نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 10 كانون الأوّل 2023
العدد 50
الأحد (27) بعد العنصرة
اللّحن 2- الإيوثينا 5
أعياد الأسبوع:
*10: القدّيس مينا الرَّخيم الصَّوت، القدِّيسَين أرموجانُس وأفغرافُس *11: البارّ دانيال العموديّ، القدّيس لوقا العموديّ، الشَّهيد بَرسابا *12: القدّيس اسبيريدون العجائبيّ أسقف تريميثوس *13: الشُّهداء الخمسة إفستراتيوس ورفقته، الشَّهيدة وكيَّا البتول *14: الشُّهداء ثيرسس ورفقته *15: الشَّهيد في الكهنة آلافثاريوس وأمُّه انثيَّا *16: النّبيّ حَجِّي، القدّيسة ثيوفانّيس الملكة العجائبيّة.
كلمة الرّاعي
روح الميلاد وفرح المشاركة
”وَلكِنْ إِنْ سَلَكْنَا فِي النُّورِ كَمَا هُوَ فِي النُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ“. (1 يو 1: 7)
لا يستطيع البشر أن يفرحوا ما لم يتحرَّروا من عبوديّة الأهواء والخطيئة. هذا الفرح ليس دنيويًّا بل إلهيًّا أي عطيّة الرّوح القدس. والفرح الرّوحيّ ليس أنانيًّا لأنّه ينعكس على الشَّخص ومُحيطه، فيمتدّ إلى الآخَرين وحتّى إلى الطَّبيعة أي الجماد والحيوان، لأنّ ثمر الفرح الإلهيّ سلام...
المؤمن لا يعيش إلّا في شركة محبّة مع الآخَر والخليقة، هذا دأبه وسعيه وإلّا يكون في الضّلال. تحقيق هذا مِنْ عمل النِّعْمَة الإلهيَّة في الإنسان.
كثيرون يطلبون ”السَّعادة“ لأنفسهم في الفانيات والوقتيَّات، هذا منطق العالم، لكنّه ”بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ“ (جامعة 1: 14).
ما لم يتطهَّر الإنسان مِنْ خَطاياه يبقى في الأنانِيَّة والعُبودِيَّة للكبرياء، أي هو يعيش لذاته وكلّ ما يعمله هو فقط لأجل حياته. الأنانيّ لا يستطيع أن يشارك أحدًا، هو مستهلِكٌ بامتياز لكلّ من وما حوله لأجل إثبات وجوده وتحقيقه...
المسيحيّ لا يستطيع أن يكون أنانيًّا لأنَّ الأنانية عكس المسيحيَّة الَّتي هي شركة ومشاركة أساسها الوحدة في جسد المسيح الواحد. مَنْ أيْقَنَ أنّه عضو في جسد المسيح لا يمكنه أن يعيش مُنعزلًا عن شركة هذا الجسد، ”فَإِنَّهُ كَمَا فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ لَنَا أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَلكِنْ لَيْسَ جَمِيعُ الأَعْضَاءِ لَهَا عَمَلٌ وَاحِدٌ، هكَذَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاءٌ بَعْضًا لِبَعْضٍ، كُلُّ وَاحِدٍ لِلآخَرِ“ (رو 12: 4—5).
* * *
الله شركة، والحياة الأبديّة هي عيش سرّ هذه الشَّركة الإلهيَّة. ”نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ اللهِ، وَشَرِكَةُ الرُّوحِ الْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِينَ“ (2 كو 13: 14). الرُّوح القُدُس هو روح الشَّركِة ومُحقِّق الوحدة بين أعضاء جسد المسيح.
الكنيسة الأولى عاشت هذا السّر وهذه الخبرة، إذ ”كَانَ لِجُمْهُورِ الَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِ لَهُ، بَلْ كَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكًا“ (أع 4: 32).
في هذه الأيَّام، نجد أنَّ هذه الرُّوح صارت نادرة، حتّى في العائلة الواحدة بين الزَّوْج والزَّوجة كلٌّ منهما يحسب ما منه وله وما عليه عِوَضَ أنْ يكون هناك صندوقٌ واحدٌ لأنّ الأهمّ وهو أنْ يُسْلِم الإنسان نفسه للآخَر، مِنَ المُفتَرض أن يتحقَّق في قرار الزَّواج وفي عَيْشِ السِّرّ. عالم اليوم يدفع الإنسان نحو الفردانيَّة والسَّعي لإرضاء الذّات ولو على حساب تدمير شركة المحبَّة الّتي حتّى يحقّقها البشر يحتاجون للكثير من التّحرُّر من أنايّتهم وكبريائهم أي هم بحاجة أن يعيشوا سرّ التّضحيّة والاتّضاع اي سرّ ”إخلاء الذّات“.
* * *
أيُّها الأحبّاء، ها نحن على أبواب عيد ميلاد ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح. ها هو يأتينا طفلًا مُضْجَعًا في ”مذْوَدٍ حقير“. الرَّبُّ شاركنا فقرنا وضعفنا وحرماننا، هو اختبر ما نعيشه نحن من غربة بين البشر ومن لامبالاة بين بعضنا البعض ومن قوقعة كلّ إنسان حول نفسه وجماعته، ومن إهمال للفقير والبائس والمتروك والمهمَّش... لقد أتى ليقول لنا أنّه واحد مع كلّ هؤلاء وأنّ كلّ ما ”فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ (...) (وكل ما) لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا“ (مت 25: 40—45).
إنّ مصدر كلّ فرح هو عيش سرّ المحبَّة والمحبَّة هي شركة ومشاركة وبغير ذلك لا تكون، وهذا هو سرّ المسيحيّة وجوهرها ولاهوتها وعقيدتها...
ها العيد يقترب فكيف لنا أن نتهيَّأ له؟ كيف نستعدّ لاستقبال الإله المتجسِّد الَّذي أتى ”لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ“ (يو 11: 52)؟!...
فرح العيد هو أن نفتكر في المسيح الذّي في المحرومين والَّذين هم في شِدَّةٍ وضيق وحاجة وألم ومرض... الفرح الإلهيّ يُعطى لنا إذ اشتركنا بما أنعم الله علينا به من خيرات مع فاقديها... كلّ قلب تفرّحه وتعزّيه يَصيرُ لك هنا خبرة ملكوتيّة لسِرِّ فرحِ الدَّهر الآتي وبركة تُرافِقُك مع المختصّين وسترًا بنعمة الله من تقلّبات هذا الدّهر وشركة مع القدِّيسين في المسيح...
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّاني)
عندما انحدرتَ إلى المَوْت. أَيُّها الحياةُ الَّذي لا يَموت. حينئذٍ أَمَتَّ الجحيمَ بِبَرْقِ لاهوتِك. وعندما أقمتَ الأمواتَ من تحتِ الثَّرى. صرخَ نحوكَ جميعُ القُوّاتِ السّماويّين. أَيُّها المسيحُ الإله. مُعطي الحياةِ المَجدُ لك.
طروباريّة للشّهداء (باللّحن الثّامن)
إنَّ شُهداءَ المسيح، إذ أنَّهُم أماتوا بالإمساكِ وَثَبات الأهواءِ المُحرِقة وحركاتها، نالوا نِعْمَةً، ليطردوا أسقامَ المَرْضى، ويصنعوا العجائبَ أحياءً وبعدَ الموت، فبالحقيقة أنه لعجبٌ مُستغرَبٌ أنَّ عظامًا مُجَرَّدةً تُفيضُ الأشفية، فالمجدُ لإلهنا وحدَهُ.
قنداق تقدمة الميلاد (باللّحن الثّالث)
اليومَ العذراءُ تأتي إلى المَغارة لِتَلِدَ الكلمةَ الَّذي قبل الدُّهور وِلادةً لا تُفسَّر ولا يُنطق بها. فافرحي أيّتها المَسكونةُ إذا سَمِعْتِ، ومَجِّدي مع الملائكةِ والرُّعاة الَّذي سَيَظْهَرُ بمشيئته طفلًا جديدًا، وهو إلهُنا قبلَ الدُّهور.
الرِّسالَة(أف 6: 10-17 )
قُوَّتي وتَسبِحَتي الرَّبُّ
أدبًا أدَّبني الرَّبُّ وإلى الموتِ لَم يُسلِمني
يا إخوة، تَقوَّوا في الرَّبِّ وفي عزَّةِ قدرتِه. اِلبَسُوا سلاحَ اللهِ الكاملَ لتستطيعوا أن تَقِفوا ضِدَّ مكايِدِ إبليس. فإنَّ مصارَعَتَنا ليست ضِدَّ دمٍ ولحمٍ بل ضِدَّ الرِّئاساتِ، ضِدَّ السَّلاطينِ، ضِدَّ وُلاةِ العالم، عالمِ ظُلمةِ هذا الدَّهر، ضِدَّ أجنادِ الشَّرِّ الرُّوحيَّةِ في السَّماويَّات. فلذلكَ احْمِلوا سلاحَ اللهِ الكاملَ لتستطيعوا المُقاوَمَةَ في اليومِ الشِّرّير، حتَّى، إذا تمَّمتُم كلَّ شيءٍ، تثبُتُوا. فاثُبُتوا إذَنْ مُمَنطِقينَ أحقاءَكم بالحَقِّ ولابسينَ درعَ البِرّ، وأَنعِلوا أقَدامَكم باستعدادِ إنجيل السَّلام، واحمِلوا، عِلاوةً على كلّ ذلك، تُرسَ الإيمان الَّذي بهِ تقدِرون على أن تُطفِئوا جميِعَ سهامِ الشِّرّيرِ المُلتهبة، واتَّخِذوا خُوذَةَ الخلاصِ وسيفَ الرُّوحِ الَّذي هو كلمةُ الله.
الإنجيل(لو 13: 10-17)(لوقا 10)
في ذلك الزَّمان، كانَ يسوعُ يُعَلِّمُ في أَحَدِ المجامِعِ يومَ السَّبت؛ وإذا بامرأةٍ بها رُوحُ مَرَضٍ منذ ثمانِي عَشْرَةَ سنةً، وكانَتْ مُنْحَنِيَةً لا تستطيعُ أنْ تنتصبَ البَتَّة. فلمَّا رآها يسوعُ دعاها وقال لها: إنَّكِ مُطْلَقَةٌ من مرضِك. ووضعَ يدَيْهِ عليها، وفي الحالِ استقامَتْ ومجَّدَتِ الله. فأجابَ رئيسُ المجمعِ وهو مُغْتَاظٌ لإِبْراءِ يسوعَ في السَّبتِ وقالَ للجميع: هي سِتَّةُ أيَّامُ ينبغي العملُ فيها، ففيها تأتُونَ وتَسْتَشْفُونَ لا في يوم السَّبتِ. فأجابَ الرَّبُّ وقالَ: يا مُرَائي، أَلَيْسَ كلُّ واحدٍ منكم يَحُلُّ ثورَهُ أو حمارَهُ في السَّبتِ مِنَ المِذْوَدِ وينطلِقُ بهِ فَيَسْقِيه؟، وهذه ابنَةُ إبراهيمَ قد رَبَطَهَا الشَّيْطَانُ منذُ ثمانِي عَشْرَةَ سنةً، أَمَا كانَ ينبغِي أَنْ تُطْلَقَ مِن هذا الرِّباط يومَ السَّبت؟!. ولمّا قالَ هذا خَزِيَ كلُّ مَن كان يُقاوِمُهُ، وفَرِحَ الجَمْعُ بجميعِ الأمورِ المَجِيدَةِ الَّتي كانَتْ تَصْدُرُ مِنْهُ.
حول الإنجيل
يُخبِرنا إنجيلُ اليومِ عن حادثةِ شفاءِ المرأةِ المُنحنية، تلكَ العجيبةَ الَّتي اجترحها المسيحُ يوم سبتٍ. كانَ قدْ مضى على حالِ المرأةِ هذه ثماني عشرةَ سنةً، وَمِنَ المَنْطِقِيِّ أنَّها كانت قَدِ التجأتْ إلى أطِبَّاءَ عدَّة ولم تَسْتَفِد شيئًا، لأنَّ الشَّيطانَ هُو من رَبَطَها. من الواضحِ أنَّها كانتْ واقِعَةً في اليأس، وأنَّها فاقِدةً لكلِّ رجاءٍ في أن تُشفى، وهذا يظهرُ جَليًّا مِنْ كَوْنِ أنَّها رَأَتِ المسيحَ ولم تطلب منه شيئًا، على عكسِ حوادثِ الشِّفاءِ الأُخرى الَّتي تَرِدُ في الإنجيل. وعلى الرُّغمِ مِنْ يَقينها بأنَّها لن تُشفى كانت تواظِبُ حضورَ المجمعِ، أي اجتماعات الصَّلاة. لم تَكفُر باللهِ ولم تُلْقِ عليهِ لَوْمًا.
ثَمَّنَ المسيحُ إيمانَها الخَفِيّ، ومُواظَبَتها على المَجيءِ إلى بيتِ اللهِ، فكافأها أيُّما مكافأة! أعادها إلى حالتها الأولى. لم تنسَ المرأةَ بعد شفائِها أن تُقدِّم تمجيدًا وشكرًا لله "اسْتَقَامَتْ وَمَجَّدَتِ الله" لَمْ يُسَرّ الشَّيطان بما حَصَل، ولم يكن يرغبُ بشفائها وهو الَّذي رَبَطَها، "ابنةُ ابراهيمَ الَّتي رَبَطَها الشَّيطان"، فسخّرَ رئيسَ المجمَعِ للتَّحدُّثِ بلسانه مُغتاظًا من فِعْلِ المسيح.
ما يُلفِتُ انتباهنا في تَصَرُّفِ رئيس المجمعِ أنَّه كان جبانًا لم يَجرؤ على مُخاطَبَةِ المسيح، بل صَبَّ غضبَهُ على الجمعِ وكلَّمَهُ قاصِدًا بِهِ المسيح. لَكِنَّ ربَّنا الرَّحيم أفحَمَهُ، وبيَّن لجميعِ الحاضِرينَ أنَّ الرَّحمةَ تُصْنَعُ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ. حالُ هذه المرأةِ كحالِ الأكثرينَ مِنَّا، نرزحُ تحتَ نيرِ الخطايا والأهواء، تربطُنا شهواتُنا، وتشدُّ تفكيرنا إلى أسفل، فنَنْغَمِسَ بكلِّ ما هو أرضيٌّ زائلٌ، ولا نعود نرفعُ أنظارنا إلى العَلاء، مُناجين أبينا السَّماويّ، طالبين منهُ رحمَةً وشِفاءً في لحظةٍ لا يَعلَمُها الإنسان يَضَعُ المسيحُ يَدَهُ ليلمسَ ويَشفي كُلَّ ضُعفٍ ومَرَضٍ فيه، وما على الإنسان إلَّا أن يُسَلِّمَ نفسه بالكلِّية للرَّبِّ القدُّوس، وأن يكونَ أداةً مطواعَةً بين يديه.
يَدعونا إنجيلُ اليومِ أنْ نُواظِبَ كالمرأةِ المنحنية على حضورِ الصَّلوات، خاصَّة في هذه الفترة الَّتي تسبقُ عيد التَّجسُّد، وأن نكون جاهزين لاستقبالِ المسيحِ، وأن نُعِدَّ لَهُ مِذودًا دافِئًا في قلوبنا. وأن نُمَجِّدَ اللهَ دَوْمًا، وأن نفرحَ إذا ما أصابَ الآخَرين خيرٌ مِنَ الرَّبِّ، لا كَمِثْلِ رئيس المَجْمَعِ الشِّرّير. بهذا يَخزى المُقاِوم ويفرحُ الجميع..!!
الحبل بوالدة الإله
لا نَجِد في كتب العهد الجديد ذِكِر لجديّ الإله يواكيم وحنّة، لكن شاعَ ذكرَهُما في كنيسة أورشليم منذ القرن الرّابع الميلاديّ. حسب التُّراث الكنسيّ كانا زَوْجَين تَقِيَّين سالِكَيْن بمَخافَة الله. ولكن لم يَكن لهما ولدٌ لأنَّ حنّة كانت عاقِرًا. هذا الأمرُ سبَّبَ لهما حزنًا كبيرًا ليس فقط بسبب عدم الإنجاب بل لأنَّ النَّاس في تلك الأيّام كانوا يعتبرونه عارًا وفي نظر الكثيرين من اليهود لعنةً أو تخلّيًا من الله. لهذا كان الزَّوجان لا يَكُفّان عن الصَّلاة بحرارةٍ إلى الرَّبّ الإله، لِيَفُكَّ العقر ويَمُنَّ عليهما بطفلٍ حتّى بعد فوات الآوان. وهذا يدلُّ على ثقتهما بقدرة الله وحكمته الكاملة. فلمّا حانَ زمان الافتقاد، أرسل الرَّبُّ الإله ملاكَه إلى حنّة وبشّرها بأن صلاتَها وصلاة زوجها قد استُجيبت وسيَزُيلُ عارَ العُقْرِ وسيمنحهُما مولودًا يكون بركة عظيمة لجميع المَسكونة. آمَنَ يُواكيم وحنّة بكلام الملاك وبتدبير الله. حبلَت حنّة العفيفة بنعمة الله، على أثر لقاء بينها وبين زوجها وأنجبَت مولودًا أُنثى، مريم العذراء. ورثَتْ والدة الإله عن والديها نتائج الخطيئة الجدِّيَّة. كلّ حَبَلٍ طبيعيّ نتيجة علاقة بين زوجَيْن يَنقل عطب الطبيعة البشريّة الناتج عن الخطيئة الجدِّيَّة، وبما أنَّ العذراء قد حُبل بها بطريقةٍ طبيعيّةٍ فهي غير مُستثناة. عبّر كاتبُ المزامير في المزمور الخمسين بقوله "بالخطيئة ولدتني أُمي" (مز 5:51). وأيضًا الرَّسول بولس حين قال: "بإنسانٍ واحدٍ دخلَتْ الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة دخلَ الموت" (رومية 12:5). كانت والدةُ الإله طاهرة، نقيّة، وبارّة لا بسبب خلُوِّها من نتائج الخطيئة الجدِّيَّة، بل لأنَّها تقدّستْ بنعمة الله عندما بشّرها الملاك وقال لها: "الرُّوحُ القدس يَحُلُّ عليكِ، وقُوَّةُ العَلِيِّ تُظلِّلُكِ، فلذلك أيضًا القُدُّوسُ المولودُ منكِ يُدعى ابنَ الله" (لو 35:1). هذا هو موقفُ الكنيسة المُقدَّسة الَّتي تؤكِّد أنَّ ولادة مريم العذراء الَّتي وُلدت بحسب ناموس الطَّبيعة (غير مُستثناةٍ مِنَ نتائج الخطيئة الجدِّيَّة) تختلف كليًّا عن ولادة الرَّبّ يسوع المسيح (المُنزَّه عن الخطيئة) الَّذي وُلد من مريم العذراء بالرُّوح القدس. هذا هو دستورُ إيمان الكنيسة الَّذي نردِّده: "الَّذي مِنْ أجلنا نحن البشر ومِنْ أجل خلاصنا نزلَ من السّماء، وتجسَّد مِنَ الرُّوح القُدُس ومن مريم العذراء، وتأنَّس".
تأمّل ميلاديّ
المتروبوليت بولس يازجي
“المجد لله في العلى وعلى الأرض السَّلام وفي النَّاس المَسَرّة” (متّى 2: 1-12).
في الميلاد صارت هذه التَّرنيمة أنشودةً للملائكة والبشر. ونرنمِّها كما في الميلاد كلَّ صباحٍ في السَّحر. لقد جمع تجسُّد المسيح ألسنة الملائكة مع ألسنة البشر، وصالح بين الأرضيَّات والسَّماويَّات. وفي هذه العبارة الجميلة هناك ثلاث كلماتٍ مترابطةٍ مع بعضها وهي: المجد والسَّلام والمَسرَّة. فالمَجْد يَخُصُّ الله، والسَّلام يَخُصُّ الأرض، والمَسَرَّة تَخُصُّ الإنسان. وتكشف لنا هذه التَّرنيمة في الميلاد كيف لا يتحقَّق أيٌّ من هذه الكلماتٍ دون الأخرى.
ظهر مَجْدُ الله عندما تجسَّدَ الرَّبُّ الكلمة وحَمَلَ بشرتنا. فمَجْدُ الرَّبِّ يتحقَّق عندما يلتقي هو بالبشر ويَلتقي البشرُ به. مجد الله ليس في سُمُوِّه عن البشر بقدر ما هو في اتّصاله بهم. ربوبيَّة السَّيِّد ليست عرشًا له في سماه ولكنَّها الاعتراف الإنسانيُّ بسيادته وحده على القلب. ويسعى الله في التّاريخ ليجعل قلوب البشر مَهْدًا له وحده، ليس بالإجبار بل بالمحبَّة. إنّ إيماننا ثابتٌ، مهما شكَّكت به الظُّروف والأوضاع، أنّ الله يسير بالتَّاريخ، رغم ألوان الإلحاد أو قِلَّة الإيمان عند البشر، إلى يوم السَّلام النِّهائيِّ والعالميّ، حين يكون الرَّبُّ هو الواحد على كلِّ المسكونة، لدى مجيئه الأخير. وبين الميلاد كبداية وذلك اليوم كغاية يمتدُّ زمن دينونة البشر، وهو عينه زمن التَّبرير. مجد الله يعني إذن أن يتصالح الإنسان بالله.
يتحقَّق السَّلام على الأرض حين تُبنى بينهم العلاقات الصَّحيحة والمدنيَّة الإنجيليّة، هذه الَّتي تتعدَّى كلَّ الفروقات القائمة على الصِّراعات بين الحضارات والعنصريَّات والطَّبقات والجنس. وهذه المدنيَّة الجديدة الَّتي افتتحها الرَّبُّ بقوَّةٍ يوم تجسُّده إنَّما هي الكنيسة. فالكنيسة هي عالم العالم، أو كما قال سيِّدُها هي ملح الأرض. وعالم العالم مدعوٌّ أن يصير كلَّ العالم! لن يعمَّ السَّلام قبل أن تصير الكنيسة كلَّ العالم والعالم كلُّه الكنيسة، بالمعنى الحقيقيّ لهذه الكلمة “كنيسة” وليس الطّائفيّ. حين يصير العالم كلُّه جسد الرَّبِّ يسوع ويصير الرَّبُّ يسوع رأس العالم كلِّه. الكنيسة هي رسالة السَّلام في العالم وهي مركزه، على الرَّجاء أن تخمِّر الخميرةُ العجينَ كلَّه. بهذه الخميرة يتصالح الإنسان بالقريب.