نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد ١٥ تشرين الأوّل ۲٠١٧
العدد ۲٧
أحد آباء المجمع السّابع
اللّحن ۲- الإيوثينا ٨
كلمة الرّاعي
توبوا...
”تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ“ (متّى ٤: ١٧).
ما هو دافع الإنسان إلى التوبة؟ كيف يتوب؟ عن ماذا يتوب؟ هل يستطيع فعلا أن يتوب؟ ما هي التوبة؟ ... هذه الأسئلة وغيرها تطرحها علينا كلمة الرّبّ يسوع هذه.
* * *
”هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: تُوبُوا وَارْجِعُوا عَنْ أَصْنَامِكُمْ، وَعَنْ كُلِّ رَجَاسَاتِكُمُ اصْرِفُوا وُجُوهَكُمْ“ (حزقيال ١٤: ٦).
هل ما زلنا نعبد الأصنام اليوم؟ هل نصنع رجاسات في حياتنا؟
اخترع الإنسان أصنامًا ليعبدها لأنّه تعرَّض للخوف والعبوديّة. الخوف ممن أو ما هو أقوى منه، والعبودية لما يرى نفسه مَقودًا منه دون أن يستطيع مقاومته داخليًّا. الخوف والعبوديّة هما حركتان في النّفس البشريّة تسيِّران حياة الإنسان وتَأُولان به إلى أماكن لا يعرف كنهها تجعله مسلوب الإرادة طوعًا أو كرهًا.
قد نظنّ كمؤمنين بأنّنا نرفض عبادة الأصنام ونعبد الإله الواحد الوحيد الحيّ، لكن ما هي الأصنام يا ترى؟ إنّها مخاوفنا وأهواؤنا وشهواتنا. إنّها صورتنا المثاليّة الّتي نُظهِرُها أمام النّاس والّتي ليست محقَّقة فينا بل هي سبب آلامنا، لأنّنا لا نستطيع أن نكونها حقًّا فنكونها بالظاهر ونكون عكسها ربّما في الدّاخل. هذه الصورة—الصنم قد نسقطها على من نرى فيهم شيئًا منها أو من يشدّوننا، فيصير هؤلاء صنمنا الّذي نعبده دون الله. من هنا نرى أنَّ صورة الله مربوطة بصورة الأب، فإذا سقط الأب من صورته المثالية في أعين أولاده يسقط الله معه من الوجود. لذا، في مثل هذه الحالة يثور النّاس وتسيطر عليهم حالة من الهستيريا المرضيّة، الفرديّة و / أو الجماعيّة، ويفقدون كلّ سيطرة على أفعالهم لأنّهم فقدوا كلّ ثبات ورجاء وانهارت صورة الإله في عيونهم، لم يعد يوجد لديهم ملجأ أمين ومصدر للأمان. هذه الحالة تولِّد خوفًا كيانيًّا وجوديًّا تدفع النّاس أن يستشرسوا بإزائها ليحافظوا على بقائهم لأنّ حياتهم مبنيّة، بالأساس، على البشر وليس على الله. لأنّه لو كان الله أساس حياتهم لما تزعزعوا، ولكن كيف يكون الله أساسًا لحياتهم إذا لم ينموا ويتربّوا على الإيمان والثّقة بالله أي إذا لم يعرفوا الله بخبرتهم معه؟!...
لمّا ينشأ الإنسان دون نموّ روحيّ وفي بيئة بعيدة عن الحياة الكنسيّة يخسر نعمة كبيرة، إذ في عمر الطّفولة يتشرّب الإنسان الإيمان إلى أعماق كيانه، وهذا الإيمان الدّفين في أعماقه يستيقظ في أزمنة الشّدائد ويحوّل حياته ويمنحه أن يبني علاقة ناضجة مع الله تؤهّله أن يواجه انهيارات الصور المثاليّة.
* * *
الإنسان مُستَعبَدٌ لأهوائه وشهواته، وهذه تجعله ضعيفًا هشًّا أمام التّجارب ما يؤدّي به إلى قساوة القلب وعدم الحسّ وتضخّم الأنا الاستهلاكي للوجود والآخَر. يوجد عبوديّة قسريّة وعبوديّة طوعيّة. اللَّذّة تأسرُ الإنسان تمنحه نشوة وألمًا لأنّها هي الّتي تسود عليه دومًا. فيثور الإنسان لكرامته وحريّته وإنسانيّته فيحاول التخلُّص من قيودها، ولكنه ما يلبث ان يعود إليها صاغِرًا مستسلمًا، إلى أن يتحجَّر القلب من التّلذُّذ والألم. حينها يصير الإنسان في سبات الموت الروحي. إنها حالة ”كوما“ الخطيئة والرجاسة وعبادة الأصنام.
* * *
يتوب الإنسان لمّا تنيره النعمة الإلهيّة عبر الضّمير. لأنّ الضّمير يخبو ولكنه لا يموت، يستيقظ برحمة الله. نور النعمة يولّد آلامًا رهيبة في الإنسان لمَّا يرى من أين سقط آدم، وأيّة حالة من الفوضى الداخليّة والعواصف والأوساخ تتواجد في كيانه، فينوح على حالته كأمّ أرملة فقدت وحيدها. يصير كأنّه بلا رجاء مع يقينه بوجود رجاء، وهذا ما يثبّته ويدفعه للاستمرار رغم شبه اليأس الّذي يعصف بقلبه. الصبر بإيمان ومثابرة على الصّلاة وتنقية الفكر والقلب من قذاراته وأوساخه. الرّبّ يمنحه المعرفة والرؤية والألم والنّدم وقوّة التّغيير، يجعله يعبر الموت عن إنسانه العتيق ويلده جديدًا بنعمته، فيتحرَّر الإنسان من كلّ صورة مثاليّة تأسره أو تسيطر عليه من خلال الأصنام والأهواء فيعرف أنّ التّوبة حياة جديدة بالكلّيّة وخبرة قوّة الله في حياة الإنسان.
فلنصلّي على الرّب قائلين: يا ربّي يسوع المسيح يا ابن الله الوحيد امنحني روح توبة وخلّصني...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (اللّحن الثّاني)
عندما انحدرتَ إلى الموت. أَيُّها الحياةُ الذي لا يَموت. حينئذٍ أَمَتَّ الجحيمَ بِبَرْقِ لاهوتِك. وعندما أقمتَ الأمواتَ من تحتِ الثَّرى. صرخَ نحوكَ جميعُ القُوّاتِ السّماويّين. أَيُّها المسيحُ الإله. مُعطي الحياةِ المجدُ لك.
طروباريّة للآباء (اللّحن الثّامن)
أنتَ أيُّها المسيحُ إلهُنَا الفائِقُ التَّسْبيح، يا مَنْ أَسَّسْتَ آباءَنا القدِّيسينَ على الأرضِ كواكبَ لامِعَة، وبهم هَديتَنَا جميعاً إلى الإيمانِ الحقيقِي يا جزيلَ الرَّحمةِ المجدُ لك.
القنداق
يا شفيعَةَ المَسيحيِّينَ غَيْرَ الخازِيَة، الوَسِيطَةَ لدى الخالِقِ غيْرَ المَرْدُودَة، لا تُعْرِضِي عَنْ أَصْوَاتِ طَلِبَاتِنَا نَحْنُ الخَطَأَة، بَلْ تَدَارَكِينَا بالمَعُونَةِ بِمَا أَنَّكِ صَالِحَة، نَحْنُ الصَّارِخِينَ إِلَيْكِ بإيمانٍ: بَادِرِي إلى الشَّفَاعَةِ، وأَسْرِعِي في الطَّلِبَةِ يا والِدَةَ الإِلهِ، المُتَشَفِّعَةَ دائمًا بِمُكَرِّمِيكِ.
الرّسالة (تيطس ٨:٣-١٥)
مباركٌ أنت يا ربُّ إلهَ آبائنا
لأنَّك عدلٌ في كلِّ ما صنعتَ بنا
يا ولدي تيطُسُ، صادقةٌ هي الكَلِمةُ، وإيَّاها أُريدُ أن تقرِّرَ حتَّى يهتمَّ الذين آمنوا باللهِ في القيام بالأعمال الحسنة. فهذه هي الأعمالُ الحسنةُ والنافعة. أما المُباحَثات الهذَيانيَّةُ والأنسابُ والخُصوُمَاتُ والمماحكاتُ الناموسيَّة فاجتنِبْها. فإنَّها غَيرُ نافعةٍ وباطلةٌ. ورجُلُ البدعَةِ، بعدَ الإنذار مرَّةً وأُخرى، أَعرِض عنهُ، عالِماً أنَّ مَن هو كذلك قدِ اعتَسفَ، وهُوَ في الخطيئةِ يَقضي بنفسهِ على نَفسِه. ومتَى أرسلتُ إليكَ أرتمِاسَ أو تِيخيكوسَ فبادِرْ أن تأتِيَنِي إلى نيكوبولِس لأنّي قد عزمتُ أن أُشتّيَ هناك. أمّا زيناسُ معلِّمُ الناموس وأبُلُّوسُ فاجتَهد في تشييعهما متأهِّبَين لئلّا يُعوزَهما شيءٌ. وليتعلَّم ذوونا أن يقوموا بالأعمال الصالِحةِ للحاجاتِ الضَّروريَّة حتَّى لا يكونوا غيرَ مثمرين. يسلّمُ عليكَ جميعُ الذين معي. سَلِّمْ على الذين يُحبُّوننا في الإيمان. النّعمةُ معكم أجمعين. آمين.
الإنجيل (لوقا ٥:٨-١٥) (لوقا ٤)
قال الربُّ هذا المثَل: خرج الزارِعُ ليزرعَ زرعَهُ. وفيما هو يزرع سقط بعضٌ على الطريق فوُطِئَ وأكلتهُ طيورُ السماءِ، والبعض سقط على الصخر، فلمَّا نبت يَبِسَ لأنَّهُ لم تكنْ له رُطوبة، وبعضٌ سقط بين الشوك، فنبت الشوكُ معهُ فخنقهُ، وبعضٌ سقط في الأرضِ الصالحة، فلمَّا نبت أثمر مِائَةَ ضِعفٍ. فسأله تلاميذه: ما عسى أنْ يكونَ هذا المثَل؟ فقال: لكم قد أُعطيَ أنْ تعرِفوا أسرارَ ملكوت الله. وأمّا الباقون فبأمثالٍ لكي لا ينظروا وهم ناظِرونَ ولا يفهموا وهم سامعون. وهذا هو المثَل: الزرعُ هو كلمةُ الله، والذين على الطريق هم الذين يسمعون، ثمَّ يأتي إبليس وَيَنْزعُ الكلمةَ من قلوبهم لئلاَّ يؤمنوا فيخلُصوا. والذين على الصخر همُ الذين يسمعون الكلمةَ ويقبلونها بفرحٍ، ولكن ليس لهم أصلٌ وإنَّما يؤمِنون إلى حين، وفي وقت التجربة يرتدُّون. والذي سقط في الشوك هم الذين يسمعون ثمَّ يذهبون فيختنقون بهمومِ هذه الحياةِ وغناها ومَلذَّاتِها، فلا يأتون بثمرٍ. وأمَّا الذي سقط في الأرض الجيّدة فهم الذين يسمعون الكلمة فيحفظونها في قلب جيّدٍ صالحٍ ويُثمرون بالصبر. ولمّا قال هذا نادى: مَن لهُ أُذنان للسمع فليسمعْ.
حول الإنجيل
"خرج الزّارع ليزرع زرعه!" (لو٨: ٥).
الزّارع - الرّبّ يسوع - الأقنوم الثّاني للثّالوث القدّوس، اللّابس بَشَرَتنا، أتانا، ويأتينا، اليوم وغدًا، ناثرًا لنا حبّات الحنطة؛ كي نلتقطها، نحن أولاده، عصافير السّماء، ونغتذي بها!!. من هذا اللّقاء، لا الموسميّ، إنّما اليوميّ، مع إلهنا، نتمخَّض في عيشنا والرّبّ يسوع... حضوره!. كلمته!. وصاياه!. حياته!... لتصير حياتنا!...نحن الأرض!. وهو الإله الزّارع!. والبذار الإلهيّ الزّرع!!. هذا ملء عطاء حياة الثّالوث لنا، على الأرض، وفيها!!. هي وصاياه مبذورة في قلوبنا، بدءًا!!.
تراجيع الحبّ هذه، بين الإله والإنسان، تُبقي روح حياةِ الإنسان، على الأرض!!. وتُبقي التّربةَ - جسدَ الإنسانِ، المخلوق قبل الإنسان؛ ليكوِّن الإنسان منها حياته، بعد أن كانت الأرضُ خرِبَةً، وغمرُ الماء عليها!!. ونفخ الإله روحه في جسد الأرض - الإنسان!!... فصار الإنسان أرض الله، المنتَظِرَةَ زرعَه ليتسقّط فيها؛ فيُنْشئها، ويُغذّيها هو من روح الرّبّ السّاكن فيه، ومن أعراق جبينه يسقيها!!.
هَلِ الإنسان هو الأرض الجيّدة؟!. نعم!!. إذا أراد أن يكونها بالنّعمة الإلهيّة، وبتقديم قلبه اللّحميّ على طبق كيانه إلى الإله؛ ليخلُصَ، مرّة وإلى الأبد، من جحود عقله، واستكباره، ومناطحته الإله؛ ليغلبه... باتّضاعه!!. الأرض الجيّدة تتوسّل الإنسان أن يكونَها، لتصير أرضَ إبداعِ الإله المُبارِكَةَ، المُخْصِبَةَ كلمتَه فيها؛ ليفلحها الإنسان، ويعملها مع ربِّ عمله، يسوع المسيح، وإخوته؛ فيحيون كلّهم الحياة الجديدة الّتي وعدهم الإله بها!!.
أَعطى المفسِّـرون بعض الإيضاحات حول ماهيّة الأرض لزرعها. وكان الرّبّ قد أَوضحَ أنماط زرع الأرض، في هذا المثل، اليوم؛ وكيف تتفاعل معها، إذا أصابتها البذور: ما الّذي تقبله، وما الّذي ترفضه منها؟!...
صورة زُرّاع الزَّرْع، في لوحات الحياة، تتمحور في أربعة أنماط الأرض. أمّا حبّات الزّرع، فتبقى واحدة؛ لأنّها من يد الخالق الواحد، المُعطي الكلّ ما يوافقهم، والنّاثر إيّاها ليأكلوا منها، إن أتوه، أو رجعوا إليه. تقع البذور على قارعة الطّريق... لأنّ الزّارع، بزرعه، كان يبذر برشِّ البذور بيُمْناه على وسعِ ما تطاله؛ فكان لا بدّ من أن يقع بعضها على أطراف الطّريق، حيث التّربة مَدوسةٌ تحت أقدام المارّة الّذين يهرعون مارّين، ولا أصل فيهم، فتنعدم تربة الزّرع الجيّدة منهم... أمّا الزّرع الّذي يسقط على الصّخر، حيث التّربة ضحلة، وتحتها طبقة صخريّة لا تُنبت الحياة... فيشير به الإله إلى الجموع الّتي كانت تتبعه، لتشاهد معجزاته، وتخبر عنها، لا لتحيا معه مسيرته إلى المنتهى... فيما الشّوك، الّذي يَسْقط الزّرع فيه فيختنق، هو الحياة المزروعة في حبّ العالم؛ الّتي كلّما عاشها الإنسان، يصير عبدًا لها، باتّكاله الكامل عليها؛ وينسى، شيئًا فشيئًا، انتماءه إلى الإله، ربّه وخالقه، الّذي يوصله، في سعيه، إلى الحياة الأبديّة، إلى فهم الرّوح وعيشِها، إذا قَبِلَ الكلمة الإلهيّة إلهًا من الإله، لا ربًّا من أرباب الحياة الدّهريّة اليوميّة، في "الرّكض" والسّعي لتحصيلٍ أكبر وأوفر...
هكذا، تضعف الرّوح شيئًا فشيئًا؛ تنحلّ، ويموت الإنسان في نفسه، ومن ثمّ يُميت خالقه، ليحيا كأداة، بل كآلة في مجتمعه وبيته، ومع ذاته!!. آلة لا حسَّ فيها، ولا روح، ولا شفافيّة، ولا نور؛ بل شهوانيّةٌ تمزّقه، ومنطق فكره، وحسّه الرّوحيّ!!. والرّبّ قال، على لسان رسوله يوحنّا الإنجيليّ: "الرّوح هو الّذي يُحيي. أمّا الجسد، فلا ينفع شيئًا!" (يو٦: ٦٣). "الزّرع هو كلمة الله!" (لو٨: ١١). وجميع مَن في الحياة هم "قارعة" الطّريق... والصّخر... والشّوك... والأرض الصّالحة!!. "أمّا الزّرع الّذي سقط في الأرض الجيّدة، فهو الّذين يسمعون الكلمة، فيحفظونها في قلبٍ جيّدٍ صالحٍ، ويُثمرون بالصّبر" (لو٨: ١٥). "بصبركم تقتنون نفوسكم" (لو٢١: ١٩)... "مَن صبر إلى المنتهى، فذاك يخلُص" (متّى١٠: ٢٢...). يقول الآباء، في علم الصّلاة والرّوح، إنّ الإنسان فَسُد قلبه، إلى درجة أنّه صار لا يرى أنّ المسمار الرّابع، الّذي بُجِّن به جسد المسيح، هو "الصّبر"!. "صبرًا صبرتُ للرّبّ، وهو أصغى إليّ" (مز٣٩: ١)...
ما هو "الصّبر"، أو "الإثمار بالصّبر"، الّذي ذكره يسوع في إنجيل اليوم، قائلًا: الأرض الجيّدة هي الكلمة الإلهيّة، الّتي تدخل خلايا الكيان بملئه، وتُحْفظ في القلب الجيّد الصّالح، أي القلب المُحِبّ الّذي قدّمناه إلى الرّبّ هديّة منه، ليثمره لنا بالصّبر؟!...
الصّبر هو الحبّ!!. الصّبر هو الوداعة في ألّا يطلب الإنسان شيئًا لنفسه، آخذًا إيّاه من أمام أخيه!... الصّبر هو القبول!... قبول التّعيير، والإهانات، والأفكار البذيئة الّتي نحاكِم وندين بها الآخر!... الصّبر هو ألّا نلطم مَن لطمنا، بل أن نُحني الرّأس قائلين: "سامحني، لأنّي أثرتُكَ وأغضبتُك"!...
الصّبر هو أنّك، إن أُعطيتَ أن تعرف مكنونات القلوب، تسامح، وتقبل، وتفرح بالسّوء والظُّلم؛ فتصير على صورة ربّك ومسيحك، حين قالوا عنه إنّه، وهو الإله، صار صديق الزّواني والعشّارين. فقال لهم، بعد أن علّقوه على الصّليب، مبجِّنين إيّاه على الخشبة، لتسيل دماء يديه، ورجليه، وجنبه، بعد طعنه: "اغفر لهم، يا أبتاه؛ لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون!" (لو٢٣: ٣٤)...
والفعل، هنا، هو أن يتّحد الإنسان بخالقه، وربّه، وإلهه!!. فلا تبقى له فرصة للجهاد والخلاص وقول كلمة الحقّ، خارج مشيئة إلهه؛ لأنّ الكلمة، الّتي من الإنسان، ماتت بموت الإله على الصّليب، وبموت الّذين هربوا من وجه القوس للدّفاع عن حقِّ الإله فيهم، معلَّقين لأجل خلاصهم على صليب الحقّ والعدل والحبّ... "ولمّا قال هذا، نادى: مَن له أذنان للسّمع، فليسمع!" (لو٨: ٨). اليوم، سقط قناع الكذب والاحتيال، اللّذَيْن أغوت بهما الحيّةُ - الشّيطانُ آدمَ وحوّاءَ، لإخراجِهما من فردوس خلاصِهِما، وتعليقِهما على كذبة "الكذّاب وأَبي الكذّاب"، لا على صليب يسوع، للموت؛ فالوصول به إلى القيامة!!. نحن عُلّقنا على صليب خلاصنا، باتّحادِنا بالرّبّ يسوع، وأَخْذنا صليبَه علينا؛ فبتنا أولاد القيامة، أولاده، أولاد "الطّريق والحقّ والحياة!". نحن، اليوم، صرنا الأرض الجيّدة، صرنا الّذين يؤمنون، عارفين أن لا مطرح لهم على هذه الأرض، إلّا صليب ربّهم؛ ومنه وفيه يحيون المعرفة البكر، الّتي تجعلهم آلهة، أرضًا صالحة لبذاره!!...
الرّبّ يسوع المسيح إلهنا يقدّسنا، لا لأنفسنا، بل له؛ إذ يعلّقنا بالحبّ معه على صليب هوانه؛ ليُخلّصنا من خطايانا، بموتنا معه؛ فيصير الصّليب عربونَ حبِّ الإلهِ لنا، الّذي هو أجرته من العالم، حتّى يمجّد به أباه السّماويّ وروحه القدّوس؛ فتصير حياة الثّالوث، على الأرض كما في السّماء، حياةً أبديّة معمَّدة بالنّور!!...آمين.
(الأمّ مريم (زكّا) رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان دوما – لبنان )