسالة (1 كو 6: 12– 20)
لتكُن يا ربُّ رَحْمتكَ علينا
ابتهجوا أيُّها الصِّدّيقون بالرَّبّ
يا إخوة، كلُّ شيءٍ مُباحٌ لي ولكنْ ليس كلُّ شيءٍ يُوافق. كلُّ شيءٍ مُباحٌ لي ولكن لا يتسلَّطُ عليُّ شيءُ. إنَّ الأطعمة للجوفِ والجوفَ للأطعمة وسيُبيدُ الله هذه وتلك. أمَّا الجسدُ فليسَ للزِّنى بل للرَّبِّ والرَّبُّ للجسد. واللهُ قد أقام الرَّبَّ وسيُقيمُنا نحن أيضًا بقوَّته. أما تعلمون أنَّ أجسادَكم هي أعضاءُ المسيح؟ أفآخُذُ أعضاءَ المسيحِ وأجعلُها أعضاءَ زانيةٍ؟ حاشا. أما تعلمون أنَّ من اقترنَ بزانية يصيرُ معها جسدًا واحدًا؟ لأنَّه قد قيلَ يصيران كلاهما جسدًا واحدًا. أمّا الّذي يقترنُ بالرَّبِّ فيكونُ معه روحًا واحدًا. اُهربوا من الزِّنى. فإنَّ كلَّ خطيئةٍ يفعلها الإنسانُ هي في خارج الجسد. أمَّا الزَّاني فإنّه يخطئُ إلى جسدِه. ألستم تعلمون أنَّ أجسادَكم هي هيكلُ الرُّوح القدس الّذي فيكم، الّذي نلتموه من الله، وأنَّكم لستم لأنفسكم لأنَّكم قد اشتُريتم بثمن؟ فمجِّدوا الله في أجسادِكم وفي أرواحكم الّتي هي لِلَّه.
الإنجيل (لو 15: 11– 32)
قال الرَّبُّ هذا المثل: إِنسانٌ كان له ابنان. فقال أصغرُهما لأبيه: يا أبتِ، أعطني النَّصيبَ الّذي يخصُّني من المال. فقسم بينهما معيشته. وبعد أيَّام غيرِ كثيرةٍ جمعَ الابنُ الأصغرُ كلَّ شيءٍ لهُ وسافر إلى بلدٍ بعيدٍ وبذَّر مالَه هناك عائشًا في الخلاعة. فلمَّا أنفقَ كلَّ شيءٍ، حدثت في ذلك البلدِ مجاعةٌ شديدة، فأخذَ في العَوَز. فذهب وانضوى إلى واحدٍ من أهل ذلك البلد، فأرسله إلى حقوله يرعى خنازير. وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الّذي كانت الخنازيرُ تأكله، فلم يُعطهِ أحد. فرجع إلى نفسه وقال: كم لأبي من أُجراء يفضُلُ عنهم الخبزُ وأنا أهلك جوعًا. أقوم وأمضي إلى أبي وأقول له: يا أبتِ، قد أخطأتُ إلى السَّماء وإليك، ولستُ مُستحقًّا بعد أن أُدعى لك ابنًا، فاجعلني كأحد أُجرائك. فقام وجاء إلى أبيه. وفيما هو بعد غير بعيد، رآه أبوه فتحنَّن عليه وأسرع وألقى بنفسه على عُنقه وقبَّله. فقال له الابنُ: يا أبتِ قد أخطأتُ إلى السَّماء وأمامك، ولستُ مُستحقًّا بعد أن أُدعى لك ابنًا. فقال الأبُ لعبيده: هاتُوا الحُلَّة الأولى وألبِسوه، واجعلوا خاتمًا في يده وحذاءً في رجليه، وأتوا بالعجل المُسمَّن واذبحوه فنأكلَ ونفرحَ، لأنَّ ابني هذا، كان ميتًا فعاش، وكان ضالًّا فوُجد. فطفقوا يفرحون. وكان ابنُه الأكبر في الحقل.
فلمّا أتى وقرُب من البيت، سمع أصوات الغناء والرّقص. فدعا أحد الغلمان وسأله: ما هذا؟ فقال له: قد قدم أخوك فذبح أبوك العجلَ المسمَّنَ لأنّه لَقِيَهُ سالمًا. فغضب ولم يُرِدْ أن يدخل. فخرج أبوه وطَفِقَ يتوسّلُ إليه. فأجاب وقال لأبيه: كم لي من السّنين أخدمك، ولم أتعدَّ لك وصيَّة، فلم تعطني قطُّ جَدْيًا لأفرح مع أصدقائي. ولمّا جاء ابنك هذا الّذي أكل معيشتك مع الزّواني، ذبحتَ له العجل المُسَمَّن. فقال له: يا ابني، أنتَ معي في كلِّ حين، وكلُّ ما هو لي هو لك. ولكن كان ينبغي أن نفرح ونُسَرّ، لأنَّ أخاك هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالًّا فوُجِد.
حول الإنجيل
في هذا الأحد الّذي هو الأحد الثّاني من آحاد التّهيئة للصّوم الكبير، نقيم تذكار مثل الابن الضّالّ أو الابن الشّاطر الّذي شطر ثروة أبيه وبدّدها في الخلاعة، بعدها أخذ في العوز فذهب يرعى الخنازير واشتهى أن يأكل من الخرنوب الّتي كانت تأكله.
بحسب الآباء القدّيسين، يمثّل الابن الأصغر صورةً عن الجنس البشريّ السّاقط أي كلّ أحدٍ منّا، كوننا كلّنا خطأةً ويعوزنا مجد الله. ويمثّل الميراث عطيّة الله لنا، مثل العقل والقلب، وبشكلٍ خاصٍّ نعمة أو موهبة الرّوح القدس المعطاة لكلّ مسيحيّ. كذلك يمثّل طلب الابن من الأب أن يأخذ حصّته من الميراث ميل الإنسان إلى الخروج عن طاعة الله، واستخدامها بحسب أهوائه ورغباته. كما أنّ الذّهاب إلى أرضٍ بعيدةٍ يمثّل العيش في الخطيئة.
يسعى الشّيطان إلى جعلنا نبدّد نعمة الله من خلال استنفاذ قوانا العقليّة والقلبيّة والجسديّة، ويدفعنا في النّهاية إلى حالة اليأس. بالتّالي لا يقول لنا الشّيطان إنّ الاعتراف بالخطايا أمرٌ سيّئٌ، بل يجعلنا نتعمّق أكثر في حالة اليأس من خلال إيهامنا أنّ النّظرة إلينا ستكون سيّئةً إن اعترفنا بما خطئنا به. لكنّ الملاحظ هو أنّ أوّل ما فعله الأب هو ذهابه إلى الابن ومعانقته إيّاه دون أن يعاتبه، كما أنّه لم يرضَ أن يعتبره كأحد أجرائه بل ألبسه الحلّة الأولى، أي أنّه أعاد له المجد الّذي كان له قبل سقوطه، وهذا ما فعله معنا المسيح بموته من أجلنا على الصّليب.
بحسب القدّيس إغناطيوس برينشانينوف الرّوسيّ المعاصر، لقد مرّ قرار الابن بالعودة إلى الحضن الأبويّ من خلال أربعة مراحل: رؤية الخطيئة، والإقرار بها، والتّوبة عنها، والاعتراف بها. يعرف الله كلّ شيءٍ عنك، لكنّه ينتظر منك تلك الخطوة المؤلّفة من أربعة مراحل من أجل ملاقاتك ومعانقتك. لا تخف من الاعتراف، فهو سبيلك الوحيد لخروجك من سقطتك.
لقد وضعت الكنيسة هذا المثل في الأحد الثّاني بعد أحد الفرّيسيّ والعشّار كي تقول لنا إنّ التّوبة تحتاج لتواضعٍ وانسحاقٍ كبيرين، كما وضعته قبل الصّوم الكبير لتقول لنا إنّ دخولنا إلى الصّوم دون توبةٍ يُفقِد الصّوم غايته. ويبقى السّؤال المطروح هو أين نحن من جوعنا الكافي لندرك كم يجب علينا أن نتوق لنعود إلى الوحيد الّذي يحبّنا ويعتبرنا أبناءً رغم رؤيته سقوطنا؟
لنتأمّل إذًا بسيرة الابن الشّاطر، ولنتشاطر في عودتنا إلى المنزل الأبويّ من خلال التّوبة، كي ندخل ميدان الجهاد الأربعينيّ أنقياء، ولنتأمّل في نعمة الله المعطاة لنا، فلا نيأسنّ من رحمته، ولا نحقّقنّ رغبة الشّيطان لنا، بل فلنسابق كما يقول الكتاب المقدّس، ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمّله يسوع.
"لا تحكموا بحسب الظّاهر..."
يُحكى أنّ رجلًا عجوزًا كان جالسًا مع ابنه الّذي يبلغ من العمر ثلاثين سنة في الحافلة. وقد لاحظ الجميع أنّه كان يظهر الكثير من البهجة والفضول على وجه الشّاب الجالس بجانب النّافذة. كان يُخرج يديه من النّافذة ويشعر بمرور الهواء ويصرخ: "أبي أنظر جميع الأشجار تسير وراءَنا"! فكان أبوه يتبسّم متماشيًا مع فرحة ابنه. وكان كلّ من حولهم يستمعون إلى ما يدور من حديث طفوليّ بينهما، وشعروا بالإحراج والاستهجان كيف يتصرّف شاب في عمر الثّلاثين كطفل! فجأة صرخ الشّاب مرّة أخرى: "أبي، انظر إلى البركة وما فيها من حيوانات، انظر... الغيوم تسير مع الحافلة". وفي هذه اللّحظة لم يستطع أحد الركّاب السّكوت وتقدّم من الرّجل العجوز وسأله: "لماذا لا تقوم بزيارة الطّبيب والحصول على علاج لإبنك؟ فهو يتصرّف كالأطفال..." هنا أجابه الرّجل العجوز: "يا بنيّ، إنّنا قادمون للتَوّ من المستشفى، واليوم ابني هذا يبصر للمرّة الأولى في حياته كلّها!".
إنّ هذه القصّة الشّعبيّة البسيطة ما هي إلّا مثال على ما جاء على لسان ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح إثر قيامه بمعجزة شفاء المفلوج يوم السّبت، فقال: "لا تحكموا حسب الظّاهر، بل احكموا حكمًا عادلًا" (يو 7: 24). لقد أثارت معجزة الشّفاء هذه يوم السّبت، "يوم الرّاحة بحسب النّاموس"، سخط الجمع، فخالوا أنّ بيسوع شيطانًا وثاروا عليه، فما كان عليه إلّا أنّ وبّخهم وطالبهم أن يحكموا بالبرّ لا بالمظهر، إذ إنّ الانشغال بالظّاهر لا بالرّوح يفسد حكمنا، فنستحيل مطرحًا ملائمًا للشّيطان أن يحيك حيله وأباطيله، ونخسر العطيّة، ونقع من حيث لا ندري...
وإذا ما طالعنا الكتاب المقدّس جيّدًا لوجدنا أمثلةً عديدةً نبّهنا فيها السّيّد على الحكم المتسرّع والمبنيّ على ظاهر الأمور، من حديثه مع نثنائيل (راجع يو1: 44-50) إلى لقائه بزكّا العشّار، والمرأة الزّانية، إلى حادثة فلس الأرملة، وصولًا إلى مَثَل الفرّيسي والعشّار الّذي يتجلّى فيه خطر التّكبّر وإدانة الآخرين، ممّا استوجب تأديبًا من الرّبّ لسائر المرائين فقال: "ويلٌ لكم أيّها الكتبَةُ والفرّيسيّون المراؤون! لأنّكم تشبهونَ قبورًا مُبَيَّضةً تظهرُ من خارجٍ جميلةً، وهي من داخل مملوءةٌ عظامَ أمواتٍ وكلَّ نجاسة. هكذا أنتم أيضًا: مِن خارجٍ تظهرون للنّاسِ أبرارًا، ولكنَّكم مِن داخل مشحونون رياءً وإثمًا" (متّى 23).
فلنبتعد يا إخوة عن إدانة الآخرين، وخاصّة تلك الإدانة المتسرّعة والمرتكزة على ما يظهر للنّاس، وللننصرف إلى جهادنا الرّوحيّ الخاصّ منقّين أنفسنا من روح الدّينونة والتّكبُّر وملتصقين بمن ارتضى أن يجلس مع الزّناة والعشّارين ليربحهم ويُدخلهم ملكوته السّماويّ، عسانا نكون في عدادهم... آمين!