Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 11 حزيران 2023

العدد 24

الأحد (1) بعد العنصرة

اللّحن 8- الإيوثينا 1

أعياد الأسبوع: *11: أحد جميع القدِّيسين، تذكار الرَّسولين برثلماوس أحد الـ 12، وبرنابا أحد الـ 70، إيقونة بواجب الإستئهال *12: بدء صوم الرّسل، البارَّين أنوفريوس المصريّ وبطرس الآثوسيّ *13: الشّهيدة أكيلينا *14: النّبيّ أليشع، القدِّيس ميثوديوس رئيس أساقفة القسطنطينيّة *15: النّبيّ عاموص، البارّ إيرونيمس *16: القدِّيس تيخن أسقف أماثوس *17: الشّهداء إيسفروس ورفقته، الشّهداء مانوئيل وصابل وإسمَعيل.

الكلمة الإفتتاحيّة

أحد جميع القدِّيسين

"هوذا نحنُ قد تركنا كلَّ شيءٍ وتبعناك، فماذا يكونُ لنا؟" نُعَيِّد اليوم، في الأحد الأوّل بعد العنصرة، لجميع القدِّيسين، المعروفين وغير المعروفين، الَّذين يسكبون في العالم النِّعْمَة والحقيقة لأنْ فيهم تحقَّقَ كلامُ الرَّبّ.

بعد أنْ عِشنا في الفترة الماضية مع مخلِّصنا الآلام، والصَّلب، والموت والدَّفْن والقيامة المجيدَة وَعَدَنا ربّنا يسوع المسيح قبل صعوده إلى السَّماوات بأنْ يُرسل لنا "موعد أبي"، وإذ أنَّ إلهنا إلهٌ صادقٌ، أرسلَ الرُّوح القدُّوس، المعزّي الصّالِح، يوم العنصرة، لتكون العنصرة عيد تأسيس الكنيسة، يوم ميلاد الكنيسة. عَطِيَّة الرَّبِّ هي فعَّالة حتّى يومنا هذا، وهذه العَطِيَّة هي الرُّوح القُدُس الَّذي يسكن في قلبنا ويفعل في حياتنا. وأكبر ثمار عَمل الرُّوح القُدُس، هي القَدَاسة فنُعَيِّد في كلّ أحدٍ بعد العنصرة لجميع القدِّيسين لتؤكِّد لنا الكنيسة أنَّ هذه هي نتيجة حلول الرُّوح القدس، ولولا القدَاسة والقدِّيسين لما كان هناك أيُّ معنى لكلِّ المراحل الخلاصيَّة الَّتي مَرَّ بها يسوع المسيح ولا للعنصرة، إذ أنّها كلَّها كانت لتحريرنا من الخطيئة ولتقديسنا.

أيُّها الأحبَّاء، دور الكنيسة أن تصنع قدِّيسين، وليس أن تكون مؤسّسة اجتماعيّة أو مادّيَّة، وإن كان هذا مهمٌّ جدًّا، إلَّا أنَّ تخليص النُّفوس هو الأهم. وتؤكِّد خدمة القدَّاس الإلهيّ ذلك، إذْ إنَّ الكاهن يصرخُ بصوتٍ عظيمٍ قبل تهيئة المناولة في كلِّ خدمة قدَّاسٍ إلهيّ "القُدُسات للقدِّيسين". أي أنَّ جسد المسيح ودمه الـمُقَدَّسَيْن هي لكلّ القدِّيسين. نعم، نحن مليئين بالخطايا، لسنا قدِّيسين، إذ إنَّ شهواتِنا وأمراضَنا الرُّوحيّة كثيرةً، ومحبَّتنا فاترة إلَّا أنَّنا نتقدَّم للمُناولة، مع أنَّ الكاهن أعلن أنّها للقدِّيسين! ذلك، أيُّها الأحبّاء، لأنَّنا نترجّى، أي نؤمن ونُصَلِّي، أوّلًا، "أنْ تكون لغفران الخطايا وللحياة الأبديَّة". ثانيًا، لأنَّ الكنيسة ومِنْ خلال إعلان الكاهن، تدعونا لأنْ نَكون قدِّيسين.

حياة القدِّيسين وجهادهم وشهادتهم للحقيقة هي برهان على حضور الرُّوح القُدُس على الخليقة وعمله في الكنيسة، وبذلك يكون القدِّيسون مرشدون لنا ونتمثَّل بهم في طريق الخلاص. عصرنا اليوم، يُشَدِّدُ على التَّفَوُّق على الآخَر وليس على الذَّات، يُنَمِّي التَّنافُس بين النَّاس، إلَّا أنَّ ربَّنا يُريدُنا أنْ نُنافِس ذواتنا، أنْ نقاتل شهواتنا، أنْ نتغلَّب على الأنا، أنْ ننتَصِر على الخطيئة، فَنُماثِل القدِّيسين بحياتهم وجهاداتهم إذْ أنَّها كلَّها تمحوَرَتْ حَوْلَ يسوع، فنحظى بالجلوس عن الميامن.

ختامًا، كيف نكون قدِّيسين؟

نتقدَّس عندما نحافظ على صورة الله ومثالِه الَّتي خُلقنا عليها، القداسة ليست محصورة بالرَّاهب والكاهن والخادم في الكنيسة، القداسة هي لكلِّ مَنْ يحبُّ الله أكثر من أيٍّ آخَر، وكما نقرأ في إنجيل اليوم "مَن أحبَّ أَبًا أو أُمًّا أكثرَ مِنِّي فلا يستحقُّني، ومَن أحبّ ابنًا أو بنتًا أكثر مِنِّي فلا يستحقُّني. ومَن لا يأخذُ صليبَهُ ويتبعُني فلا يستحقُّني". وهذا ما طبقَّهُ القدِّيسون، إذ أنّهم أحبُّوا المسيح الإله أوّلًا ومِنْ ثَمَّ أحبُّوا المسيحَ في كُلِّ إنسانٍ، فكانت محبَّتهم غير محصورةٍ بشخصٍ فَرْدٍ، بل لكلِّ أخٍ وأختٍ خُلقَ على صورة الله، وهذا ما جعلهم يعيشون المسيح كلَّ يومٍ وكلَّ لحظة، وهذه هي دعوتنا كما يُعبِّر عنها المغبوط أغسطينوس: "أحْبِبْ وافْعَلْ ما تَشاء".

أَضْرَعُ إلى الرَّبِّ الإله أنْ نتَقَدَّس جميعًا بِنِعْمَةِ الرُّوح لنُؤهَّل لملكوته.

طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّامن)

انْحَدَرْتَ مِنَ العُلوِّ أَيُّها المُتحنِّن. وقَبِلتَ الدَّفنَ ذا الثّلاثةِ الأيّام. لكي تُعتقَنا مِنَ الآلام، فيا حياتَنا وقيامتَنا يا رَبُّ المجدُ لك.

طروباريّة أحد جميع القدِّيسين (باللّحن الرّابع)

أيّها المسيح الإله، إنَّ كنيستَكَ إذ قد تزيَّنت بدماءِ شهدائك الَّذين في كلِّ العالم، كأنَّها بِبِرفيرةٍ وأرجوان، فهي بهم تهتف إليك صارخةً: أرْسِل رأفتَكَ لشَعْبِكَ، وامنَح السَّلامَ لكنيستكَ، ولنُفوسِنا الرَّحمَةَ العُظمى.

قنداق أحد جميع القدّيسين (باللَّحن الثّامن)

أيُّها الرَّبُّ البارِئُ كلَّ الخَليقةِ ومُبدِعُها، لكَ تقرِّبُ المَسكونَةُ كَبَواكيرِ الطَّبيعة الشُّهَداءَ اللّابسِي اللَّاهوت. فبِتَوسُّلاتِهم احفظ كنيسَتَكَ بسلامةٍ تامَّة، لأجلِ والدةِ الإله، أيُّها الجزيل الرَّحمة.

الرّسالة (عب 11: 33-40، 12: 1-2)

عجيبٌ هو الله في قدّيسيه

في المَجامع بارِكوا الله

 يا إخوةُ، إنَّ القدِّيسينَ أجمَعين بالإيمانِ قهَروا الممالِكَ وعمِلُوا البِرَّ ونالُوا المواعِدَ وسدُّوا أفواهَ الأُسود وأطفأُوا حِدَّةَ النّارِ ونَجَوا مِنْ حَدِّ السَّيف وتَقوَّوا من ضُعفٍ، وصاروا أشِدَّاءَ في الحرب وكسَروا مُعسكراتِ الأجانب. وأخَذَت نساءٌ أمواتَهنَّ بالقِيامة. وعُذِّبَ آخرونَ بتوتيرِ الأعضاءِ والضَّربِ، ولم يقبَلوا بالنَّجاةِ ليحْصَلوا على قيامةٍ أفضل. وآخرونَ ذاقوا الهُزءَ والجَلْدَ والقُيودَ أيضًا والسِّجن. ورُجِموا ونُشِروا وامتُحِنوا وماتوا بِحَدِّ السَّيف. وسَاحوا في جلودِ غَنَمٍ ومَعَزٍ وهُمْ مُعوَزون مُضايقَون مجَهودون، ولم يكنِ العالمُ مُسْتَحِقًّا لهم. فكانوا تائِهينَ في البراري والجبالِ والمَغاوِر وكهوفِ الأرض. فهؤلاء كلُّهم، مَشْهودًا لهم بالإيمانِ، لم يَنالوا الموعِد. لأنَّ الله سبَقَ فنظَرَ لنا شيئًا أفضَل أنْ لا يَكْمُلُوا بدونِنا. فنحن أيضًا، إذ يُحدِقُ بنا مثلُ هذه السَّحابَةِ من الشُّهودِ، فلْنُلْقِ عنَّا كلَّ ثِقلٍ والخطيئةَ المحيطةَ بسهولةٍ بنا. ولْنسابِقْ بالصَّبرِ في الجِهاد الَّذي أمامَنا، ناظِرِين إلى رئيسِ الإيمانِ ومكمِّلهِ يسوع.

الإنجيل(متى 10: 32-33 و37 و19: 27-30)

قال الرَّبُّ لتلاميذِه: كلُّ مَنْ يعترفُ بي قدَّامَ النَّاسِ أعترفُ أنا بهِ قدَّامَ أبي الَّذي في السَّماوات. ومَن ينكرُني قدَّام النّاس أنكرُهُ أنا قدَّامَ أبي الَّذي في السّماوات. مَن أحبَّ أبًا أو أمًّا أكثرَ منّي فلا يستحقُّني. ومن أحبّ ابنًا أو بنتًا أكثر منّي فلا يستحقُّني. ومَن لا يأخذُ  صليبهُ ويتبعُني فلا يستحقُّني. فأجابَ بطرسُ وقال لهُ: هوذا نحنُ قد تركنا كلَّ شيءٍ وتبعناك فماذا يكونُ لنا؟ فقال لهم يسوع: ”الحقَّ أقولُ لكم، إنَّكم أنتمُ الَّذين تبعتموني في جيل التّجديد، متى جلس ابنُ البشر على كرسيّ مجدِهِ تجلِسون أنتم أيضًا على اثَنْي عَشَرَ كرسيًّا تَدينونَ أسباطَ إسرائيلَ الإثني عَشَرَ. وكلّ من ترك بيوتًا أو إخوةً أو أخواتٍ أو أبًا أو أمًّا أو امرأةً أو أولادًا أو حقولًا من أجل اسمي يأخُذُ مِئَة ضِعْفٍ ويرثُ الحياة الأبديّة. وكثيرون أوَّلون يكونون آخِرين، وآخِرون يكونون أوَّلين“.

حول الإنجيل

إنّ محور التّلاوة الإنجيليّة الَّتي سمعنا –وهو ما سنتوقّف عنده في هذه العُجالة– هو قول السَّيِّد لتلاميذه: "مَن أَحبّ أبًا أو أُمًّا أكثر منّي فلا يستحقّني، ومن أَحبَّ ابنًا أو... إلخ". للوهلة الأولى يبدو كلام السَّيِّد هذا صادِمًا، إذ رُبَّ قائل: هل يُعقَل أن يكون السَّيِّد أنانيًّا إلى درجة أنّه لا يرضى أن نقدّم على حبّه حبَّ آخَر؟ طبعًا لا، إذ حاشا ليسوع أن يكون على هذه الصِّفَة وهو الَّذي، حسب تَوصيف بولس له، "أخلى ذاته متّخذًا صورة العبد، وصار على مثال البشر" (فيليبي 7:2)، وسيكابد الآلام من أجلنا حتّى الموتِ موتِ الصّليب. فما معنى كلامه هذا إذًا؟ معناه أنّ حبّنا البشريّ، مهما سما، لا يكون صحيحًا ما لم يكن فيضًا من حبّنا لله أوّلًا وآخرًا. إنّ محبّتنا ليسوع المسيح هي البدء والمنتهى، ومنها تَفيض، تلقائيًّا، محبّتُنا بعضِنا لبعض، للأب والأمّ، للأخ والأخت... إلخ. إنّ من لا يعرف أن يحبّ الله حبًّا كلّيًّا لا يعرف أن يحبّ أخاه الإنسان. وليس صحيحًا، تاليًا، قولك إنّي أحبّ الله كثيرًا، لكنّي أحتفظ من محبّتي هذه بحصّة للآخرين، إذ لا يُعقَل أن أُسقطهم من حسابي. هذا قول غير مقبول إنجيليًّا، لأنّه يعني أنّك أَدخلتَ الله في معادلة المحاصصة مع الآخَرين، في حين أنّ الله هو فوق هذه المعادلة وفوق المعادلات البشريّة القائمة على هذا الأساس. ليس مقبولًا، إيمانيًّا، أن أتعامل مع الله على قاعدة المحاصصة، أي على قاعدة "ساعة إلَك وساعة لربّك" لأنّي بهذا أكون كمن يقول –وَعى ذلك أم لم يَعِهِ – إنّ الله ليس كلّ شيء في حياتي، ولم يبلغ، بعدُ، إلى الإيمان اليقينيّ بأنّه يستمدّ موجوديّته من الله وحدَه وأنّه "به يحيا ويتحرّك ويُوجَد" (أعمال 28:17).

على أنّ هذا الحبَّ المطلق والكلّيّ ليسوع يقتضي، بالمقابل، التَّرك المطلق والكلّيّ. هذه هي المعادلة الَّتي عليها تقوم تلاوتنا الإنجيليّة. إنّها معادلة التّرك الكامل والتَّخَلّي الكامل، وبمقتضى هذه المعادلة عَمِلَ التّلاميذ الأوّلون –وكانوا صيّادين – إذ، لمّا سمعوا السَّيِّد يقول لسمعان "لا تَخف، ستكون، بعد اليوم، صيّادًا للبشر"، "رجعوا بالسّفينتَين إلى البَرّ وتَركوا كلّ شيء وتبعوه..." (لوقا 5 :10 و11).

لماذا التّرك الكلّيّ؟ لأنّ أيّ تَعَلّق، مِن قِبَلنا، بغير الله يعني أنّنا جعلنا الله مجرّد إضافة إلى حياتنا ولم نبلغ، بعد، إلى اليَقين بأنّه هو حياتنا. ليس الله مُضافًا إلى حياتنا، ولا يضاف إليه أحدٌ آخَر أو شيء آخَر. هو حياتنا بملئها، منه نستمدّها ولا نستمدّها ممّا حِيز لنا من مَتاع هذه الدّنيا، ولا ممَّن كان لنا أبًا أو أمًّا أو أخًا أو قريبًا ... إلخ. إذا سلكنا بمقتضى هذا الإيمان اليَقينيّ فإنّنا نربح ذواتنا للسَّيِّد ونربح الآخرين، ونؤسِّس لنا، مُسبقًا، في ملكوته منازل، إذ نكون قد جعلنا من حياتنا الفانية هنا معراجًا إلى الآتية الباقية.

القيامة في حياتنا (جزء 2)

امتداد الكنيسة اليوم بِبُعْدها السَّماوِيّ لا وُجود له من دون التَّجَسُّد والصَّلْب والقيامة والصُّعود والعنصرة، لأنَّ تدبير الخلاص بدأ بالتَّجَسُّد ورفع حاجز الموت بالصَّليب، وقهر الفساد بالقيامة وبالتَّالي كمال قامة الإنسان الجديد، آدم الثَّاني "الرَّبُّ من السَّماء" (1 كو 15: 47)؛ لأنّ السَّماويّ يسوع المسيح سوف يجعلنا سماويِّين مثله (1 يو 3: 2). لذلك عندما قال الرَّبُّ يسوع: "ها أنا معكم كلَّ الأيّام وإلى انقضاء الدَّهْر" (مت 28 :20)، فقد أعلن ملكه كرأس الجسد: الكنيسة، ذلك الجسد الَّذي ينمو كلّ عضوٍ فيه مثل نموّ يسوع المسيح مُخَلِّصنا نفسه (لو 2: 51) نموًّا مِنَ الله. فتكون الكنيسة هي ثمرة القيامة والصُّعود والعنصرة. فيها تُعاش هذه الأحداث الأخيرة من حياة المسيح.

الصُّعود

لا يوجد فصل بين القيامة والصُّعود فالرَّبّ يسوع في القيامة غلب الموت وفي الصُّعود جلس عن يَمين الله. هذا الصُّعود يُشَكِّلُ الحدث المِفْصَل بين حضور المسيح المنظور وبداية حضوره الغير منظور. لم يعد المسيح بعد الصُّعود حاضرًا بين الرُّسُل ولكن في داخلهم. فكما حمل الله بشخصِ المسيح بالجسد، هكذا أيضًا صار الإنسانُ حامِلًا للرُّوحِ القُدُس، حسب قول القِدِّيس أثناسيوس الكبير؛ وبالتَّالي الصُّعود والنُّزول لا يُشيران إلى واقعٍ جغرافيّ يتحرَّك فيه المسيح بل إلى واقعٍ روحيّ، هذا من جهة. ومن جهةٍ ثانيةٍ لا يتعلَّق بطبيعة المسيح الإلهيّة بل البشريَّة. لذلك صعود يسوع إلى السَّماء لم يكن فقط ليُصعدنا نحن فيه (الإنسانيّة الجديدة الكاملة)، بل أيضًا لِيَجمعنا معه وبه وفيه لِنَصيرَ "واحِدًا معه" ولكي - مِنَ الرَّأس أي المسيح- تنحدر كلّ هبات الآب لنا في يسوع المسيح لمجد الله الآب ونجد "ميراثًا مع جميع القدِّيسين". مِنْ هنا يُعْتَبَر الصُّعود على أنَّه واحدٌ من ظهورات المسيح بعد القيامة ولكنَّه في الوقت ذاته هو الظُّهور الأخير الَّذي فيه يُودِع تلاميذه ليربطهم به يوم العنصرة مِنْ خلال إعطائهم الرُّوح القُدُس؛ ألم يَقُلْ الرَّبُّ يسوع لهم "خَيْرٌ لكم أنْ أنطَلِق لأنَّه إنْ لم أنطلق لا يأتيكم المعزِّي، ولكن إنْ ذهبتُ أرسِلُهُ إليكم" (يو 7: 16).

وتأتي العنصرة بعد صعود الرَّبّ لتكشِفَ لنا أعماق التَّدبير؛ إذ ينقل (الـمُعزّي) حياة الابن: الميلاد والمعموديّة والصِّراع في البرّيّة والصَّلب والقيامة إلينا نحن، مُعلِنًا التصاق الرَّبّ بنا. وصارت الأبعاد الجديدة ليست الطُّول والعرض والارتفاع، بل الطُّول هو الأبد، والعرض الشَّرِكَة في حياة الله والارتفاع هو ما فَوْق ما هو تُرابيّ، أي ما يَعلُو على اللَّحم والدَّم، أي الفهم الَّذي لا يتكوَّن من خلال الخبرة الحِسّيَّة الَّتي لا تعرف أنَّ للحياة مَصْدَرًا آخَر غير أرْضِيّ، هو الله الآب.

العنصرة

في العنصرة إذن، أتت لغةُ الرُّوح لتجعل كلَّ لغَةٍ تُعلن البشارة وتكرز بها هي لُغَةٍ مُقَدَّسة فحلول الرُّوح القُدُس يوم العنصرة يدخل لمن نزلتْ عليهم الرُّوح ليُصْبِحُوا في عَهد علاقة جديدة مع الله، فنُزُول الرُّوح على شكلِ ألسنَةٍ ناريَّةٍ واستقرارها على كلِّ واحِدٍ منهم فهو يُشيِرُ إلى حُضُور الله كَمِثْلِ ما حَدَثَ على جبل سيناء عندما نزلتْ النّار على الجبل. يقول القدِّيس غريغوريوس اللَّاهوتيّ: "ليس الرُّوح القُدُس حاضر بالعنصرة بفعله كما كان مسبقًا مع الأنبياء والتَّلاميذ قبل نزول الرُّوح القُدُس عليهم بل هو حاضرٌ الآن جوهريًّا مُقيمًا وساكِنًا. فكما كانت أَلْسِنَةُ العنصرة أَلسِنَةً مِنْ نار هكذا يجب أن يكون عِنْدَنا هذه النَّار الَّتي هي رمزُ المحبَّة فتصبح هذه المحبَّة شعلةٌ، هي أعظم نعمةٍ يصبغها الله علينا يوم العنصرة ألم يَقُلْ الرَّبُّ يسوع: "أنا أتيتُ لِأُلْقِي نارًا على الأرض" (لو 12: 49)، فالحياة إنْ لَم تَكُن نارًا لا قيمة لها. لذا علينا أن نُشعل النَّار في كنيسة المسيح لتتوقَّد وتتوَهَّج. مؤكِّدَةً أنَّ المحبَّة تُكتَشَف بِفِعْلِ قوَّةِ نارها لتصبح: جوهر العنصرة وروحها. أفلا نُلَبِّي نداء الرَّبّ يسوع: "اذهبوا وتَلْمِذُوا كلّ الأمم… وها أنا معكم كلَّ الأيّام إلى انقضاء الدَّهر" (مت 28: 19- 20).

أنقر هنا لتحميل الملفّ