Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد ١١ آذار ۲٠١٨

العدد ١٠

أحد السّجود للصّليب  

اللّحن ٧- الإيوثينا ٧

كلمة الرّاعي

الصّليب فرح كلّ المسكونة

أداة للموت هو منذ الأزمنة القديمة. صار رمزًا للحياة الفيّاضة بالحبّ الإلهيّ لمّا سُمِّر عليه ابن الله المتجسِّد مَن صار لنا بموته حياة وبآلامه إبادة للآلام.

تضع الكنيسة الصّليب، في هذا اليوم، بين الورود والرياحين لأنّه منه يفيض عبق القداسة بدم الَّذي افتدانا عليه. الصَّليب هو في وسط حياتنا، وحياتنا في وسط الأشواك، لكن عندما يكون المسيح على هذا الصّليب تتحوَّل الأشواك إلى خضرة وورود وجمال لأنّ "الله يُشـرق من الظّلمة نور".

أحد السّجود للصليب المكرَّم هو ثالث أحد من آحاد الصّوم، رتَّبَتْهُ الكنيسة المقدَّسَة لكي تشدِّدنا في جهادنا ناقلة إيّانا إلى ناجمة الصَّليب بالمسيح يسوع أي القيامة والحياة الأبديّة، فتمدُّنا هكذا نحو غاية جهادنا، صليبنا، ألا وهي الغلبة على الموت والشِّرِّير واقتناء ملكوت السّماوات...

*           *           *

جهاد الصّوم والصّلاة هو الصَّليب الَّذي "به صُلِب العالم لي وأنا للعالم" (غلاطية ٦: ١٤). الرَّبُّ يسوع هو من علّمنا، أوَّلًا، هذا الأمر في حياته وبذلِه نفسه لأجلنا حاملًا عار خطايانا وهو البريء من العيب، لأنَّ "أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا (...) وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا  (...)  عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْمًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ (...) وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا (...) سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ" (إشعياء ٥٣: ٤، ٧، ٩، ١١ و١٢ ).

كلمة الرَّبّ يسوع لم تكن مرَّة سوى حياته، سوى شخصه منقولًا إلينا بالروح القدس. فمن يقتبل كلمة يسوع في قلبه ويتركها تنقّيه يتحوَّل هو إلى هذه الكلمة فيصير الكلمة (Ο Λόγος) فيها حاضرًا وفاعلًا. بكلمات أخرى، بطاعة الوصيّة في المحبّة الإلهيّة تصير شجرة معرفة الخير والشّرّ الصَّليب الَّذي به ينتقل الإنسان، بهذا الجهاد الصيامي الرّوحي الصّلاتيّ في صَلْبِ المعرفة الساقطة بالتواضع، إلى ترك كلّ ما في العالم من غذاء لطلب ثمرة شجرة الحياة فقط أي "الكلمة الإلهيّ".

آدم الأوّل سقط، بطُعم لذّة الطّعام، في خدعة وهم التألّه بعود معرفة الخير والشرّ، دون الله، من مشـروع ربّه له ولذريّته فأدخَلَ بالمعرفة، التي خارج المحبّة والتّسليم لله، الموت والألم والخراب للخليقة بأسرها. آدم الثّاني، الرّبّ يسوع المسيح، حمل بالطاعة في الحب للآب بجسده من خلال الإمساك ثمرة سقوط آدم مع كلّ نتائجها ليُدخِل الإنسان في نور المعرفة الإلهيّة بواسطة خبرة إماتته للخطيئة على الصّليب وانتصاره عليها مع ما نجم عنها من نتائج على البشريّة والخليقة. بعبارات أخرى "بالصّليب قد أتى الفرح إلى كلّ العالم" لأنَّ الرَّبَّ "بالموت للموت أباد وحطم"، أي أنّ الصَّليب صار مطرح تحقيق وتجلِّي الغلبة الإلهيّة-البشرية في المسيح يسوع الإله-الإنسان لكلّ الخليقة مع ذرية آدم الأوّل على سقوطها، وإعادة خلق العالم بدم الحمل الَّذبيح منذ إنشاء العالم.

*           *           *

أيّها الأحبّاء، ”فَلْنَتَمَسَّكْ بالاعترافِ. لأنْ ليسَ لنا رئيسُ كهنةٍ غيرُ قادرٍ أن يَرثيَ لأوهانِنا، بل مُجَرَّبٌ في كلِّ شيءٍ مِثلَنا ما خَلا الخطيئة" (عبرانيين ٤: ١٤—١٥). الرّبّ شاركنا ضعفنا ليمنحنا قوّته. لا بدّ لنا من العبور بضعف الصَّليب أي بأن نقبل الإقرار بعدم قدرتنا على احتمال الصّليب وحدنا دون نعمة الله، لكيما بقوّة صليب المسيح ننتقل بألم الموت عن عتاقتنا إلى فرح الحياة الجديدة بالحبّ الإلهيّ الَّذي يُشرق حياتنا بنور المعرفة الإلهيّة في رحاب بهجة لُقيا المسيح في قلوبنا وفي وجوه الآخَرين الَّذين ما زالوا قابعين في "بقعة ظلال الموت" جاهلين نورانيّة صورة الله فيهم.

نتشدَّد اليوم ونفرح لأنّنا نعلم يقينًا أنّ زمن سيادة الظّلمة قد باد دون رجعة بصليب المسيح، لأنّ الخطيئة وتاليًا الموت قد غلبا في يسوع وفي من هو متَّحد بيسوع. أمّا من يرفض خلاص الله الممدود في العالم من خلال جسد المسيح، أي الكنيسة، بعد يلمس حبّ الله وحنانه يعود إلى سقطة آدم الأوّل وسيبقى في دوامة هذا السُّقوط في ألم الصّليب بعود معرفة الخير والشر...

فلنصلب عقولنا بالإيمان والاتّكال على الله ليزهر لنا عود الصّليب حياة وغلبة أبديّتان للحبّ والفرح والسّلام...

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

 

طروباريّة القيامة (باللّحن السّابع)

حطمتَ بصليبِكَ الموت. وفتحتَ للِّصِّ الفردَوس. وحوَّلتَ نَوحَ حامِلاتِ الطيب. وأمرتَ رُسلَكَ أن يَكرزِوا. بأنَّكَ قد قُمتَ أَيُّها المسيحُ الإله. مانحاً العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.

طروباريّة أحد الصّليب (باللّحن الأوّل)

خلّص يا ربّ شعبَكَ وباركْ ميراثك، وامنحْ عبيدَكَ المؤمنين الغلبة على الشرير واحفظْ بقوّةِ صليبِك، جميعَ الْمُختصّين بك.

القنداق (باللّحن الثّامن)

إنّي أنا عبدُكِ يا والدةَ الإله، أكتبُ لكِ راياتِ الغَلَبة يا جُنديَّةً محامية، وأُقَدِّمُ لكِ الشُّكرَ كمُنقِذَةٍ مِنَ الشَّدائد. لكنْ، بما أنَّ لكِ العِزَّةَ التي لا تُحَارَب، أَعْتِقِينِي من صُنوفِ الشَّدائد، حتّى أَصْرُخَ إليكِ: اِفْرَحِي يا عروسًا لا عروسَ لها.

الرّسالة (عبرانيّين 4: 14-16، 5: 1-6)

خلِّصْ يا رَبُّ شَعْبَك وبارِكْ ميراثَك

إليكَ يا ربُّ أَصْرُخُ إلهي

 يا إخوةُ، إذْ لنا رئيسُ كَهَنةٍ عظيمٌ قد اجتازَ السَّماواتِ، يسوعُ ابنُ اللهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بالاعتِرافِ. لأنَّ ليسَ لنا رئيسُ كهنةٍ غيرُ قادرٍ أن يَرثِيَ لأوهانِنَا، بل مُجَرَّبٌ في كلِّ شيءٍ مِثْلَنَا ما خَلا الخطيئة. فَلْنُقْبِلْ إذًا بثقةٍ إلى عرشِ النِّعْمَةِ لِنَنَالَ رحمةً ونَجِدَ ثِقَةً للإغاثَةِ في أوانِهَا. فإنَّ كلَّ رئيسِ كهنةٍ مُتَّخَذٍ من النَّاسِ يُقَامُ لأجلِ النَّاسِ في ما هو لله ليُقرَّبَ تَقَادِمَ وذبائِحَ عن الخطايا، في إمكانِهِ أنْ يُشفِقَ على الَّذينَ يجهَلُونَ ويَضِلُّونَ لِكونِهِ هو أيضًا مُتَلَبِّسًا بالضَّعْفِ. ولهذا يجبُ عليهِ أنْ يُقَرِّبَ عن الخَطَايا لأجلِ نفسِهِ كما يُقَرِّبُ لأجلِ الشَّعْب. وليس أَحَدٌ يَأْخذُ لِنَفْسِهِ الكرامةَ بَلْ من دَعَاهُ اللهُ كما دَعَا هارون. كذلكَ المسيحُ لم يُمَجِّدْ نَفْسَهُ لِيَصِيرَ رئيسَ كهنةٍ بل الَّذي قالَ لهُ: "أنْتَ ابني وأنا اليومَ وَلَدْتُكَ". كما يقولُ في مَوضِعٍ آخرَ: أنْتَ كاهنٌ إلى الأبَدِ على رُتبَةِ ملكيصَادَق.

الإنجيل (مرقس 8: 34-38، 9: 1) 

قالَ الرَبُّ: مَنْ أرادَ أنْ يَتبَعَنِي فَلْيَكْفُرْ بنَفْسِهِ ويَحمِلْ صَليبَه ويَتبَعْني. لأنَّ مَنْ أرادَ أنْ يُخَلِّصَ نفسَه يُهْلِكُها، ومَنْ أهلَكَ نفسَهُ مِن أجلي وَمِنْ أجْلِ الإنجيل يُخَلِّصُها. فإنَّهُ ماذا يَنْتَفِعُ الإنسانُ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَهُ وخَسِرَ نفسَهُ؟ أمْ ماذا يُعطي الإنسانُ فِداءً عن نَفْسِهِ؟ لأنَّ مَن يَسْتَحِي بي وبكلامي في هذا الجيلِ الفاسِقِ الخاطِئِ يَسْتَحِي بهِ ابْنُ البَشَرِ مَتَى أَتَى في مَجْدِ أبيهِ مَع الملائكةِ القِدِّيسين. وقالَ لهُمْ: الحقَّ أقولُ لكم إنَّ قَوْمًا مِنَ القائِمِين هَهُنَا لا يَذوقونَ الموْتَ حتَّى يَرَوْا مَلكوتَ اللهِ قد أتى بقُوَّةٍ.

حول الإنجيل

أشار الرب يسوع في هذا النص الإنجيلي على أنّ حمل الصيلب معه يتطلب إنكار الذات... وإنكار الذات إنما يعني أن لا يتعاطف الإنسان مع ذاته، فلا يرتبك لمستقبله ولا يخشى المرض أو الضيق أو الموت، إنما يكون جاحدًا لنفسه عنيفًا مع الأنا، غير مترف في ملذات جسده. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم :”لم يقل "يعتزل الإنسان ذاته" بل ما هو أكثر "ينكر نفسه"، كما لو كان ليس هناك ما يربطه بذاته، فإنه يواجه الخطر ويتطلع إليه كما لو أن الذي يواجهه آخر غيره، هذا بالحقيقة هو اعتزال الإنسان ذاته... أما إنكار الإنسان ذاته فقد أظهره بقوله "يحمل صليبه"، ويعني به أنه يقبل حتى الموت المشين.“

إننا ننكر أنفسنا متى تجنبنا ما هو قديم فينا مجاهدين لننال على الدوام ما هو جديد حتى نبلغ إلى قياس قامة ملء المسيح (أف ٤: ١٣).

يقول المغبوط أغسطينوس: ”إن كان الإنسان بحبه لذاته يصير مفقودًا، فبالتأكيد بإنكاره ذاته يوجد!... لينسحب الإنسان من ذاته لا لأمور زمنية وإنما لكي يلتصق بالله“

 فالرب يسوع هاهنا كان يحث تلاميذه على إنكار الذات وحمل الصليب، وهذا سيجلب المكفأة، فمن يعترف به بحياته ويحمل صليبه، يتقبل عند مجيء الرب يسوع المسيح الأخير شركة أمجاده، أما من يستحي بصليبه هنا يرفض وصيته في هذا العالم، فسيستحي منه ابن الإنسان في يوم مجده العظيم، ويحسبه كمن هو غير معروف لديه، وهذا ما يشير إليه أيضاً القديس يرونيموس: ”الله لا يعرف الشرير، إنما يعرف البار“

  أما عن المجيء الأخير للرب يسوع : "متى جاء بمجد أبيه مع الملائكة القديسين" علّق  القديس أمبروسيوس: ...أن عظمة الآب ومجده هما ذات عظمة الابن ومجده... تأتي الملائكة في خضوع، أما هو فيأتي ممجدًا! هم يأتون كتابعين، أما هو فيجلس على عرشه! هم يقفون، وهو يجلس! إن استعرنا لغة المعاملات اليومية من الحياة البشرية نقول أنه القاضي وهم العاملون في المحكمة.“

 نسك البطريرك الصّربيّ بولس

إن صاحب القداسة، البطريرك بولس، هو ظاهرةٌ فريدة في عصرنا؛ لذا، فمن غير المُجدي جعلُه مقياساً لبقية البطاركة، تماماً كما لو أننا نجعلُ، مثلاً، القديسَ فيلاريت الرحيم أو القديس ألكسيوس رجل الله مقياساً لغالبية العلمانيين في عصرنا. لكل واحد معاييره الخاصة ونوعية جهاده. أرى بأنّه علينا أن نبتهج كونه وُجد في زماننا شخصٌ مثل هذا في الكنيسة الأرثوذكسية.

من المعروف جيداً بأن البطريرك الصـربي، حتى عند تسلّمه مهام منصبه الرفيع، تابَعَ نذوره الرهبانية وجاهَدَ لكي يعيش باعتدال، مع أنّ كلَّ ذلك كان طبيعياً بالنسبة له، وبدون أي تَكَلُّف مُصطنع. كان يتنقّل من بلدة إلى أخرى سيراً على الأقدام أو يستقلُّ وسيلة نقل عمومية، ويَحتكُّ بجماهير العامّة. لم يكن يملك شيئاً، وكان طعامه مثل آباء الصحراء القدماء،لأنه، وبكل بساطة، كان مثلَهم.

أخبرتني السيدةُ جانا تودوروفيك قصةً تتعلَّقُ بشقيقتها. كانت تَحضُر استقبالاً عند البطريرك لسبب ما. وفيما كانت تتناقش معه حول أحد الشؤون، حدث أن نظرتْ إلى قدمَي البطريرك فصُدمتْ لمنظر حذائه: كان بالغَ العتاقة وقد بدا واضحاً أنه تمزق عدَّة مرات ثم أُعيدَ إصلاحُه. فكَّرت المرأةُ في نفسها: ”يا لَعارنا نحن الصربيين، هل على بطريركِنا التنقُّلَ بحذاء بالٍ؟ أليس بمقدور أحد شراء حذاء جديد له؟“، قال البطريرك بفرح: ”أنظري إلى جودة حذائي! لقد وجدتُه بقرب براميل القمامة عند ذهابي إلى البطريركية. لقد تخلَّص أحدُهم منه، لكنه من الجلد الطبيعي. لقد أعَدْتُ رَتقَه. انظري، لا يزالُ بإمكاني استعمالَه لمدة طويلة“.

هناك قصةٌ أخرى حول الحذاء نفسِه. جاءت امرأةٌ إلى البطريركية طالبةً التَّحَدُّثَ إلى البطريرك، شخصياً، بخصوص أمرٍ مستعجل. لم يكن ذلك الطلبُ عادياً، لذا لم تُستقبلْ حالاً. إلا أن إلحاح الزائرة أثمر، وتمت المقابلة. أخبرت المرأةُ البطريركَ بحماس شديد بأنها، في تلك الليلة رأت العذراءَ في نومها وطلبت منها أن تذهب إلى البطريرك وتعطيَه مالاً ليشتريَ لنفسه حذاءاً جديداً. بعد أن أخبرته بذلك، أخرجت الزائرةُ مغلَّفاً من المال. لم يأخذ البطريركُ المالَ، بل أجاب برِقَّة: ”في أي وقت ذهبتِ إلى النوم؟ “. أجابت المرأة، وقد أخذَتْها المفاجأة: ”حوالى الساعة الحادية عشرة. أجاب البطريرك: ”تعلمين أنا أنام بعدك، حوالي الرابعة صباحاً. أنا، أيضاً، رأيتُ العذراء في نومي، وقد طلبتْ مني أن أُبلغكِ بأن تَمنَحي المالَ لمن هم حقاً بحاجة إليه“. ولم يأخذه.

في إحدى المرات، فيما كان يقترب من مبنى البطريركية، لاحظ أن هناك عدداً من السيارات عند المدخل، فتساءل من عسى أن يكونوا. قيل له بأن تلك السيارات تخصّ أساقفةً. أجاب البطريكُ بابتسامة: ”إذا كانوا، وهم يعرفون أنّ السيد أوصى بعدم القنية، يمتلكون مثل تلك السيارات، تخيّلوا سياراتُهم فيما لو لم يوصِ بتلك الوصية“.

مرَّةً، فيما كان البطريركُ مسافراً، جوّاً، في إحدى الزيارات، دخلت الطائرةُ في منخفض هوائي فوق البحر وأخذت تهتزّ. فسألَ أسقفٌ شابٌّ البطريركَ، وكان جالساً بجانبه، ماذا سيدور في فكره لو أن الطائرة أخذت تهوي. أجاب  البطريرك بولس، بهدوء: ”فيما يتعلَّقُ بي، ساعتبرُ ذلك منتهى العدالة؛ لقد أكلتُ كثيراً من السمك، خلال حياتي، لذا لن أتفاجأ إذا ما أكلتني الأسماك الآن ”.

ليست فكرة سيئة أن نقتبسَ مقطعاً من حوارٍ بين نيكولاي كوكوخين والشماس نيبويشا توبوليك:

”إنها نعمةٌ من الله أن يكون لدينا راع روحانيٌّ مثل صاحب القداسة البطريرك بولس… فهو يسلك في حياةً ذاتَ طابع نسكي ويُعتبَرُ نموذجاً حياً للراعي بحسب الإنجيل. إنه يحيا بالمسيح بكل ما لهذه الكلمة من معنى…فهو يصوم مثل أي راهب أرثوذكسي، أي أنه لا يأكل اللّحمَ، ويحافظ على نظام صيامي صارم للغاية أيام الآحاد والأربعاء والجمعة… يُقيم القداس كلّ صباح في كنيسة صغيرة في مبنى البطريركية. ليس في تلك الكنيسة جوقةٌ، بل، أبناءُ الرعية فقط وهم يقومون بالترتيل“.

”إنه يرتدي، بنفسه، الثيابَ الكهنوتية قبل الخدمة ويَخلعها بعد الخدمة، ويُعَرِّفُ ويُناول أبناءَ الرعية بنفسه. لا يزالُ يرتدي الجبّة نفسَها والقلنسوّة نفسها منذ رسامته في الخدمة الملائكية (كان ذلك منذ خمسين عاماً). لم يُبَدِّلْهما على الإطلاق، وهو يَغسلهما ويَكويهما ويُصلحُهما بنفسِه. ويقوم بتحضير طعامه بنفسه. أخبرني، مرةً، بأنه صنع لنفسه حذاءً كان، أصلاً، نسائياً، فلديه كل المعدات لإصلاح الأحذية؛ ويستطيعُ أن يُصلِحَ بنفسِه أيَّ حذاء. كثيراً ما يَخدم في كنائسَ متعدّدة. وعندما يكتشف بأن أفلونية أحد الكهنة أو جبّته ممزّقة، فإنه يقول له: ”اجلبْها لي، وسوف أُصلِحُها “…إنه أمر مفيدٌ لتهذيب النفس روحياً أن نكون متواجدين حول هذا الإنسان.“

ومع هذا، فالبطريرك بولس يحمل دكتوراه في اللاهوت (وذلك قبل أن يُصبحَ بطريركاً)، ولديه عدّةُ كتب من تأليفه: دراسة حول دير القديس ذيونيسيوس دافيتش وإيضاحات حول أسئلة تتعلق بالإيمان بأجزائه ثلاثة، وكذلك عدة مختارات تُرجِمت إلى الروسية.

عندما ناهز البطريركُ بولس الخامسةَ والتسعين من عمره. وهو في المستشفى منذ زمن بسبب اعتلال صحّته. كان المجمع المقدّس للكنيسة الأرثوذكسية الصربية يقوم بالمهام الإدارية للكنيسة. وقد طلب البطريركُ بولس، باستمرار، أن يُعفى من مهامِّه بسبب صحته المتدهورة، إلا أن آخر مجمع عُقِد قد قرَّرَ أن يبقى البطريركُ في منصبه الروحي كرئيس للكنيسة الصربية حتى مماته. كان البطريرك بولس قريباً جداً من الناس، وقد أحبه الناس بدورهم محبة كبيرة. إنه شخصية فريدة حتى بالنسبة للكنيسة الصربية، أما البطريرك الذي سيليه فسيكون، حتماً، مختلفاً عنه.

يقول بيدراغ ميودراغ، وهو يَعرف البطريرك عن كثب، في مقالة قصيرة عن صاحب القداسة:

”من السهل الوصولُ إليه، فعندما كانت شقيقتُه على قيد الحياة كان يتردَّدُ إلى بيتها سيراً على الأقدام. إنه، بشكل عام، يحب التنقل مشياً دون أية مرافقة. يستطيع أيٌّ كان أن يقترب منه ويتحدَّث إليه. وهو يستقبل الزوار كلَّ يوم في مكان إقامته. يأتي الناسُ إليه لطرح حاجاتهم وأسئلتهم البسيطة، ولديه لكل واحد منهم كلمةُ التعزية المناسبة.

يستيقظ البطريركُ باكراً جداً، وفيما يكون الجميعُ نياماً، يُقيمُ القداسَ الإلهي حاملاً في صلواته كلَّ الشَّعب الصـربي. فهو يحمل في قلبه صربيا كلَّها. إنه صغير في قامته ، لكنه كبير في قلبه. أصابعُه رفيعةٌ، لكنه عندما يرسم بها إشارةَ الصليب، فإن قوات الأبالسة تهرب؛ يرتدي البطريركُ ثياباً قطنية رقيقةً، إلا أن تحت تلك الثياب يَكمنُ قلبُ مجاهد شجاع. يقول الناس: ”إنه ملاكُنا الذي يحمينا ويدافع عنّا “. (يوري ماكسيموف هو مراسل الدايلي تلغراف وقد كتب هذا المقال في ٣٠ أيلول ٢٠٠٩ قبل وفاة البطريرك بولس بشهرين).

انقر هنا لتحميل الملف