نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي
كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.
الأحد (16) بعد العنصرة (آباء المجمع المسكونيّ السّابع)
العدد 41
الأحد 13 تشرين الأوّل 2024
اللّحن 7- الإيوثينا 5
أعياد الأسبوع: *13: آباء المجمع المسكونيّ السّابع، تذكار الشُّهداء كربُس وبابيلوس وأغاثوذورس وأغاثونيكي *14: الشُّهداء نازاريوس ورفقته، القدّيس قزما الـمُنشِئ أسقف مايوما *15: الشَّهيد في الكهنة لوكيانُس المعلِّم الأنطاكيّ، *16: الشّهيد لونجينوس قائد المائة ورفقته *17: النّبيّ هوشع، الشّهيد أندراوس، أيقونة العذراء القائدة *18: الرَّسول لوقا الإنجيليّ، البارّ أفذوكيموس الآثوسيّ * 19: الّنبيّ يوئيل، الشّهيد أوَّارس.
كلمة الرّاعي
مواجهة الأزمات بالإيمان
"وَأَمَّا الَّذِي سَقَطَ فِي الأَرْضِ الجَيِّدَةِ، فَهُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الكَلِمَةَ
فَيَحْفَظُونَـهَا فِي قَلْبٍ جَيِّدٍ صَالِحٍ وَيُثْمِرُونَ بِالصَّبْرِ" (لو 8: 14)
الإيمان سرٌّ يعيشه الإنسان حين يتخطّى ذاته بكلّ مقاييسها لينفتح على اللَّامحدود ويتقبّل عطيّة الوجود الأبديّ. الإنسان مُقيَّد بحدود الطَّبيعة المخلوقة إذا ما نظر إلى نفسه على أنّه، فقط، جزء من هذا الكَوْن الَّذي أتى من العدم. حقيقة الإنسان بالإيمان مختلفة عن حقيقته في الفلسفات الوجوديّة، الَّتي للأسف تحكم العالم. يقع الإنسان في خدعةٍ كبرى حين ينظر إلى نفسه كائنًا فانيًا، لأنّه حينئذ يحدّ وجوده بما هو ملموس ومحسوس. أيضًا، إذا تعاطى الإنسان الوجود مؤمنًا لكن دون معرفة الإله الحقّ، لا ينكشف له سرّ الوجود وحقيقته البشريّة، كون كلّ شيء مرتبط بالحقيقة الإلهيّة السَّرمديَّة ومُنبثق عنها.
* * *
آباء الكنيسة، الَّذين نُعَيِّد لهم اليوم، هم منارات الحقّ الَّتي كشفتْ لنا عبر القرون سرّ الله من خلال خبرة عَيْشهم ليس مع الله أو فيه بل عيشهم إيّاه في سرّ النّعمة الإلهيّة غير المخلوقة. ليس تعليم الآباء نظريًّا بل هو نتاج خبرة عَيْش كلمة الله الَّتي أثمرت فيهم مئة ضعف. لم يأت الآباء إلَّا من حياة جهادٍ وتعبٍ وصلاة وصوم وتوبة، وهذا هو الطّريق إلى اقتناء النِّعْمة، لأنّ كلمة الله تدعونا إلى هذه كلّها. وهذه الكلمة تجسَّدَتْ في "ملء الزَّمان" بالكلمة الإلهيّ ابن الله الَّذي صار إنسانًا مثلنا مشابهًا لنا في كلّ شيء ما خلا الخطيئة.
آباء الكنيسة يَلدونَنا في المسيح كلّما عرفناهم في العُمْق واقتدينا بهم. فهم "تَجَرَّبُوا فِي هُزُءٍ وَجَلْدٍ، ثُمَّ فِي قُيُودٍ أَيْضًا وَحَبْسٍ. رُجِمُوا، نُشِرُوا، جُرِّبُوا، مَاتُوا قَتْلًا بِالسَّيْفِ، طَافُوا فِي جُلُودِ غَنَمٍ وَجُلُودِ مِعْزَى، مُعْتَازِينَ مَكْرُوبِينَ مُذَلِّينَ، ..." (عب 11: 36 – 37)، ولم يقبلوا أن ينكروا الإيمان أو يحرّفوه ليُرْضوا رؤساء هذا العالم. تنقّى إيمانهم وتطهّرت حياتهم بالآلام الَّتي تكبدّوها لأجل الشَّهادة للرَّبّ في استقامة الإيمان. كيف تحمَّلوا كلّ هذا، كيف صبروا، كيف تشدَّدوا، كيف تعزَّوْا في المحن والضِّيقات والأزمات؟!... بالإيمان الحيّ الفاعِل بالمحبّة في الصّبر...
* * *
أيُّها الأحبّاء، العالم اليوم ساقط والبشر يَحْيَون في العَطَب الرُّوحيّ، هذا من جِهةٍ، لكنّ الخلاص قد تمّ أي غلبة البشريّة على الشّرّير بالغلبة على الخطيئة والموت في المسيح يسوع، هذا من جهةٍ أخرى. العالم اليوم فيه النُّور وفيه الظُّلمة، فيه الأخيار وفيه الأشرار، فيه الصَّالِحون وفيه الطَّالحون، إلخ. علينا كمُؤمنين أن نكون الخميرة اليَسيرة الَّتي تُخمِّر العجين كلّه، على طريقة ومنهج الآباء عبر اتّباعنا مثالهم في الحياة الدَّاخليَّة والشَّهادة للإيمان لكي يغيِّر الرَّبُّ فينا وبنا العالم إلى مكان أفضل...
فلنكن قدوةً في الإيمان والاتّكال على الله في مواجهة أزمات وضيقات هذه الأيّام في وطننا والعالم، ولنُجَسِّد إيماننا أفعال محبَّة واحتضان، بكلّ حكمةٍ وتَمييز، لمن يضعه الرَّبُّ في طريقنا. إنّه زمنُ تقديسٍ بامتياز، لأنّ إيماننا ينمو ويتنقّى ويزداد في أوقات الشِّدّة. العالم يحتاج المسيح ليخلَّص من سلطان إبليس، فلنكن نحن حضور المسيح في العالم أوَّلًا بحملنا بعضنا أثقال بعض، وثانيًا بحملنا للمتألّمين وسكبنا عليهم التَّعزية الإلهيّة بخدمة المحبّة في الاتِّضاع والصَّبر، لكي تُثمِر النِّعمة في الخادم والمخدوم حياة جديدة منيعة على الخوف بقوّة الإيمان والثّقة بالَّذي خلّصنا...
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما
طروباريّة القيامة (بِاللَّحْنِ السّابِع)
حَطَمْتَ بِصَلِيبِكَ الـمَوْتَ وَفَتَحْتَ لِلِّصِّ الفِرْدَوْس، وَحَوَّلْتَ نَوْحَ حَامِلاتِ الطِّيب، وَأَمَرْتَ رُسْلَكَ أَنْ يَكْرِزُوا بِأَنَّكَ قَدْ قُمْتَ أَيُّهَا الـمَسِيحُ الإِلَه مَانِحًا العَالَمَ الرَّحْمَةَ العُظْمَى.
طروباريّة أحد آباء المجمع المسكونيّ السّابع (بِاللَّحْنِ الثّامِن)
أنت أيّها المسيح إلهنا الفائق التّسبيح، يا مَن أسّست آباءنا القدّيسين على الأرض كواكب لامعة، وبهم هديتنا جميعًا إلى الإيمان الحقيقيّ، يا جزيل الرّحمة المجد لك.
القنداق (باللّحْنِ الرّابع)
يَا شَفِيعَةَ الـمَسِيحِيِّينَ غَيْرَ الخَازِيَة، الوَسِيطَةَ لَدَى الخَالِقِ غَيْرَ الـمَرْدُودَةِ، لا تُعْرِضِي عَنْ أَصْوَاتِ طَلِبَاتِنَا نَحْنُ الخَطَأَةَ، بَلْ تَدَارَكِينَا بِالـمَعُونَةِ بِـمَا أَنَّكِ صَالِحَةٌ، نَحْنُ الصَّارِخِينَ إِلَيْكِ بِإِيمَانٍ: بَادِرِي إِلَى الشَّفَاعَةِ، وَأَسْرِعِي فِي الطِّلْبَةِ، يَا وَالِدَةُ الإِلَهِ الـمُتَشَفِّعَةَ دَائِمًا بِمُكَرِّمِيكِ.
الرّسالة (تيطس 3: 8- 15)
مُبَارَكٌ أَنْتَ يَا رَبُّ إِلَهَ آبَائِنَا،
لِأَنَّكَ عَدْلٌ فِي كُلِّ مَا صَنَعْتَ بِنَا.
يا ولدي تيطس، صادقة هي الكلمة، وإيّاها أريد أن تُقَرِّر حتّی يهتمّ الَّذين آمنوا بالله في القيام بالأعمال الحسنة، فهذه هي الأعمال الحسنة والنّافعة، أمّا المباحثات الهذيانيّة والأنساب والخصومات والـمُماحكاتُ النّاموسيّة فَاجْتَنِبْهَا، فإِنَّها غيرُ نافعة وباطلة. ورجل البدعة بعد الإنذار مرّة وأخرى أعرض عنه، عَالِمًا أنَّ مَن هو كذلك قد اعتسف، وهو في الخطيئة يقضي بنفسه على نفسه. ومتى أُرسل إليك أرتيماس أو تيخيكوس فبادر أن تأتيني إلى نيكوبوليس لأنّي قد عزمت أن أُشَتِّيَ هناك. أمّا زيناس معلّم النّاموس وأبولّس فاجتهد في تشييعها متأهِّبَيْن لئلَّا يعوزها شيء. وليتعلّم ذوونا أن يقوموا بالأعمال الصّالحة للحاجات الضّروريّة حتّى لا يكونوا غير مثمرين. يسلّم عليك جميع الّذين معي. سلِّم على الَّذين يُحبّوننا في الإيمان. النّعمة معكم أجمعين، آمين.
الإنجيل (لو 8: 5- 15)(لوقا 4)
قَالَ الرَّبُّ هَذَا الـمَثَلَ: خَرَجَ الزَّارِعُ لِيَزْرَعَ زَرْعَهُ. وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَوُطِئَ وَأَكَلَتْهُ طُيُورُ السَّمَاءِ. وَالبَعْضُ سَقَطَ عَلَى الصَّخْرِ، فَلَـمَّا نَبَتَ يَبِسَ لِأَنَّهُ لَـمْ تَكُنْ لَهُ رُطُوبَةٌ. وَبَعْضٌ سَقَطَ بَيْنَ الشَّوْكِ، فَنَبَتَ الشَّوْكُ مَعَهُ فَخَنَقَهُ. وَبَعْضٌ سَقَطَ فِي الأَرضِ الصَّالِحَةِ، فَلَـمَّا نَبَتَ أَثْمَرَ مِئَةَ ضِعْفٍ. فَسَأَلَهُ التَّلامِيذُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الـمَثَلُ؟ فَقَالَ: لَكُمْ قَدْ أُعْطِيَ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ اللهِ. وَأَمَّا البَاقُونَ فَبِأَمْثَالٍ لِكَيْ لا يَنْظُرُوا وَهُمْ نَاظِرُونَ، وَلا يَفْهَمُوا وَهُمْ سَامِعُونَ. وَهَذَا هُوَ الـمَثَلُ: الزَّرْعُ هُوَ كَلِمَةُ اللهِ. وَالَّذِينَ عَلَى الطَّرِيقِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، ثُمَّ يَأْتِي إِبْلِيسُ وَيَنْزِعُ الكَلِمَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ لِئَلَّا يُؤْمِنُوا فَيَخْلُصُوا. وَالَّذِينَ عَلَى الصَّخْرِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الكَلِمَةَ وَيَقْبَلُونَهَا بِفَرَحٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَـهُمْ أَصْلٌ، وَإِنَّـمَا يُؤْمِنُونَ إِلَى حِينٍ، وَفِي وَقْتِ التَّجْرِبَةِ يَرْتَدُّونَ. وَالَّذِي سَقَطَ فِي الشَّوْكِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ثُمَّ يَذْهَبُونَ فَيَخْتَنِقُونَ بِهُمُومِ هَذِهِ الحَيَاةِ وَغِنَاهَا وَمَلَذَّاتِهَا فَلا يَأْتُونَ بِثَمَرٍ. وَأَمَّا الَّذِي سَقَطَ فِي الأَرْضِ الجَيِّدَةِ، فَهُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الكَلِمَةَ فَيَحْفَظُونَـهَا فِي قَلْبٍ جَيِّدٍ صَالِحٍ وَيُثْمِرُونَ بِالصَّبْرِ. وَلَـمَّا قَالَ هَذَا نَادَى: مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ.
حول الإنجيل
يتحدَّث القدِّيس يوحنَّا الذَّهبيّ الفم في تفسير هذا النَّص عن خروج الرَّبّ يسوع المسيح الإله والإنسان للاقتراب منّا نحن الَّذين أصبحنا خارج الملكوت. وبما أنَّنا لم نستطع بقوَّتنا أن ندخلَ إلى الملكوت بسبب ما ورثناه من أبوَيْنا الأوَّلَيْن اللَّذيْن عَصيا الله وذاقا مرارةَ الأنانيَّة، خرجَ هو بنفسه متجسّدًا وحَلّ بيننا، لكي يُصالِحَنا مع الله ولكي لا يُهلك الَّذين رفضوا البذار الإلهيّة وأنتجوا أشواكًا. يَخرجُ الرَّبُّ دومًا ليُلقي، ببذار حبِّه فينا لكي تُثمر في قلوبنا شجرة حبٍّ يَشتهي الله أن يقطفَ ثمارَها. "لأنَّه هكذا أحبّ اللهُ العالم حتّى بذلَ ابنَه الوحيد، لكي لا يَهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياةُ الأبديَّة" (يو 16:3).
السُّؤالُ الَّذي يتبادر إلى ذهننا: كيف نستطيع أن نكون أرضًا صالحةً وليس كالطَّريق أو الصَّخر أو الأرض بالأشواك؟
أوَّل شرط هو ألَّا نكون كالطَّريق الَّتي يدوسُها الجميع. أي لا نكون أرضًا مُباحةً لكلّ مارٍّ تنقضّ عليها طيور السَّماء وتنزع منها الكلمة. الإنسانُ المسيحيّ يَفحص أو يُنقّي كلّ الأفكار الغريبة على ضوء الكلمة الإلهيّة. أي يَسهر على الكلمة المزروعة في قلبه ويُدقِّق على أساس الحبّ الثَّمين المرميّ في أرضنا.
الشَّرطُ الثّاني هو ألَّا نكون كالصَّخر، أي نتعامل مع زرع الكلمة بسطحيَّةٍ ونمارس الصَّلوات في الكنيسة كعادةٍ وواجب. إنَّ هدف الحياة المسيحيَّة هو اللِّقاء بالرَّبِّ يسوع المسيح: في الإنجيل، في الصَّلاة، بالإحسان... يقول النّبي داوود: "جعلتُ الرَّبّ أمامي في كلِّ حينٍ" (مز 8: 16). ويؤكِّد الرَّسول بولس: "لستُ أنا أحيا بعد بل المسيح يَحيا فيَّ" (غل 20:2). مَن يحيا مع المسيح الحيّ إلى الأبد، لا يَجد أيّ صعوبة أو خوف في حياته. لأنّ "لا شيء يَفصلنا عن محبَّةِ الله في المسيح يسوع ربّنا" (رو 39:8).
الشَّرطُ الثَّالث أن لا نخلط الزَّرع بالأشواك أي أن لا نحبّ الله كثيرًا وبالمقابل نحبّ الدُّنيويّات كثيرًا. إنّ فلسفةَ هذا الدَّهر تقول لنا: "يمكننا أنْ نتماشى بين حبِّ الله والعالم". يؤكِّد لنا الرَّبّ بأنَّه لا يُمكن أن يَنشطرَ القلب إلى نصفَيْن: "يا بنيَّ أعطني قلبَك" (أم 26:23).
فلنُحِبّ الرَّبّ إذًا من كلّ قلبنا ونجعل أرضنا صالحةً لتُثمر إلى مئة ضعف.
الأمانة للآباء القدّيسين
كان آباء المجامع المسكونيّة، في تدوينهم لمقرّرات المجامع يستدعون سلطتَي الكتاب والآباء ليُعلنوا اتفاق ما أقرّوه مع هاتَين السُّلطتين. لذلك حرصت الجماعة الكنسيّة على حفظ التّراث الآبائيّ سالـمًـا والأمانة له والعودة إليه في كلّ ما تقرّه وتدعو مؤمنيها للالتزام به.
السّؤال: كيف نحفظ هذا التّراث ونستلم، بأمانةٍ وحيويّة، ما سلّمه لنا الآباء؟ هذا يتمّ بالاِطّلاع على هذا التّراث والتَّعرُّف إليه عبر قراءتنا المستمرّة له والعودة إليه في كلِّ ما نصبو إليه من معرفة إيمانيّة. وهكذا نخطو الخطوة الأولى على طريق اقتناء "الفكر الآبائيّ".
اقتناء هذا الفكر لا يتمّ عبر قراءة مؤلّفاتهم وحسب، مع أهميّة هذه القراءة، المهمّ هنا هو كيف نقرأ لا كم نقرأ. لذا يجب أن تتخطّى قراءتنا لهم العقل والفكر، دون أن تلغيهما، إلى مجمل حياتهم في المسيح. حياتهم هذه بُنِيتْ على المعرفة والفضيلة والمحبّة. حذف أحد هذه العناصر يعرّضنا للانحراف في تعرّفنا إلى فكرهم.
لكنّ العودة إلى مؤلّفات الآباء والاستشهاد بها يكتنفهما خطرٌ قادرٌ أن يحجب عنّا حيويّة الفكر الآبائيّ وإبداعيّته، يحوِّله إلى مجرّد استشهادات بجمل آبائيّة وتكرارها.
يقول جورج فلورفسكي في هذا الشّأن: "من الخطورة بمكانٍ أن نعزل بعض الجمل العقائديّة (وبالأحرى الأقوال ذات الطّابع الأخلاقيّ) من مجمل منظورها، إذ عبره وحده تأخذ هذه الجمل أو تلك معناها وقيمتها... فعبارة "ونحن نتّبع الآباء القدّيسين" (الَّتي وردتْ في مقدّمة قرارات المجامع) لا تعني مجرّد إدراج جمل لهم، بل تعني أن تقتني فكرهم وروحهم".
يُضيف فلوروفسكي: "ينبغي أن تكون عودتنا إلى التّراث الآبائيّ عودة خلّاقة. يجب أن يوجد ضمن هذه العودة عنصر نقد ذاتيّ إذ ينبغي لنا أن نقيّم من جديد المشاكل الَّتي واجهها آباؤنا وإجاباتهم عنها... وعبر هذا البحث ستظهر حيويّة الفكر الآبائيّ وأبديّته ولازمانيّته".
هذا لا يتمّ إن لم نتعرّف إلى أبوّتهم في عصرهم. معرفة عصرهم شرط أساس للتّعرّف إليهم وإلى فكرهم، وهذا يتطلّب التَّعرّف إلى ثقافة عصرهم وحضارته ومجمل مشاكله الكنسيّة والسياسيّة والاجتماعيّة وحتّى الاقتصاديّة وعدم الاكتفاء بسرد أحداث حياتهم، كما اعتدنا أن نقرأ بعض سِيَر القدّيسين. هذا ما سيقودنا إلى المحافظة على تراث آبائنا واسترجاع روحهم وفكرهم ويجنّبنا الوقوع في منزلق التَّمسُّك بالحرف.