نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 15 كانون الأوّل 2019
العدد 50
أحد الأجداد القدّيسين
اللّحن 1- الإيوثينا 4
أعياد الأسبوع: *15: الشّهيد في الكهنة إلِفثاريوس وامَّه أنثيّا *16: النّبيّ حجّي، ثيوفاني الملكة العجائبيّة *17: النّبيّ دانيال والفتية الثّلاثة القدّيسين، ديونيسيوس أسقف أجينة *18: الشّهيد سابستيانوس ورفقته، موذستُس أسقف أورشليم *19: الشّهيد بونيفاتيوس، أغليّة الرّوميّة *20: تقدمة عيد الميلاد، إغناطيوس المتوشّح بالله أسقُف أنطاكية مدينة الله العظمى *21: الشّهيدة يولياني وثاميستوكلاوس.
كلمة الرّاعي
أحد الأجداد
”لقد زكّيتَ بالإيمان الآباءَ القُدَماءَ، وبِهِم سبقتَ فخطبتَ البيعة الّتي من الأمم. فلْيفتخرِ القدّيسون بالمجد، لأنْ مِن زَرْعهم أَيْنَعَ ثمرٌ حَسيبٌ، وهو الّتي ولدَتْك بغير زرعٍ. فبتوسُّلاتهم أيُّها المسيح الإله ارحمنا“ (طروبارية أحد الأجداد).
تكشف لنا هذه الطّروباريّة معاني عيد هذا الأحد المسمَّى ”أحد الأجداد“. بواسطة إيمان أبرار وأنبياء العهد القديم حضَّر الله البشريّة كلّها للخلاص. الخلاص من اليهود يأتي ولكنّه لكلّ الأمم وليس فقط حكرًا عليهم. فوعد الله لأبي الآباء قبل أن يصير اسمه إبراهيم كان: ”انْظُرْ إِلَى السَّمَاءِ وَعُدَّ النُّجُومَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعُدَّهَا. وَقَالَ لَهُ (الله): هكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ. فَآمَنَ بِالرَّبّ فَحَسِبَهُ لَهُ بِرًّا“ (تكوين 15: 5—6). إيمان أبرام جعل الله يقطع عهدًا معه لأجل كلّ الأمم الّتي تحت السّماء. بهذا النّسل الَّذي هو المسيح (راجع: غلاطية 3: 16)، خطب الله البشريّة بالكلمة الإلهيّة إلى أن أَثْمَرَتْ فتاةَ الله الّتي منها أتى بالجسد المخلّص: ”وَأَخْطُبُكِ لِنَفْسِي إِلَى الأَبَدِ. وَأَخْطُبُكِ لِنَفْسِي بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ وَالإِحْسَانِ وَالْمَرَاحِمِ ...“ (هوشع 2: 19).
* * *
وَعْدُ الخلاص من موت الخطيئة وموت الجسد، وعد الحياة الأبديّة تحقَّق في المسيح الَّذي صار هو البشريّة الجديدة. أبرار العهد القديم وأنبياؤه كانوا فم الله وشهدوا لِحَقِّهِ بالكلمة المتنزِّلة عليهم ليقودوا الشّعوب كلّها إليه. روح الرَّبّ كان يقودهم ويلهمهم حقّ الرَّبّ. كان لشهادتهم للحقّ ثمن إذ تحمَّلوا الضّيقات والمصاعب والاضطهادات لأجل حقِّ الكلمة الإلهيّة ... الأنبياء كانوا مرفوضين من أبناء جنسهم، فإشعياء النّبيّ قتله منسّى الملك إذ أمر بتقطيعه بمنشار الخشب، وإرمياء النّبيّ رجمه اليهود ... وكذلك عانوا من الأمم مثل دانيال النّبيّ الَّذي رُمي في جُبّ الأسود والفتية الثلاثة الَّذين أُلقوا في أتون النّار المتَّقِدَة ... إنّ ثباتهم في الإيمان كان لتأكيد تحقيق وعد الله الصّادق بخلاص البشريّة من نسل المرأة (راجع تكوين 3: 15). الإيمان ينتقل من جيل إلى جيل بالشّهادة: شهادة الدَّم وشهادة الحياة وشهادة الكلمة، و ”كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا، حَتَّى بِالصَّبْرِ وَالتَّعْزِيَةِ بِمَا فِي الْكُتُبِ يَكُونُ لَنَا رَجَاءٌ ...“ (رومية 15: 4).
* * *
البعض يظنّ بأن العهد القديم لم يعد له من قيمة بعد أن جاء المسيح وأنّ العهد الجديد يكفي ... يقول الرَّسول بولس لتلميذه تيموثاوس: ”كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذي فِي الْبِرِّ ...“ 2)تيموثاوس 3: 16). ما يقصده الرَّسول بالـ“كتاب“ هو كتب العهد العتيق، لأنّ العهد الجديد لم يكن بعد قد كُتِبَ كلّه وجُمِعَ وحُدِّدَ من الكنيسة. في الحقيقة، العهد القديم هو الَّذي مهَّد الطّريق وحضّر البشريّة لمجيء الرَّبّ في ”ملء الزّمان“ (غلاطية 4: 4). النّبوءات الّتي تخبر عن تفاصيل حياة الرَّبّ يسوع وعمله الخلاصيّ كلّها موجودة في العهد القديم، وهي تحقَّقت بتجسّد الرَّبّ وصلبه وموته وقيامته وإرساله للرُّوح القدس. كلّ مراحل حياة الرَّبّ يسوع المتعلّقة بتدبير الله الخلاصيّ مذكورة في كتب العهد العتيق. عمل الله متكامل متواصل لا ينقطع، لذلك، قال الرَّبّ يسوع: ”لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ ...“ (متّى 5: 17).
* * *
أيّها الأحبّاء، الإيمان استمراريّة، جيل يسلّم جيلًا ”الوديعة“. إنّها أمانة لا يجوز التّلاعُب بها أو حذف شيء منها أو زيادة شيء عليها، ولا نُقنع النّاس بها بروح الجدل والمحاججة العقليّة بل بقوّة الرُّوح القدس الحافِظ للوديعة والمحافظ عليها في الكنيسة المقدّسة (راجع: 1 تيموثاوس 6: 20؛ 2 تيم 1: 14 و1 كورنثوس 2: 4). أجدادنا في الإيمان هم أبرار وأنبياء العهد القديم الَّذين ثبتوا في حفظ الكلمة الإلهيّة وتحمّلوا الضّيقات والاضطهادات من بني شعبهم ومن الأمم، ولكنّهم غلبوا بقوّة روح الرَّبّ الَّذي أعطاهم روح القوّة والحكمة والعزم الثّابت، وها نحن اليوم قد اقتبلنا تحقيق وعد الله بالخلاص بابن الله المتجسِّد من الرُّوح القدس ومن مريم العذراء وسكن فينا ”روح القوّة“ (2 تيموثاوس 1: 7) بواسطته. ما كان ينتظره أجدادنا في الإيمان حصلنا عليه، وروح الرَّبّ الَّذي كان يهبّ فيهم استقرّ فينا عبر اتّحادنا بالمسيح. فلا نخافنّ بعد اليوم لا ضيق ولا شدّة، بل، فلنتمسّك بالاعتراف بإيماننا ولنسّلم الرَّبّ حياتنا كلّها كما فعل الأبرار والأنبياء قديمًا وكما صنع الرُّسل والقدّيسون في المسيح ... ها قد دخلنا الزّمن الجديد فلا ننظرنّ إلى الخلف لئلّا نخسر النِّعمة ...
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع! ...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الأوّل)
إنَّ الحجرَ لما خُتِمَ مِنَ اليَهود. وجَسَدَكَ الطّاهِرَ حُفِظَ مِنَ الجُند. قُمتَ في اليومِ الثّالثِ أَيُّها المُخلِّص. مانحاً العالمَ الحياة. لذلكَ قوّاتُ السّماوات. هتفوا إليكَ يا واهبَ الحياة. المجدُ لقيامتِكَ أَيُّها المسيح. المجدُ لِمُلكِكَ. المجدُ لتدبيرِكَ يا مُحبَّ البشرِ وحدك.
طروباريّة للشّهيد في الكهنة إليفثاريوس (باللَّحن الخامس)
لقد سارعتَ مبادِرًا إلى المسيح سيّدك، مزيّنًا بالحلّة الكهنوتيّة، وقاطرًا بمجاري دمائك، أيّها المغبوط ألفثاريوس الحكيم، يا داحض الشّيطان، فلا تزل مُتشفّعًا من أجل المكرّمين بإيمان، جهادك المغبوط.
طروباريّة الأجداد (باللّحن الثّاني)
لقد زكّيتَ بالإيمان الآباءَ القُدَماءَ، وبِهِم س
بقتَ فخطبتَ البيعة الّتي من الأمم. فلْيفتخرِ القدّيسون بالمجد، لأنْ مِن زَرْعهم أَيْنَعَ ثمرٌ حَسيبٌ، وهو الّتي ولدَتْك بغير زرعٍ. فبتوسُّلاتهم أيُّها المسيح الإله ارحمنا.
قنداق تقدمة الميلاد (باللّحن الثّالث)
أليومَ العذراءُ تأتي إلى المَغارة لِتَلِدَ الكلمةَ الَّذي قبل الدّهور ولادةً لا تُفسَّر ولا يُنطق بها. فافرحي أيّتها المَسكونة إذا سمعتِ، ومجِّدي مع الملائكة والرُّعاة الَّذي سيظهر بمشيئته طفلًا جديدًا، الإلهَ الَّذي قبل الدّهور.
الرّسالة (كول 3: 4– 11)
ما أعظم أعمالَكَ يا ربّ، كلَّها بحكمةٍ صنعت
باركي يا نفسي الرَّبّ
يا إخوةُ، متى ظهرَ المسيحُ الَّذي هو حياتُنا فأنتم أيضًا تَظْهَرون حينئذٍ معهُ في المجد. فأمِيتوا أعضاءَكم الّتي على الأرضِ، الزّنى والنّجاسةَ والهوى والشّهوةَ الرّديئَةَ والطّمعَ الَّذي هو عبادةُ وَثَن، لأنَّهُ لأجل هذه يأتي غَضبُ الله على أبناءِ العِصيان. وفي هذه أنتم أيضًا سلَكتُم حينًا إذ كُنتم عائشينَ فيها. أمَّا الآن، فأنتم أيضًا اطرَحوا الكُلَّ: الغضبَ والسُّخْطَ والخُبثَ والتَّجديفَ والكلامَ القبيحَ من أفواهِكم. ولا يكذِبَنَّ بعضُكم بعضًا، بل اخلَعوا الإنسانَ العتيقَ معَ أعمالِه، والبَسُوا الإنسانَ الجديد الَّذي يتجدَّدُ للمعرفةِ على صورة خالِقِه، حيثُ ليس يونانيٌّ ولا يهوديٌّ، لا خِتانٌ ولا قَلَفٌ، لا بربريٌّ ولا اسكِيثيٌّ، لا عبدٌ ولا حُرٌّ، بلِ المسيحٌ هُوَ كُلُّ شيءٍ، وفي الجميع.
الإنجيل (لو 14: 16– 24)(لو قا 11)
قال الرَّبّ هذا المثل: إنسانٌ صنع عشاءً عظيمًا ودعا كثيرين، فأرسل عبدَهُ في ساعة العشاءِ يقولُ لِلمَدعُوِّينَ: تعالَوا فإنَّ كُلَّ شيءٍ قد أُعِدّ. فَطَفِقَ كُلُّهُم واحدًا فواحدًا يستَعفُون. فقال لهُ الأوّلُ: قد اشتريتُ حقلًا ولا بدَّ لي أن أخرجَ وأنظرَهُ، فأسألُكَ أن تُعفِيَني؛ وقال الآخَرُ: قدِ اشتريتُ خمسةَ فَدادِينِ بَقَرٍ وأنا ماضٍ لأُجَرِبَها، فأسألُكَ أن تُعفِيَني؛ وقال الآخَرُ: قد تزوَّجتُ امرأةً، فلذلك لا أستطيعُ أن أجيء. فأتى العبدُ وأخبرَ سيِّدَهُ بذلك، فحينئذٍ غضِبَ ربُّ البيتِ وقال لِعَبدِه: اخرُجْ سريعًا إلى شوارع المدينةِ وأزقَّتِها، وأَدخِلِ المساكينَ والجُدْعَ والعُميان والعُرجَ إلى ههنا. فقال العبدُ: يا سَيّد، قد قُضيَ ما أَمرتَ بهِ ويَبقى أيضًا مَحلّ، فقال السَّيّدُ لِلعبد اخرُج إلى الطُّرقِ والأسيْجَةِ واضطَرِرْهم إلى الدّخولِ حتّى يَمتلئَ بيتي، فإنّي أقولُ لَكُم إنَّه لا يَذوقُ عشائي أحدٌ مِن أولئك الرّجالِ المدعُوّين. لأنَّ المدعُوّين كثيرون، والمختارين قليلون.
حول الإنجيل
يسبق عيد الميلاد المجيد عادةً أحدان، وهما أحد النّسبة الَّذي يقع قبل عيد الميلاد مباشرةً، وأحد الأجداد الَّذي يقع قبل أسبوعين. ونُقيم في أحد الأجداد تذكار جميع الَّذين كان لهم نصيبٌ بالاختيار الإلهيّ ليكونوا مع الله، بدءاً من آدم، مرورًا بكلّ من اختارهم الله، من إبراهيم إلى سائر الأنبياء الَّذين سبقوا الرَّبّ يسوع المسيح. بالتّالي نحتفل في مثل هذا اليوم بهؤلاء الـمُختارين.
أمّا الفصل الإنجيليّ من لوقا الَّذي نقرؤه في هذا العيد، فيتحدّث عن أولئك الـمُختارين. إنّه يخبرنا عن إنسانٍ صنع عشاءً عظيمًا، والعظمة في هذا الإطار لا ترتبط بالمأكل والمشرب، فهما غير مهمّين عند الله. المأكل والمشرب هامّان فقط لتنمية الجسد، في حين أنّ حديث الله عن الرّوح والخلاص هو العظيم. فأيّ عشاءٍ هو المقصود هنا؟
إنّه العشاء الَّذي أعدّه الرَّبّ يسوع المسيح ليقدّم لنا طعامًا لأبديّة خلودنا معه، مقدّمًا لنا جسده ودمه الإلهيّين. وأراد أن يعطي هذا العشاء قوّة خلاصٍ لكلّ من يلبّي دعوة النّداء. فكانت الدّعوة لكثيرٍ من النّاس، غير أنّهم بدؤوا يستعفون لأسبابٍ وجيهةٍ، فهم معذورون لأنّ أعمالهم وحياتهم الخاصّة تستدعي هذا الغياب. ونحن في أحاديثنا دائمًا نعتذر بالأسباب ذاتها حين نقصّر في مجيئنا إلى الكنيسة، متعلّلين بأسبابٍ تتعلّق بأعمالنا وحياتنا الخاصّة. لكنّ يسوع يقول هنا بأنّ العذر غير مقبولٍ البتّة، فما من شيءٍ عند الله أهمّ من أن يكون الإنسان حاضرًا معه.
إنّ الأسباب الّتي منعت هؤلاء المستعفين عن العشاء هي أعمال ذلك الزّمن الأساسيّة والضّروريّة للحياة، والله ذاته هو شاء ودبّرها لحياتنا. فلماذا أثارت غضب السّيّد؟ الخطأ هنا أنّ هذه الأسباب الضّروريّة وُجِدت لنتجنّد بواسطتها وليس لنستعفي بواسطتها. إنّها ليست عللًا للأعذار وإنّما ظروفٌ لرسالة. العشاء هنا سيتمّ وسط الحقل وفي الطّريق بالتّجارة وفي البيت. ليس الله انشغالًا بين كلّ أشغالنا، بل غاية كلّ أعمالنا. والخطأ هنا أنّ المدعوّين حسبوه واحدًا من بين اهتماماتهم، فلم يعتبروه أهمّ من الأساسيّات في الحياة وأنّه هو الَّذي باركها.
المدعوّون ليكون الله غاية حياتهم كثيرون، لكنّ قلّةً تطلب الواحد الَّذي الحاجة إليه. من هؤلاء الأجداد الَّذين زرعوا وتاجروا وتزوّجوا وأنجبوا لكن من أجل المسيح. فقد مارس الأجداد كلّ شيءٍ كشيءٍ من الرّسالة ليس كأمرٍ للاستعفاء منها، فهيّأوا بحياتها وأعمالهم مجيء الرَّبّ الأوّل. وهكذا ينبغي على المسيحيّ أن يحيا في أعماله، لكن ليهيّئ للمجيء الثّاني المجيد للرّبّ بعد حضوره الأوّل المتواضع.
الطّاعة هي الحياة
نحن نؤمن بأنّ ربّنا يسوع المسيح هو الحياة، عملًا بقوله هو عن نفسه: "أنا هو الطّريق والحقّ والحياة..." (يوحنّا 6:14). فكيف إذًا نقرأ في العنوان أنّ الطّاعة هي الحياة؟ على أيّة طاعة نتكلّم يا تُرى؟
الطّاعة هي الامتثال؛ مع ما يتطلّبه الامتثال من موضوعيّة وتواضع وتطويع للإرادة، وهي جميعًا فضائل بتنا اليوم نفتقدها، وباتت معها الطّاعة في أزمة.
أجل، ففي ظلّ ما نشهده اليوم مِن انتفاخ متزايد لـ "الأنا" Ego، مع ما ينجم عنه من فردانيّةٍ نافرة، بل وقاتلة في مُعظم الأحيان، تبدو الطّاعة مصطلحًا مأزومًا، ويبدو المتكلّم فيها كطائر يُغرِّد خارج السِّرب، فكأنّها مُصطلحٌ سلوكيٌّ شُطِب من قاموس البشر. إنّ إنسان اليوم فَردانيٌّ، شخصانيٌّ حدِّ الصَّنميّة، مفتونٌ بذاتِه، لا مرجعيّة له سوى ذاته، لا يُصغي إلّا لصوتِه الدّاخليّ فكأنّه واحدٌ من أوثان الأمم الّتي يقول عنها الكتاب: "...لها آذان ولا تسمع، لها عيونٌ ولا تُبصِر..."
إنّ الأزمة الّتي تُعانيها الطّاعة اليوم، لا سيّما في صفوف المؤمنين، مردودَه، برأينا، إلى قراءتِها خارج نصابها الصّحيح الَّذي هو الكنيسة. ففي الكنيسة - وهي نطاق تفكيرنا وبحثنا- تأخُذ المصطلحات مدلولاتٍ جديدةً. فالطّاعة مثلًا، في القاموس الكنسيّ، هي، بطبيعة الحال، كلّ ما سبق إيرادُه من توصيفات، لكنَّها، أوّلًا وقبل كلّ شيء، وجهٌ من أوجه التّخلُّق بأخلاق المسيح، أو هي اعتناق لفكر المسيح الَّذي لمّا شاء بولس أن يتكلّم عليه قال: "فليكن فيكم الفكر الَّذي كان في المسيح يسوع أيضًا. فمع أنّه في صورة الله، لم يَعدَّ مساواتَه لله غنيمةً، بل أخلى ذاته آخذًا صورة عبد... فوضع نفسه وأطاع حتّى الموتِ موتِ الصّليب. لذلك رفعه الله وأعطاه اسمًا يفوق كلَّ اسمٍ..." (في 2: 5-9). إنّ كلام بولس هذا يعني أنّ فكر المسيح يُقرَأُ تحت هذين العنوانين: التّواضع والطّاعة الّتي هي ثمرته.
بالتّالي، إذا قرأنا الطّاعة على أنّها فكر المسيح (وهكذا ينبغي أن تُقرَأ) نفهم كيف تكون هي الحياة وبأيّ معنى. إنّها الحياة لأنّها تربطنا بمن هو علّة حياتِنا ومصدرُها، أي بالمسيح الَّذي لمّا تنبّأ به إشعيا رآه "كخروفٍ سيقَ إلى الذَّبحِ وكحَمَلٍ صامِت... هكذا لا يَفتَحُ فاه. بتواضُعِه انتُزِعَ قضاؤه" (إش 53: 7 و8)، وهذان التّواضع والطّاعة قاداه إلى الصّليب الَّذي به نِلنا الخلاص. آدَمُ الأوّل عَصى فكانت الخطيئة، آدمُ الثّاني الجديد (يسوع المسيح) أطاع فكان الفِداء وكان الخلاص وكانت الحياة الأبديّة.
من كُلّ ما سبق ينتج أنّ كلّ من خرج من جرن المعموديّة هوَ، حُكمًا، قائمٌ في طاعة المسيح. وليس فقط المسيح، بل، أيضًا، جميع الَّذين يجتهدون في قيادتِنا إليه، عملًا بما يُوصي به كاتِب الرّسالة إلى العبرانيّين حيث يقول: "أَطيعوا مُدبِّريكم واخضَعوا لهم، لأنّهم يسهرون على نفوسكم سَهَرَ من سيُحاسَب عليها..." (عب 13: 17). إنّ طاعةً كهذه ليست إذلالًا للنّفس، كما قد يُسيء فهمَها البعض، لكنّها اقتداء بالرَّبّ يسوع الَّذي طَوَّع مشيئته الإنسانيّة لمشيئة أبيه السّماويّ (طعامي أن أعمل مشيئة الَّذي أرسلني) (يوحنّا 4: 34)، أي أنّها تطويع مشيئتنا لمشيئة الله الّتي، إذا أذعَنّا لها، نكفل بها حياتنا ونرتقي إلى معارج الخلاص.