نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 13 آذار 2022
العدد 11
أحد الأرثوذكسيّة
اللّحن 5- الإيوثينا 5
أعياد الأسبوع: *13: تذكار نقل عظام القدّيس نيكيفورس بطريرك القسطنطينيّة *14: البارّ بنادكتس، البارّ ألكسندروس *15: الشّهداء أغابيوس والسّبعة الّذين معه *16: الشّهيد سابينوس المصريّ، البارّ خريستوذولس *17: القدّيس ألكسيوس رجل الله *18: المديح الثّاني، كيرلُّس رئيس أساقفة أورشليم *19: الشّهداء خريسنثوس وداريًا ورفقتهما.
كلمة الرّاعي
أحد استقامة الرّأي
"لصورتك الطّاهرة نسجد أيُّها الصَّالِح مستَمِدِّين غفران الخطايا..."
استقامة الإيمان حجر الأساس لحياتنا. بدون إيمانٍ قَوِيمٍ وواضح وصريح بالتَّجسُّد الإلهيّ لا يوجد مسيحيّة. هذا هو أساس إيماننا. انطلاقًا من سرّ تجسّد ابن الله الوحيد من الرُّوح القُدُس ومِنْ مَريم العذراء نتعاطى سرّ الإنسان والوجود. لولا التّجسّد لما عرفنا الله ثالوثًا ومحبّة وشركة حبّ إلهيّ. شركتنا مع الله أو بالأحرى وَحدتنا معه تحقّقت في يسوع المسيح ابن الله الوحيد.
* * *
العقيدة الإيمانيّة لا تنفصل عن الحياة، أي ما أؤمن به يُحدّد طريق حياتي وهدفها. من هنا نقول إن كان ابن الله الوحيد لم يتجسّد ولم يتّخذ إنسانيّتي فأنا ما زلت عبدًا للخطيئة ومَحْكُومًا عليَّ بالموت الأبديّ أي لا يوجد قيامة ولا غلبة على الموت الرُّوحيّ والجسديّ، بالتالي مأساة البشريّة مستمرّة ولا حلّ لها...
إيماني بالتّجسّد وما استتبعه من أعمال أتمّها الرّبّ يسوع المسيح، مرورًا بصلبه وقيامته وصعوده وإرساله الرُّوح المعزّي ومجيئه الثّاني المَجيد، هذا الإيمان يقودني في المسيح بنعمة الرُّوح القدس إلى تحقيق إنسانيّتي أي تألّهي. معنى التّجسّد هو تألّه الإنسان في المسيح أي مشاركة الإنسان حياة الله في المسيح أي في جسده الكنيسة بنعمة الرُّوح الإلهيّ الواحد المنبثق من الآب والمستقرّ في الابن.
* * *
أيّها الأحبّاء، وضعت الكنيسة المقدسة هذا الأحد أوّلًا في مسيرتنا الصياميّة لكي تشدّدنا في الطريق وتحثّنا على الحفاظ على استقامة إيماننا فلا تضيع جهودنا ومجاهداتنا في سبيل القداسة، لأنّنا إن ابتعدنا عن الطّريق القويم نخســر خـــــلاصنا. لذلك تورد لنا الكنيسة في السنوذيكون الّذي يقرأ في هذا الأحد نماذج القديسين الّذين حافظوا على الإيمان فصاروا أيقونات تشعّ بمجد المسيح الإله، كما تورد لنا نماذج المهرطقين الّذين ابتعدوا عن الإيمان الحقّ وحاربوه فخســــروا خلاصهم.
الإله المتجسّد شاركنا إنسانيّتنا، فصام أربعين يومًا وأربعين ليلة ليكون لنا مثالًا إذ هو الطَّريق وهو الحقّ، وغلب تجارب إبليس الثّلاث الّتي يستعبد بها الإنسان: الحاجة أو شهوة الجسد (من طعام وشراب وملذّات ...)، الشكّ أي التّشكيك بمحبّة الله وعنايته وبالتالي وجوده وأخيرًا الكبرياء والسُّلطة.
الطَّريق القويم للغلبةعلى الشّرّير الّذي كشفه لنا الرّبّ يسوع المسيح هو أنّ على الإنسان أنْ يصوم ويُصَلّي ليتعلّم ويختبر بنعمة الله:
- أنّ الله هو حياته: من خلال عيشه لكلمة الله كالغذاء أو الخبز الجوهريّ الّذي لا يستطيع أن يحيا بدونه؛
- أنّ الإيمان بالله هو ثقة مُطْلَقَة به وتسليم الحياة كلّها له: وبالتّالي هو مَبنيّ على الطّاعة لله وعدم سلوك الطُّرُق الّتي يُدخِل الإنسان بها نفسه في تجارب مَنْبَعها كبرياؤه الخفيّ الّذي قد يظهر أحيانًا بمظهر الإيمان الكبير ممّا يؤدّي إلى دمار شامل للإنسان؛
- أنّ الغلبة الأخيرة على الشّرّير لا تصير بدون اقتناء التَّواضع وتمجيد الله: أي اعتراف الإنسان بأنّ الله هو وحده الكُلِّيّ القدرة وأنّ الالوهة والعبادة هي له فقط، وبالتّالي على الإنسان أن يتحرّر بطاعته لله من خدعة تأليه ذاته بما يملك من سلطةٍ وأموال ومَجْدٍ بشريّ.
طريقنا المُمَجَّد والقويم نحو تحقيق إنسانيّنا أي تألُّهنا، هو اتّباع يسوع والاتِّحاد به من خلال الأسرار المُقَدَّسة والصَّلاة والصَّوم والعطاء بفرح لمجد الرَّبّ. هكذا نصير أيقونات ليسوع المسيح أي حاملين روحه وسالكين في الشّهادة لحبّه ومحتمِّلين كلّ شيء لأجل طاعته لنكون أمناء له كأبناء..
ومن استطاع أن يقبل فليقبل...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الخامس)
لِنُسَبِّحْ نحنُ المُؤمنينَ ونسجُدْ للكلمة. المُساوي للآبِ والرُّوحِ في الأزَليّةِ وعدمِ الابتداء. المَوْلودِ مَنَ العذراء لِخلاصِنا. لأنّه سُرَّ أن يَعلُوَ بالجَسَدِ على الصَّليب. ويحتمِلَ المَوْت. ويُنهِضَ المَوْتى بقيامتِهِ المَجيدة.
طروباريّة أحد الأرثوذكسيّة (باللّحن الثّاني)
لصورتِكَ الطّاهرة نسجدُ أيّها الصّالح، طالبينَ غُفرانَ الخطايا أيُّها المسيحُ إلهنا. لأنّكَ سُررتَ أن ترتفعَ بالجسدِ على الصَّليبِ طَوعًا لتُنجِّيَ الَّذينَ خَلَقْتَ مِنْ عُبوديَّةِ العَدُوِّ. فلذلكِ نهتِفُ إليكَ بشُكرٍ: لقد ملأتَ الكُلَّ فَرَحًا يا مُخلِّصَنا، إذ أتيتَ لِتُخَلِّصَ العالم.
قنداق (باللَّحن الثّامن)
إنّي أنا عبدكِ يا والدة الإله، أكتب لكِ راياتِ الغلبة يا جُنديّةً مُحامية، وأقدّم لكِ الشُّكرَ كمُنقِذَةٍ من الشَّدائد، لكنْ بما أنّ لكِ العِزَّةَ الّتي لا تُحارَب، أعتِقيني من صنوف الشّدائد، حتّى أصرخ إليكِ إفرحي يا عروسًا لا عروسَ لها.
الرّسالة (عب 11: 24-26، 32-40)
مبارَكٌ أنتَ يا رَبُّ إلهَ آبائنا
لأنَكَ عَدْلٌ في كلِّ ما صنعتَ بِنا
يا إخوة، بالإيمان موسى لمّا كَبِرَ أبى أن يُدعى ابنًا لابنةِ فرِعَون، مُختارًا الشَّقاءَ مع شعبِ اللهِ على التَّمَتع الوقتيّ بالخطيئة، ومعتبرًا عارَ المسيح غنًى أعظمَ من كنوزِ مَصر، لأنّه نظر إلى الثَّواب. وماذا أقولُ أيضًا؟ إنّه يَضيقُ بِيَ الوقتُ إنْ أخبرتُ عن جِدعَونَ وباراقَ وشَمشونَ ويَفتاحَ وداودَ وصموئيل والأنبياء، الَّذين بالإيمانِ قَهَروا الممالكَ، وعمِلوا البِرَّ، ونالوا المواعدَ، وسَدُّوا أفواهَ الأسود، وأطفأوا حِدَّة النّارِ، ونجَوا من حَدِّ السَّيف، وتقوَّوا من ضُعفٍ، وصاروا أشِداّءَ في الحربِ، وكسروا معسكَراتِ الأجانب. وأخَذَتْ نِساءٌ أمواتَهُنَّ بالقيامة. وعُذِبَ آخرون بتوتير الأعضاء والضَّرب، ولم يقبلوا بالنَّجاة ليحصلوا على قيامةٍ أفضل. وآخرون ذاقوا الهُزْءَ والجَلْدَ والقيِوِدَ أيضًا والسِّجن. ورُجِموا ونُشِروا وامتُحِنوا، وماتوا بِحَدِّ السَّيف، وساحوا في جُلودِ غَنَمٍ ومَعزٍ، وهم مُعْوَزونَ مُضايَقونَ مَجهودون (ولم يَكُنِ العالم مستحقًّا لهم). وكانوا تائهين في البراري والجبالِ والمغاور وكهوف الأرض. فهؤلاء كُلُّهم مَشهودًا لهم بالإيمانِ لم ينالوا الموعد، لأنّ الله سبقَ فنظر لنا شيئًا أفضل، أن لا يَكمُلوا بدونِنا.
الإنجيل (يو 1: 44-52)
في ذلك الزّمان، أراد يسوعُ الخروجَ إلى الجليل، فوجد فيلبُّسَ فقال له: "اتبَعْني". وكان فيلِبُّسُ من بيتَ صيدا من مدينةِ أندراوسَ وبطرس. فوجد فيلِبُّسُ نثنائيلَ فقال له: "إنَّ الذي كتب عنه موسى في النّاموس والأنبياءِ قد وجدناه، وهو يسوعُ بنُ يوسُفَ الّذي من النّاصرة". فقال له نثنائيلُ: أَمِنَ النّاصرةِ يمكنُ أن يكونَ شيءٌ صالح! فقال له فيلِبُّسُ: "تعالَ وأنظر". فرأى يسوعُ نَثَنائيلَ مُقبلًا إليه، فقال عنه: "هُوَذا إسرائيليٌّ حقًّا لا غِشَّ فيه". فقال له نثنائيلُ: "مِنْ أين تعرفُني؟"، أجاب يسوع وقال له: "قبلَ أن يدعوَكَ فيلِبُّسُ وأنتَ تحت التّينةِ رأيتُك". أجاب نثنائيل وقال له: "يا معلِّمُ، أنتَ ابنُ اللهِ، أنتَ مَلِكُ إسرائيل". أجاب يسوعُ وقال له: "لأنّي قلتُ لكَ إنّي رأيتُكَ تحت التّينةِ آمنت. إنّك ستُعاينُ أعظمَ من هذا". وقال له: "الحقَّ الحقَّ أقول لكم، إنّكم من الآنَ تَرَونَ السَّماءَ مفتوحة، وملائكةَ اللهِ يصعدون وينـزلون على ابنِ البشر".
حول الإنجيل
كثيرةٌ هي، في هذه التّلاوة، المحطّات الَّتي تستحقّ منّا التَّوقُّف عندها والتَّأمُّل فيها. لكنْ، لضيق المَقام، نكتفي منها بالتّالي:
في محطّة أولى، يسوع يخرج إلى الجليل فيجد فيلبّس، فيقول له: "اتبعني". ليس في حَرفيّة النَّصّ ما يفيد، صراحةً، بأنّ فيلبّس استجاب لدعوة يسوع وتبعه؛ لكنّ قرينة النَّصّ تدلّ على ذلك، إذ نقرأ، في ما يلي، أنّ فيلبّس وجد نثنائيل وقال له: "قد وَجدنا الَّذي كتب عنه موسى في النَّاموس والأنبياء". هذه القرينة كافية لتُفيدنا بأنّ فيلبّس استجاب، فورًا، لدعوة يسوع وتبعه بلا تردّد. نذكر، هنا، ابنَي زَيدي يعقوب ويوحنّا اللَّذَيْن ما إن دعاهما يسوع حتّى تركا الشِّباك – مصدرَ رزقهما – وأباهما وتبعاه فورًا، وقبلهما، كذلك، سمعان (بطرس) وأندراوس أخاه (متّى 4/18¬20). أجل، إنّ أحبّة يسوع – ونحن منهم – يتبعونه بلا تردّد لثقتهم به على أنّه "هو الطَّريق والحقّ والحياة".
في محطّة ثانية، فيلبّس يجد نثنائيل فيقول له: "قد وجدنا الَّذي كتب عنه موسى...". إنّ مبادرة فيلبّس هذه لنثنائيل تكشف عن إطار النَّصّ وظرفه. يَومَها كانت أُمّة اليهود تترقّب مجيء ماسيّا – المسيحِ المُنتظَر. في هذا الظَّرف، بل في هذا الجوّ النَّفسيّ العامّ، يبادر فيلبّس نثنائيل بما بادَره به. فيلبّس وجد المسيح الَّذي طالما انتظره، ففرح به فَرَحَ مَن عَثَر على كنزٍ ثمين، بل أكثر. وإذ لم يحتمل كتمان البُشرى هبّ سريعًا لإذاعتها؛ وإذ هو في ذروة سعادته صادف نثنائيل فزفّه إيّاها. إنّ ردّة فعل فليبّس هذه تدلّ على أنّ الخبر السّارّ الَّذي المسيحُ موضوعه لا يُحتكَر، لكنّه يُنقَل. مَن منّا لا يفرح إذا ما أتاه من يحمل له خبرًا سارًّا يختصّ به، فيسارع إلى نشره؟ فإذا كان هذا شأنَنا مع مسـرّاتنا الدّنيويّة فكم، بالحَرِيّ، يكون شأننا مع المسـرّات الَّتي المسيح موضوعها؟ القدّيس سيرافيم ساروف هو، في هذا السّياق، خَير مثال؛ فقد قضـى حياته حاملًا الفرح الَّذي بالمسيح يسوع، بل وقارئًا إيّاه على وجوه الآخرين، فكان يبادر كلّ من يصادفه في طريقه بالتّحيّة: "يا فرحي، المسيح قام".
في محطّة ثالثة، يبدو نثنائيل غير مُصدِّق بُشرى فيلبّس، إذ يعلّق عليها بتساؤل فيه شكّ وتشكيك: "أَمِنَ النّاصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟"، فيجيبه فيلبّس: "تعالَ وانظر". فيلبّس لم يقل لنثنائيل: دَعني أشرح لك ما حصل، أو أُخبرك بما رأيت، بل قال له: "تعالَ وانظر". قاده إلى الرُّؤية. تركه يَرى ويُعاين ليكون إيمانه ثابتًا. إنّ في موقف فيلبّس هذا درسًا لنا نحن الَّذين نتعاطى قضيّة المسيح؛ إذ كثيرًا ما نُنفق الوقت في الشَّـــــــرح عن يسوع أو التَّخبير عنه، في حين أنّ النّاس بحاجة إلى رؤيته. يسوع ليس مجرّد حكاية تُروى؛ إنّه حقيقة متجسّدة يعاينها النّاس فيصدّقون ويثبتون في الحقّ. وكيف يعاينونها ما لم نَقُدهم نحن إلى الرُّؤية كما فعل فيلبّس مع نثنائيل؟ نحن كاشفو وجه المسيح إن كنّا شفّافين له، وإلّا فنحن حاجبوه.
هذه شهادتنا. وبهذه الشّهادة، إن كنّا صادقين، نستأهل أن نستقبل هذا الأحد بوصفه أحدَ الأرثوذكسيّة، أي أحدَ استقامة الرَّأي والتَّمجيد.
الاعتدال طريق الفضيلة
يقول القدّيس يوحنّا السُّلَّمي نقلًا عن سِفر الأمثال: "لا تمِل يُمنةً ولا يُسرةً" (أمثال 4 : 27)، ويتابع : "بل اُسلك الطّريق الملوكيّة" (عدد 20 : 17)، لأنّ الطَّريق الوسطى... تُلائم الكثيرين؛ يقول ذلك عن أسلوب الحياة الّتي يتبعها من أراد الجهاد الرّوحيّ. ويدعو كلّ من يبتغي أن يقدّم للمسيح جسدًا طاهرًا وقلبًا نقيًّا، فليحرص على التّمسُّك بالوداعة والاعتدال، لأنّ تعب المجاهد المؤمن يذهب سدىً بدون هاتين الفضيليتين.
فما هي فضيلة الاعتدال؟
أولاً الفضيلة، كما يعرّفها القدّيس باسيليوس الكبير، هي أن تبتعد عن الشَّرّ وتعمل الصَّلاح، "ليُعرِض عن الشَّرّ ويصنع الخير، ليطلب السَّلام ويُجِدّ في أثره" (1بطرس 3 : 11)؛ اكتساب الفضيلة يعتمد على المُجاهد نفسه وعلى سعيه لاكتسابها بنعمة الله، وبعد تعبٍ تصبح هذه "القنية الثّمينة" من ممتلكات المُجاهِد وتصبح طبيعته متجلّية بها وجزئًا منها. والفضيلة المكتسبة، بأتعاب الجسد وبتدريبات النَّفس، تُرافق الإنسان في حياته وبعد موته. والفضيلة لا تستقيم إلّا بالنُّسك، لأنّ النُّسك يلجم الشَّهوات وهي دائمًا تكون مقرونة بالصَّوم... ولكي تصير الفضيلة كاملة يجب أن يتمّ الاتّحاد بين الاهتمام والاستعداد البشريّ من جهة والمؤازرة الإلهيّة الّتي تأتي من المسيح يسوع بالإيمان من جهةٍ أخرى.
ثانيًا فضيلة الاعتدال، يعتبرها الآباء القدّيسون طريق الإيمان الملوكيّ، وهي لا تختصّ بالصَّوم والصَّلاة والعبادة فقط، إنّما هي طريق يمسّ حياة المؤمن من كلّ جوانبها. وهي تعني أيضًا عدم التَّطرُّف، فلا يقف متفرِّجًا في غير مبالاة تجاه أخيه الإنسان، إذا ما أخطأ، ولا يتسرّع وينفعل موبِّخًا إيّاه، إنّما يتّخذ موقفًا هو لبُنيان الآخَر دون أن يُعثره. وأيضًا لا يلجأ المؤمن إلى الكسل ويستسلم للخُمول من جهةٍ، ولا يلتزم بأعمالٍ كثيرةٍ تفوق طاقته فلا ينجح في تحقيقها من جهةٍ أخرى. فالاعتدال هو التّصرُّف بحكمةٍ وفطنةٍ، هي نعمة من الله. والقدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم لا يجعلها تكتمل إلّا بنعمة التّمييز. ويقول القدّيس أنطونيوس الكبير أنّه من دون فضيلة التّمييز ينحرف المؤمن عن طريق الحقّ والقداسة. فالمُغالاة في السَّهر يوازي التّراخي في نوم عميق وكلاهما يُهلكان النَّفس، وحينما يضعف المؤمن بسبب التّقشُّف الزّائد يقوده إلى الإهمال والتَّقصير في عمله.
لذلك أيّها الأحبّاء فلنتقدّم في الحياة الرُّوحيّة باعتدال سالكين الطَّريق الملوكيّ بروح التَّمييز.
لماذا صلاة منسّى؟
“صلاة منسّى” سِفرٌ من الكتاب المقدّس في نسخته السبعينيّة، تقرأها الكنيسة في ليتورجيّتها في عشيَات الصّوم الأربعينيّ المقدّس ضمن صلاة النّوم الكبرى.
منسّى هو الملك الَّذي تبوّأ حُكم مملكة يهوذا ما بين عامي 698 و642 ق.م. يُذكَر في 2ملوك 21: 1-18 و2أخبار 33: 1-19. اعتبره اليَهود أشرّ ملوك يهوذا لأنَّ اسمه ارتبط بأفظع خطيئة في تاريخ شعب الله. فهو لم يكتفِ بأن ارتدّ عن عبادة الله إلى عبادة الأوثان، بل نزع من الشَّعب الأحكام والفرائض الَّتي أعطاهم إيَّاها موسى، وأرغمهم على أن يتحوّلوا عن عبادة الله إلى عبادة الأوثان الَّتي تنهى عنها الشّريعة. ونتيجةً لخطيئته، طُرد مع شعبه من أرض الميعاد، وسِيقُوا مقيّدين بقيود الحديد ومذلولين من قبل الأشوريّين الَّذين كانوا يعاملون أسراهم كالحيوانات. ولكنّ أمرًا حصل في حياته حوّله من كافرٍ بديانة الآباء إلى مُصلِحٍ ومثبّتٍ لها. فلمّا تضايق منسّى في السَّبي، تواضَع ورفع صلاةً (تُذكر مرّتين: 2أخ33: 18 و19) بعد أن تاب إلى إله آبائه. ظهر منسّى المسبيّ وهو يصلّي في المنفى مثل رئيس كهنة يبتهل من أجل نفسه ومن أجل الشَّعب. وصارت صلاته بمثابة صلاة موسى لـمّا ابتهل إلى الله لئلا يُفني شعبه بعدما صنعوا العجل الذّهبيّ في البرّيّة وعبدوه (خر 32: 31-35). فاستجابه الله وأعاده من السّبي مع شعبه، فأكمل منسّى حُكم مُلكه الَّذي طال حتّى بلغ 55 سنة، وهي المدّة الأطول الَّتي حكمَها ملكٌ في مملكة الجنوب. أمّا لماذا استُجيبت صلاته، فلأنّ الله سبق أن قال: “إذا تواضَع شعبي الَّذي دُعي اسمي عليهم وصلّوا وطلبوا وجهي ورجعوا عن طرقهم الرَّديئة، فإنّي أسمع من السّماء وأغفر خطيئتهم وأبرئ أرضهم” (2أخبار 7: 4).
اقترن اسم منسّى في التّقليد، ليس فقط بأكثر أعمال العبادة الوثنيّة فداحةً وارتكابًا، بل أيضًا بأكثر حدث غفرانٍ إلهيّ شهرةً تجاه خاطئ تائب. فكلّ تاريخ شعب الله يُذكّرهم بخطيئة خيانتهم لله والزّنى وراء آلهة أخرى من صُنْع أيدي البشر. وبالتّالي، فإنّ تلاوة “صلاة منسّى” تُذكّرهم بعقاب هذه الخطيئة وبالملِك الَّذي اعتبروه أشرّ ملوك يهوذا، منسّى بن حزقيّا. ولكنّها تُذكّرهم أيضًا بالسَّبيل إلى إخراجهم من هذه الخطيئة، ألا وهو التّوبة والاتّضاع والصّلاة.
جدير بالذّكر أنّ كتاب الملوك يذكر اسم “حَفصِيبَه” أم منسّى بن حزقيا (2ملوك 21: 1). والعادة إجمالًا هي أن يُنسب الابن إلى أبيه وليس إلى أمّه. فلماذا ذُكر اسم امّه؟ يَردُ اسم “حَفصِيبَه”، ومعناه “مسّرتي بها”، مرّتين فقط في العهد القديم، في خبر منسّى، وفي (إشعيا 62: 1-5) حيث الحديث عن أورشليم الأخرويّة. فإذا دعتنا الكنيسة إلى قراءة “صلاة منسّى” في عشيّات الصّوم الموصِل إلى الفصح، فهذا لأنّها فهمت مفعول هذه الصّلاة على نفوس أبنائها الَّذين تسبيهم الخطيئة من حضن أمّهم السّماويّ، ولأنها فهمت أنّ الَّذي رفع هذه الصّلاة هو “منسّى” الَّذي أبوه “حزقيا” وأُمّه “حفصيبه”. فهمت الكنيسة أن منسّى يصير ابن “الرّبّ يقوّي” وابن “مسّرتي بها” أي أورشليم السّماويّة الأخيرة، وهو “الَّذي يُنسّي” شعبَ الله زمن ضعفهم وخيانتهم وبُعدهم عن الرّبّ.