نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 15 آذار 2020
العدد 11
الأحد الأحد الثّاني من الصّوم (غريغوريوس بالاماس)
اللّحن 6- الإيوثينا 6
أعياد الأسبوع: *15: (غريغوريوس بالاماس)، الشُّهداء أغابيوس والسَّبعة الَّذين معه، *16: الشَّهيد سابينوس المصريّ، البارّ خريستوذولس *17: ألكسيوس رجل الله *18: كيرللس رئيس أساقفة أورشليم *19: الشّهداء خريسنثوس وداريّا ورفقتهما *20: المديح الثالث ، الآباء الـ 20 المقتولون في دير القدّيس سابا *21: الأسقف يعقوب المُعترف، البارّ سرابيون.
كلمة الرّاعي
التّألّه بالنّعمة
”لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ،
وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ“ (افسس 2: 8)
تعليم الكنيسة حول الخلاص بالنِّعمة يعني أنَّ الرَّبّ يمنحنا الحياة الأبديّة هبة مجّانيّة منه. لكن، هذا لا يعني بأنّ مجرَّد إيماننا أو إعلاننا بأننا نؤمن به نحصل على الخلاص بدون أي جهاد أو تجارب أو عمل ...
مطلوب منّا أن نعمل ”أعمال الله“ (يوحنا 6: 28)
أي أن نؤمن ”بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ“ (يو 6: 29)، وهذا يعني أن نحفظ وصاياه ليسكن فينا الثّالوث القدّوس بالنِّعمة: ”إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلًا“ (يو 14: 23)، لأنّنا بدون المسيح السّاكن فينا والفاعل بنعمة الرّوح القدس المنسكبة علينا من الآب بالابن في الروح القدس لا نستطيع أن نعمل شيئًا (يو 15: 5)...
* * *
”لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ“ (رومية 3: 10). البشريّة كلّها في السّقوط. الكلّ مخلَّص في المسيح. لكن، لاقتبال الخلاص الّذي بالمسيح لا بدّ من انفتاح القلب، وهذا لا يصير بدون تنقيَة، والتّنقية لا تتحقَّق بدون التّوبة، والتّوبة غير ممكنة بدون نعمة الله ... عمل النِّعمة مرتبط بالإرادة الحُرَّة للإنسان، رغم سكنى هذه النِّعمة في المعمَّدين ... من يريد أن يتبع المسيح عليه أن يعمل عمل المسيح أي أن يطيع الله ”حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ“ (فيليبي 2: 8). تُفَعَّلُ النّعمة الإلهيّة الموجودة في القلب باقتبال الصّليب حبًّا بالمسيح وشهادةً له. حينها، وفقط حينها، يصير الله هو العامل في الإنسان مشيئته وتصير مشيئة الإنسان هي نفسها مشيئة الله ... ساعتئذ يصلّي الإنسان ويصوم ليتقدَّس لأنّه لم يعد يطلب مشيئته بل مشيئة الله وإرادته الّتي هي قداسة الإنسان (1 تسالونيكي 4: 3).
من يؤمن بالمسيح يقبل بسلوك الطّريق الكَرِب والباب الضّيّق المؤدّي إلى الحياة (راجع متّى 7: 13). وهذا هو الجهاد الرّوحي أي الحرب ضدّ الأنا المقيتة الّتي هي سبب ظُلمة القلب وقساوته وتحجّره ... لا يستطيع الإنسان أن يقتتني النِّعمة الإلهيّة بدون العبور في الموت عن إنسانه العتيق.
* * *
بتجسُّد ابن الله من الرّوح القدس ومن مريم العذراء وتأنّسه اتّحدت طبيعة البشر مع الطّبيعة الإلهيّة في أقنوم الكلمة ”الابن الوحيد“. سكنت الألوهة في الطّبيعة البشريّة واشتركت طبيعة البشر، في أقنوم المسيح، بخصائص الطّبيعة الإلهيّة بدون أن تذوب وتضمحلّ وبدون أن تكون منفصلة مستقلّة وبدون أن تصير مركّبة متقسّمة. كلّ ما هو للإله صار للبشر في المسيح يسوع ابن الله المتجسِّد. عبر اتّحاد الإنسان بالمسيح يسكن الرّوح القدس فيه ويقتني صفات الله، وتتحوّل طاقاته الطّبيعيّة عبر الاتّحاد مع النّعمة الإلهيّة إلى فضائل أي تَشَبُّه بما لله ... هذه هي غاية التّجسُّد أن يصير الإنسان إلهًا بالنّعمة، أي أن يصير نورًا من ”النّور الّذي لا يعروه مساء“ ... أي أن يدخل في سرّ جبل ثابور ومُعاينة الله كما هو لأنّ ”للهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ“ (1 يوحنا 1: 5).
معرفة الله في النّور هي تخطّي لمفهوم الإدراك البشريّ بالعقل أو التّعلّم عن هذا الأمر، إنّها خبرة صمت العقل وإظلام المعرفة البشريّة العقليّة لله أي دخول الإنسان في سرّ اللّاإدراك وخبرة الدَّهَشَ بمُعاينة الله النّور في نور النِّعمة الإلهيّة الّتي أمامها كلّ معرفة هي ظلمة ...
* * *
أيّها الأحبّاء، كلّ إنسان مؤمن مدعوّ إلى ارتقاء جبل سيناء وجبل ثابور العقليَّين، وهذه هي الحياة الرّوحيّة وهذا هدف الجهاد الرّوحيّ، ولكن ”معرفة الله هي جبل شديد الانحدار وصعب التّسلّق، أغلبيّة النّاس بالكاد يصِلون سفحه“ (القدّيس غريغوريوس النّيصصي). لا أقول هذا لأضع حدًّا لحماس المؤمن بل لكشف سرّ العطيّة الّتي لا يمكن وصفها، الّتي هي أن نعرف الله وجهًا لوجه في سرّ نوره الإلهيّ غير المخلوق الّذي به يُشركنا في حياته السّرمديّة.
الأساس، أنّ على المؤمن أن يجاهد ليتسلّق جبل الله عبر طاعة الوصيّة والتّسليم مُصغيًا لصوت الله الّذي يقوده في معارج الارتقاء الروحيّ في الظّلمة المُنيرة والحزن المُفرح، عنيت بهما التّوبة.
ألا وهبنا الرّبّ أن نثبت في حفظ وصيّته لأنّه يريدنا له مسكنًا ... يشعّ منه نوره الإلهيّ ...
فهل نحن على استعداد لخوض مغامرة الحياة الأبديّة في جهاد الصّلاة والصّوم بالتّوبة؟! ...
ومن له أذنان للسّمع فليسمع! ...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن السّادس)
إِنَّ القوَّاتِ الملائِكِيَّة ظَهَرُوا على قبرِكَ الـمُوَقَّر، والحرَّاسَ صَارُوا كَالأَموات، ومريمَ وَقَفَتْ عندَ القَبْرِ طَالِبَةً جَسَدَكَ الطَّاهِر، فَسَبَيْتَ الجَحِيمَ ولَمْ تُجَرَّبْ مِنْهَا، وصَادَفْتَ البَتُولَ مَانِحًا الحَيَاة، فَيَا مَنْ قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ، يَا رَبُّ المَجْدُ لَك.
طروباريَّة القدَّيس غريغوريوس بالاماس(باللَّحن الثَّامِن)
يا كوكبَ الرّأيِ المُستقيم، وسَنَدَ الكنيسةِ ومُعلِّمَهَا. يا جمالَ المتوحِّدينَ، ونصيرًا لا يُحارَب للمُتكلِّمينَ باللَّاهوت، غريغوريوسَ العجائبيَّ، فخرَ تسالونيكية وكاروزَ النِّعمة، اِبْتَهِلْ على الدَّوامِ في خلاصِ نفوسِنا.
قنداق (باللَّحن الثّامن)
إنّي أنا عبدكِ يا والدة الإله، أكتب لكِ رايات الغلبة يا جنديّة مُحامية، وأقدّم لكِ الشّكر كمنقذة من الشّدائد، حتّى أصرخ إليكِ، إفرحي يا عروسًا لا عروس لها.
الرّسالة (عب 1: 10-14، 2: 1-3)
أنتَ يا رَبُّ تَحْفَظُنَا وتَسْتُرُنا في هذا الجيلِ
خَلِّصْنِي يا رَبُّ فإِنَّ البارَّ قَد فَنِي
أنتَ يا ربُّ في البَدءِ أسَّستَ الأرضَ والسَّماواتُ هي صُنْعُ يديْكَ. وهي تزولُ وأنتَ تبقى، وكُلُّها تَبْلى كالثَّوب، وتطويها كالرِّداء فتتغيَّر، وأنتَ أنتَ وسِنُوك لنْ تَفْنَى. ولِمَنْ من الملائِكَةِ قالَ قَطُّ اجْلِسْ عن يميني حتَّى أَجْعَلَ أَعداءَكَ مَوْطِئًا لقَدَمَيْكَ. أَليسُوا جميعُهُم أَرواحًا خادِمَة تُرْسَلُ للخِدمةِ من أجلِ الَّذين سَيَرِثُون الخلاص. فلذلك، يجبُ علينا أَنْ نُصْغِيَ إلى ما سمعنَاهُ إِصغاءً أَشَدَّ لِئَلاَّ يَسْرَبُ مِنْ أَذْهَانِنا. فإِنَّه إِنْ كانَتِ الكلمةُ الَّتي نُطِقَ بها على ألسنةِ ملائِكةٍ قَدْ ثَبُتَتْ وكلُّ تَعدٍّ ومعَصِيَةِ نالَ جَزاءً عَدْلًا، فكيفَ نُفْلِتُ نحنُ إِنْ أَهْمَلنَا خلاصًا عظيمًا كهذا، قد ابَتَدَأَ النُّطْقُ بِهِ على لسانِ الرَّبِّ، ثمَّ ثبَّتَهُ لنا الَّذين سمعُوهُ؟!.
الإنجيل (مر 2: 1– 12)
في ذلك الزَّمان، دخلَ يسوعُ كَفَرْناحومَ وسُمِعَ أَنَّهُ في بَيتٍ، فَلِلْوَقْتِ اجتَمَعَ كثيرونَ حتَّى أَنَّهُ لم يَعُدْ مَوْضِعٌ ولا ما حَولَ البابِ يَسَعُ. وكان يخاطِبُهُم بالكلمة، فَأَتَوْا إليْهِ بِمُخلَّعٍ يَحمِلُهُ أَربعَة. وإِذْ لم يقْدِرُوا أَنْ يقترِبُوا إليهِ لِسَببِ الجمعِ كَشَفوا السَّقْفَ حيث كانَ. وَبعْدَ ما نَقَبُوهُ دَلُّوا السَّرِيرَ الَّذي كانَ الـمُخَلَّعُ مُضْطجِعًا عليه. فلمَّا رأى يسوعُ إيمانَهم، قالَ للمُخلَّع يا بُنَيَّ، مغفورةٌ لكَ خطاياك. وكانَ قومٌ مِنَ الكتبةِ جالِسِينَ هُناكَ يُفكِّرون في قُلوبِهِم: ما بالُ هذا يتكلَّمُ هكذا بالتَّجْدِيف؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغفِرَ الخطايا إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ؟!! فَلِلْوقْتِ عَلِمَ يَسوعُ برِوحِهِ أَنَّهُم يُفَكِّرُونَ هكذا في أَنْفُسِهِم، فقالَ لهُم: لِماذا تفَكِّرُون بهذا في قلوبِكُم؟ ما الأَيْسَرُ أَنْ يُقالَ مَغفورةٌ لكَ خطاياكَ أمْ أَنْ يُقالَ قُمْ واحمِلْ سريرَكَ وامشِ؟ ولكِنْ لِكَي تَعْلَمُوا أَنَّ ابنَ البشرِ لَهُ سُلطانٌ على الأرضِ أَنْ يَغفِرَ الخطايا (قالَ للمُخَلَّع) لكَ أَقُولُ قُمْ واحمِلْ سَريرَكَ واذْهَبْ إلى بَيتِكَ، فقامَ للوَقتِ وحَمَلَ سَريرَهُ، وخرَج أَمامَ الجميع، حتّى دَهِشَ كُلُّهُم ومجَّدُوا اللهَ قائلينَ: ما رَأينا قَطُّ مِثْلَ هذا.
حول الإنجيل
في الأحد الثّاني من الصّوم المَعروف بأحد القدّيس غريغوريوس بلاماس، وفيه نقرأ إنجيل شفاء مُخلّع كفرناحوم حيث جاء بالمُخلّع أربعة رجال وبسبب الحشد الكبير لم يستطيعوا إدخاله للبيت لذلك نقبوا السّقف ودَلّوه منه واضعين إيّاه أمام السّيّد. عندما رأى السّيّد مرض الرّجل الصّعب لم يجرّب إيمانه كما فعل مع غيره. لكنّ إلحاح الرّجال الأربع ورغبة المريض أن يكون أمام السّيّد ليُشفى ليس سوى دلالة على إيمانهم بأنّ المسيح سيشفيه. ولكنّ السّيّد أجابهم بطريقة لم يتوقّعوها ولم يطلبوها "أَيُّهَا الإِنْسَانُ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ". هم أتوا لشفاء الجسد أمّا هو فأعطى الأوّليّة لشفاء النّفس، ليؤكّد لهم ولنا أنّ الحاجة الأولى هي شفاء النّفس. في شخص المُخلّع تتمثّل كلّ البَشريّة المريضة الّتي تحتاج لأن تُشفى من مرض الجسد والرّوح أي الخطيئة. عندما حدثت الأعجوبة بُهت الجَمع وخاف جدًّا. خافوا لأنّهم عملوا خطايا كثيرة ومن الممكن أن يقعوا هم في المرض ذاته. ثم نلاحظ أن الكتبة والفرّيسيّين قد أدانوا المسيح في فكرهم. أمّا المَفلوج فأطاع السّيّد وحمل سريره ومشى. السّرير كان علامة لألمه الّذي عانى منه الكثير ولكنّه بالنّهاية بعد أن شفاه السّيّد حمله ومشى. توجد هنا ثلاثة ردّات أفعال، الأولى الخوف والبهتان من قبل الحشد، والثّانية الإدانة والشّكّ من قبل الفرّيسيّين، الثّالثة الطّاعة من قبل المخلّع. يمكننا القول أنّ داخل كنيسة المسيح، كمثل كفرناحوم، الّتي تعني "بيت التّعزية"، كانت ردّات الأفعال الثّلاث السّابقة أمّا نحن فعلينا أن نقارن أنفسنا مع الحالات الثّلاث لنعرف ذواتنا ونعمل على تغييرها إن كان في قلبنا شكّ أو خوف حول المَسيح، ولنعمل على أن نكون من الواثقين بأنّ المسيح سيشفيننا ولنهتمّ بشفاء النّفس من الخطيئة لأنّه أهمّ من شفاء الجسد. وبما أنّ الكنيسة هي الميناء الّتي يلجأ إليها المشلولون والمرضى لكي يُشفوا فخارجها لا يوجد شفاء سوى مؤقّت وزائل، فلنهتمّ بخلاصنا ولتقدّمنا الرّوحيّ والسّيّد سيرحمنا ويشفينا روحًا وجسدًا داخل كنيسته المحبوبة.
غاية الوصيّة
تلفتنا في العنوان حصريّته. فأَل التّعريف في "الوصيّة" تُفيد الحصريّة. لَكأَنّ هذه الحصريّة مقصودة هنا للتّدليل على أنّ في المسيحيّة وصيّةً واحدة لا غير، وأنّ هذه الوصيّة تختزل الوصايا الأخرى جميعًا؛ ليس فقط تختزلها، بل وتسمو بها إلى المرتبة العُليا، مرتبةِ الحُبّ المَبذول والمَصلوب فداءً للعالَمين وخلاصًا. فما هي هذه الوصيّة؟
كلّ والد، عندما يستشعر دُنوّ أجله، يجمع حوله أولاده، وبما يُشبه التّسليم والتّسلُّم يقسم فيما بينهم ميراثه ويستودعهم وصاياه الأخيرة. شيءٌ من هذا القَبيل فعله السّيّد. فمع أنّ التّشبيه، في هذا المقام، لا يجوز، إلّا أنّنا نستعيره تجاوزًا لجلاء الفكرة وتبيانها. فالسّيّد، له المجد، عندما استشعر أنّ ساعته قد دَنَت، وأنّ تسليمه على يد يهوذا للصّلب بات وشيكًا، جمع حوله تلاميذه وشرع يخاطبهم بكلام وداعيّ مؤثّر جدًّا، وفيه الكثير من التّعزية بُغية تشديدهم وتثبيتهم. قال لهم: "وصيّتي لكم هي أن يُحبّ بعضكم بعضًا كما أحببتكم أنا". ما من حُبّ أعظم مِن حُبِّ مَن يبذل نفسه فداءً عن أحبّائه... فإذا عملتم بما أوصيتُكم به كنتم أحبّائي" (يوحنّا 15: 12- 14). بالمقابل نقرأ عند متّى أنّ أحد الفرّيسيّين سأل السّيّد قاصدًا إحراجه: "يا معلّم، ما هي أكبر وصيّة في الشّريعة؟ فقال له: أحبِب الرَّبّ إلهك بجميع قلبك وجميع نفسك وجميع ذهنك. تلك هي الوصيّة الكبرى والأولى، والثّانية مثلها: أحبِب قريبك حبَّك لنفسك. بهاتين الوصيّتين يرتبط كلام الشّريعة كلّها والأنبياء" (متّى 22: 35- 40).
بالتّالي، إذا عدنا إلى طرح السّؤال: ما هي غاية الوصيّة؟ يأتينا الجواب مِنْ مَصدره، من الكلام الإلهيّ بعينه: المحبّة، ثمّ المحبّة، ثمّ المحبّة. محبّة الله ومحبّة القريب. إنّ طريقنا إلى الخالق تمرّ، حُكمًا، بالمَخلوق، وهذا معناه أنّ محبّتنا لله تستدعي محبّتنا للقريب الّذي وضعه الله في طريقنا ولا تستقيم إلّا بها، إذ "ليس من الله من لا يحبّ أخاه" (1 يوحنّا 3: 10). فبين محبّة الله ومحبّة القريب علاقة جدليّة، وهذه العلاقة يبرزها، بأجلى بيان، إنجيل الدّينونة الّذي تَلته الكنيسة على مسامعنا في أحد مرفع اللّحم، ليس قبل هذا اليوم بكثير (متّى 25: 31- 46). كما يبرزها، مرّةً أخرى، يوحنّا الرّسول حيث يجعل محبّتنا للمخلوق محكَّ صدقنا في محبّتنا للخالق، فيكتب: "إذا قال أحدٌ: "إنّي أحبّ الله" وهو لا يحبّ أخاه كان كاذبًا. لأنّ الّذي لا يحبّ أخاه وهو يراه، لا يستطيع أن يحبّ الله وهو لا يراه..." (1 يوحنّا 4: 20- 21).
هذه المحبّة حركة قائمة أزليًّا في قلب الثّالوث، وقد كانت في أساس الخلق، بل كانت هي الخلق. "الله محبّة" (1 يوحنّا 4: 8). هو أحبّنا فخلقنا، أَحبّنا فأبرزَنا من العدم إلى الوجود. أحبَّنا فنفخ في جبلتنا التّرابيّة من روحه روحًا ومن حياته حياة. مَن حيزَت له المحبّة حيزَت له الحياة ومفاعيل الحياة. ونحن، بطاقة الحبّ هذه، نجوز ميدان الصّوم، إذ بهذه الطّاقة فقط يكتسب صومنا معناه ومبرّر وجوده. الصّوم، نظامًا غذائيًّا مَحْضًا، لا معنى له ولا مبرّر. ذلك "أنّ الطّعام- على حدّ تعليم بولس في كورنثوس الأولى- لا يقرّبنا إلى اللّه، فإن أكلنا لا نزيد وإن لم نأكل لا ننقص". يكتسب صومنا معناه ومبرّر وجوده عندما نجعل منه مَسيرة حبٍّ روحيّة نحو "الأخ الضّعيف" الّذي مات المسيح لأجله، فنحرص على ألّا يكون سلطاننا الطّعاميّ معثرةً له، ونذكر، دومًا، أنّنا لأجل هذا الأخ سنُوافي المَسيح في ختام المَسيرة الصّياميّة المُبارَكة مُعلَّقًا على صليب الحُبّ ليقوم، في اليوم الثّالث، فِصحًا جديدًا مقدّسًا نُصافِح فيه بعضُنا بعضًا بفرح.