Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 10 أيلول 2023     

العدد 37

الأحد قبل عيد رفع الصَّليب

اللّحن 5- الإيوثينا 3

أعياد الأسبوع: *10: الشّهيدات مينوذورة وميتروذورة ونيمفوذورة *11: البارَّة ثيوذورة الإسكندريَّة، القدِّيس إفروسينوس الطّبّاخ *12: وداع عيد ميلاد السَّيِّدة، الشَّهيد في الكهنة أفطونومس *13: تقدمة عيد الصَّليب، الشّهيد كورنيليوس قائد المِئَة ورفقته، تجديد هيكل القيامة *14: عيد رفع الصَّليب الكريم المُحْيي (صوم) *15: القدّيس الشّهيد نيقيطا، سمعان التَّسالونيكيّ *16: القدِّيسة العظيمة في الشّهيدات آفيميَّة، القدِّيس مرتينوس أسقف رومية.

كلمة الرّاعي 

عثرة الصَّليب

”فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّليب عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا
نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ“ (1 كو 1: 18)

العقل غير المؤمن يتعذَّب من الصَّليب لأنّ الصَّليب عنده غير منطقيّ، إذ المنطق عند الـبـشـر الَّذين لا يعرفون الله ”المحبَّة“ هو حماية النّفس من الألم وَلَوْ على حساب آلام الآخَرين، أمّا منطق الصَّليب فهو حمل الألم لأجل الآخَرين حُبًّا.

”مصلحة“ الإنسان بحسب الصَّليب هي أن يحبّ ويبذل لا أن يهتمّ براحته وأن ينغلق على ذاته وحاجاته وأنانيّته، لأنّ الغنى هو في العطاء وليس الأخذ، والمجد في الاتّضاع وليس التّكبّر، والفرح في  البذل وليس الأخذ.

الصَّليب هو صلب للعالم في حياة المؤمن، أي هو  خروجٌ طَوْعِيّ من منطق الدّنيا النّفعيّ ”المصلحجيّ“ وتَبَنٍّ لمنطق الإنجيل الَّذي يقول: ”مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَـــسِــــرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟“ (مت 16: 26).

مِنْ هنا، فالصَّليب عثرة للَّذين يظنّون أنّ الله هو إله حرب وبطش بالأعداء، أو أنّه إله العلم والفلسفة والحكمة الدَّهريَّة. الصَّليب هو رمز المحبَّة الإلهيَّة غير المَحدودة أو المَحصورة في قوالب أو أُطُر تنسجم مع منطق العالم، إنّه تدمير لكلّ منطق أو فلسفة أو نَهْج حياة مَبنيّ على الأنا...

*          *          *

مَنْ يَرفُض الصَّليب ومنطقه يَرفُض الخلاص الآتي بالحُبّ، ومَنْ يؤمن بالمسيح ربًّا وإلهًا يَصلب العالم الَّذي فيه بكلّ جوانبه الفكريَّة والعمليَّة. لِيَصير صليب المسيح خـــلاصًا لي يجب عليَّ أن أقبل سرّ ”إخلاء الذّات“ (Kénose—Κένωσις)، الَّذي حقَّقه الله  في تجسّد ابنه الوحيد إذ ”أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ...“ (في 2: 7).

إذا كان ابن الله الوحيد، قد تنازل و ”وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّليب“ (في 2: 8) وهو الكامل، فَكَمْ بِالحَرِيّ علينا نحن البشـر الخطأة أن نتواضع هاربين من كبريائنا وأنانيّتنا وحبّنا للمجد الباطل ومِنْ طلب المديح ومِنَ الغضب وحبّ الانتقام والدَّينونة؟!...

*          *          *

أيّها الأحبَّاء، لا يمكن أن يسكن فينا بِرُّ الله ما لم نتطهَّر من العالم الَّذي فينا أي ما لم نتعرَّ من العالم بكلّ ما فيه مِنْ سقوط لنستحقّ أن نلبس برحمة الله ورأفته رداء النّعمة المفقود عند السّاقطين... فالإنسان في العالم مَسْبِيّ بالخطيئة، والمؤمن هو من يصارع ناموس الخطيئة في جسده ببِرِّ المسيح أي بقوّته. ولسان حال المؤمن ما قاله الرَّسُول بولس وهو أنّه يرى ”نَامُوسًا آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي، وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ الْكَائِنِ فِي أَعْضَائِي. وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟“ (رو 7: 23 و24).

المشكلة اليوم أنّ منطق العالم، حتّى عند بعض الَّذين يظنّون أنفسهم مؤمنين، لم يعد يرى في الإنسان سقوطًا وبُعدًا عن الله وعن وصاياه، لا بل صاروا يُحَوِّرون الوَصِيَّة لتنسجم مع سقوطهم وأهوائهم، ”لأَنَّ كَثِيرِينَ (...) هُمْ أَعْدَاءُ صَلِيبِ الْمَسِيحِ،  الَّذِينَ نِهَايَتُهُمُ الْهَلاَكُ، الَّذِينَ إِلهُهُمْ بَطْنُهُمْ وَمَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِمِ، الَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي الأَرْضِيَّاتِ“ (في 3: 18 و19). صارت أهواء الخزي والهوان والحقارة لعالم اليوم مجدًا وشرفًا، وهذا إنْ دَلَّ على شيء فهو يدلّ على مدى الضَّلال الَّذي يعيش فيه إنسان اليوم، وهذا الضَّلال مصدره الشَّيطان وزَبانِيَّته، وكلّ من يوافقهم عبدٌ لإبليس وكافر بالحَقَّ الَّذي بالمسيح يسوع مخلّص العالم...

الرَّبُّ يأتي...

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة (باللَّحن الخامس)

لِنُسَبِّحْ نحنُ المُؤمنينَ ونسجُدْ للكلمة. المُساوي للآبِ والرُّوحِ في الأزَليّةِ وعدمِ الابتداء. المَوْلودِ مَنَ العذراء لِخلاصِنا. لأنّه سُرَّ أن يَعلُوَ بالجَسَدِ على الصَّليب. ويحتمِلَ المَوْت. ويُنهِضَ المَوْتى بقيامتِهِ المَجيدة.

طروباريّة ميلاد السّيّدة (اللّحن الرّابع)

ميلادُكِ يا والدة الإله، بشَّرَ بالفرحِ كلَّ المسكونة، لأنّه منكِ أشرقَ شمسُ العدلِ المسيح إلهنا، فَحَلَّ اللَّعنَةَ ووَهَبَ البركة، وأبطلَ الموت، ومنحنا حياةً أبديّة.

قنداق ميلاد السَّيِّدَة (باللَّحن الرَّابِع)

إنَّ يُواكِيمَ وحنَّةَ من عارِ ﭐلعُقْر أُطلِقا، وآدمَ وحوَّاءَ من فسادِ ﭐلموتِ، بمولِدِكِ ﭐلمُقَدَّس يا طاهِرَة، أُعتِقا. فلَهُ يُعَيِّدُ شعبُكِ إذ قد تَخلَّصَ من وَصْمَةِ الزَّلَّات. صارِخًا نحوكِ، العاقِرُ تَلِدُ والدةَ ﭐلإله ﭐلمُغَذِّيَة حياتَنَا.

الرّسالة (غلا 6: 11-18)

خلّص يا ربُّ شعبَك وبارك ميراثَك                  

إليكَ يا ربُّ أصرخ: إلهي

يا إخوة، أنظروا ما أعظمَ الكتابات الَّتي كتبتُها إليكم بِيَدي. إنَّ كُلَّ الَّذينَ يُريدون أن يُرضُوا بحسَبِ الجسَدِ يُلزمونكم أن تختتِنوا، وإنَّما ذلكَ لئلَّا يُضطهَدوا من أجل صليبِ المسيح. لأنَّ الَّذينَ يَختتِنون هُم أنفسُهم لا يحفَظون النَّاموسَ، بل إنَّما يُريدون أن تَختتِنوا ليفتخروا بأجسادِكم. أمَّا أنا فحاشا لي أن أفتَخِرَ إلَّا بصليبِ ربِّنا يسوعَ المسيحِ الَّذي به صُلبَ العالمُ لي وأنا صُلبتُ للعالم. لأنَّهُ في المسيح يسوعَ ليسَ الخِتانُ بشيء ولا القَلَفُ بل الخليقَةُ الجديدة. وكلُّ الَّذينَ يَسلُكُون بحَسبِ هذا القانون فعليهم سَلامٌ ورَحمةٌ وعلى إسرائيلِ الله. فلا يجلِبنَّ عليَّ أحدٌ أتعابًا في ما بعدُ، فإنّي حامِلٌ في جسدي سماتِ الرَّبِّ يسوع. نعمةُ ربِّنا يسوعَ المسيحِ مع روحِكم أيُّها الإِخوة. آمين.

الإنجيل (يو 3: 13-17) 

قال الرَّبُّ: لم يصعدْ أحدٌ إلى السَّماءِ إلَّا الَّذي نزلَ مِنَ السَّماءِ ابنُ البشر الَّذي هو في السَّماءِ. وكما رَفع موسى الحيَّةَ في البرّيَّة، هكذا ينبغي أن يُرفَعَ ابنُ البشر لكي لا يهلِكَ كلُّ مَن يؤمِنُ بِه، بل تكونَ لهُ الحياة الأبديَّة. فإنَّهُ لم يرسِل اللهُ ابنَهُ الوحيدَ إلى العالمَ ليّدينَ العالم بل ليُخلِّصَ بهِ العالم.

حول الإنجيل

ما يُقْرَأ في الأحد الَّذي قبل عيد رفع الصَّليب هو مَقْطَع مِنَ الحِوار الَّذي جَرَى بين الرَّبِّ ونيقوديموس. الفكرة الرَّئيسة في هذا المَقْطَع هي أنّ ابن الله جاء لِيَبذُلَ ذاتَهُ ذبيحةً مِنْ أجل الإنسان تعبيرًا عن محبّته له. وهو المُزْمِعُ أن يُرفَعَ على الصَّليب كما رُفِعَتْ الحَيَّة النُّحاسِيَّة في الصَّحراء.

"وكما رفع موسى الحَيَّة في البرّيّة هكذا ينبغي أي يُرفع ابن البشر". كلام يسوع هنا يفترض ما كشفه لنيقوديموس في حِوارِهِ معهُ، وهو أنّه هو ابن البشر الَّذي تحدّث عنه دانيال النَّبيّ، أي هو المسيح المُنْتَظَر. وتطرّق إلى الولادة الجديدة الَّتي للحياة الأبديّة. هذه الوِلادَة "مِنْ فَوْق" تَتِمُّ عَبْر المعموديّة الَّتي اكتسبت سلطانها وفاعلِيَّتها مِنْ ارتفاع ابن البشر أي مِنْ مَوْتِ المَسيح وقيامته، لذا اعتُبرت المعموديّة تجسيدًا لهما، قبرًا للإنسان العتيق التُّرابيّ ورَحَمًا للإنسان الجديد الرُّوحانيّ.

في هذا المقطع الإنجيليّ ذكر للحادثة الواردة في سفر العدد (21 : 4 – 9) حيث انتشرت الحيّات بين الشَّعب الإسرائيليّ أثناء تَيَهانِهِ في سيناء وقضت بِسُمِّها على عددٍ كبيرٍ مِنَ الشَّعب. ويصف الرَّبُّ لِمُوسى دواءً لهذا السُّمّ طالبًا منه أن يصنع حَيَّةً مِنَ النُّحاس ويرفعها أمام أَلْحاظِ الشَّعْبِ، فكلُّ مَنْ يَنْظُر إليها يُشفى مِنْ لَدْغات الحَيّات.

نحن هنا أمامَ حادِثَةٍ - رمز أو صورة من العهد القديم. والرَّمز هو نبوءة لا يُعبّر عنها بكلمات بل هي حدث أو فعل جرى في العهد القديم يُنبئ عن شخٍص أو حَدَثٍ عَظيم تحقّق في العهد الجديد. فالحَيَّة النُّحاسِيَّة هي صورة أو رمز عن المسيح المرفوع على الصَّليب.

إسرائيل القديم هو صورة عن إسرائيل الجديد أي الكنيسة، الحَيّات وسمّها القاتل هي قِوَى الشَّرّ والخطيئة، الموت الجسديّ النَّاتج عن سمّها هو صورة عن المَوْت الأبَدِيّ، الحَيَّة النُّحاسِيَّة صورة عن المسيح المَصلوب، الحياة المؤقّتة الَّتي أُعطيت للنَّاظِرين إلى الحَيَّة المَرْفُوعَة هي صورة عن الحياة الأبديّة الَّتي سَيَظْفَر بها إسرائيل الجديد المؤمن بالمسيح المَرفوع على الصَّليب والواضع رجاءه عليه.

هنا المسيح فسّر، شخصيًّا، هذا الرَّمز وأعطانا أن نفسّر نحن باقي الرُّموز، وهذا ما فعله الرُّسُل وتحديدًا بولس الرَّسُول. فكما رُفِعَتْ الحَيَّة في الصَّحراء هكذا ينبغي أنْ "يُرفَعَ" ابنُ البشر أي أن يُصْلَبَ، حتّى أنّ كلّ من يؤمن به ويثبِّت هذا الإيمان بالمعموديّة لن يموت الموت الأبديّ بل ينال الحياة الأبديّة.

ثمّ يكشف يسوع تباعًا لنيقوديموس كشفّا آخر. هكذا أحبّ الله العالم حتّى أنّه بذل ابنه الوَحيد لِيَنالَ كلّ مَنْ يؤمِن به الحياة الأبديّة، أي أنّه بذله للموت على الصَّليب لتظهر بالصَّليب محبّة الله العظمى. أرسل الله ابنه لا ليدين العالم بل ليخلَّص به العالم. يسوع هنا يقلب المفاهيم الخاطئة السَّائدَة عند شعب إسرائيل ورؤسائه الدّينيّين والقائلة أنّ مسّيا سيأتي لينتقم من الأمم ويبيدها لأنّها جلبت الشَّقاء لإسرائيل. المسيح جاء لا ليدين العالم ويعاقبه بل ليكشف مقدار محبّته لكلّ العالم ويخلّصه.

الحشمة في الكتاب المقدّس

لا شكّ أنّ موضوع الحشمة أساسيٌّ في الكنيسة، ولذلك توليه اهتمامًا خاصًّا. وهذه الحشمة تبدأ من الكتاب المقدّس حيث يقول بولس الرّسول في رسالته الأولى إلى تيموثاوس: "فَأُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ الرِّجَالُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، رَافِعِينَ أَيَادِيَ طَاهِرَةً، بِدُونِ غَضَبٍ وَلَا جِدَال. وَكَذلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ يُزَيِّنَّ ذَوَاتِهِنَّ بِلِبَاسِ الْحِشْمَةِ، مَعَ وَرَعٍ وَتَعَقُّل، لَا بِضَفَائِرَ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ لآلِئَ أَوْ مَلاَبِسَ كَثِيرَةِ الثَّمَنِ" (1 تيموثاوس 8:2-9). نلاحظ هنا استخدام بولس الرّسول للفعل "أريد" بدلًا من أتمنّى، وذلك ليحثّ تيموثاوس على الانتباه للنّساء إذا كنّ غير محتشمات.

الموضوع ليس مسألة موضةٍ وارتداء معظم النّاس لنوعٍ معيّنٍ من الأزياء. وهل إذا كان معظم النّاس يسرقون، فهذا تشريعٌ لنا للسّرقة؟ يجب على الإنسان طبعًا أن يرتّب نفسه، ولكن بشكلٍ خفرٍ. وهنا يقول بولس الرّسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: "كُلُّ الْأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، لكِنْ لَيْسَ كُلُّ الْأَشْيَاءِ تُوافِقُ... وَلكِنَّ الْجَسَدَ لَيْسَ لِلزِّنَا بَلْ لِلرَّبِّ، وَالرَّبُّ لِلْجَسَدِ... أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ أَجْسَادَكُمْ هِيَ أَعْضَاءُ الْمَسِيحِ؟... اُهْرُبُوا مِنَ الزِّنَا... أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي فِيكُمُ، الَّذِي لَكُمْ مِنَ اللهِ، وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ؟... فَمَجِّدُوا اللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ الَّتِي هِيَ للهِ" (1كورنثوس 12:6-20).

الغاية من عدم الحشمة هي لفت الأنظار والإعجاب، وبالتّالي هدفها هو المجد الباطل كما يقول الآباء القدّيسون. المسيحيّ الحقيقيّ لا يكتفي ببُنيان نفسه، بل ببُنيان الآخرين أيضًا لأنّنا كلّنا أعضاءٌ في جسد المسيح الواحد، لذلك ينبغي أن يضحّي المرء بالزّيّ غير المحتشم في سبيل الرّأفة بالضّعفاء.

يقول الآباء القدّيسون إنّ على المؤمن أن يتغلّب أوّلًا على التّجارب الّتي تأتيه من الحواسّ حتّى ينصرف إلى محاربة الأهواء الدّاخليّة. إذًا من واجبي كمسيحيٍّ ألّا يكون في مظهري ما يثير التّجربة، وبذلك أساعد النّاس على الانصراف إلى محاربة الشّهوات الّتي تأتيهم من النّفس، أي أساعد في تحقيق ملكوت الله.

يجب أن نسعى إلى جمال الفضيلة، الّذي هو الجمال الحقيقيّ الآتي من داخل الإنسان، والمنعكس على وجهه. الإنسان الّذي يقتني روح الرّبّ يستنير وجهه، ويصير كلّه بهيّ الطّلعة.

الأبُوَّة الرُّوحيّة

للقدّيس صفروني (ساخاروف)

كان قلبي، وأنا أصلّي، يشعر برأفةٍ خاصّة أمام أوضاع المرضى النّفسانيّين الَّذين كانوا يتألّمون من صعاب الحياة المعاصرة الحادّة. كلّ ذلك كان يصوّر أمام وجهي المسيح مصلوبًا. هذه الصَّلاة كانت تُبرز أمامي السُّؤال: لماذا أتى؟ وكيف ظهر على الأرض وفي العالم ليخلّصَ جنس البشر؟ هكذا كان حبّه العظيم.

صلاة الأب الرُّوحيّ تتمّ بألم ووجع. الأب المُعَرِّف confesseur هو عاملٌ مع الله (1كور 3: 9). هو مَدعوّ إلى الخلق الأسمى، خلق آلهة للأزليّة pour l’éternité. عند القدّيس يوحنّا السُّلَّميّ: "الأب المُعَرّف هو من اقتنى، بنعمة الله وبجهاده الشَّخصيّ، قوّة روحيّة ينقذ بها السَّفينة ليس فقط من هياج الأمواج بل من عمق اللّجّة".

المُعلّم الحقيقيّ هو من يحمل في ذاته كتابَ المعرفة الرُّوحيّ المكتوب بإصبع الله أي بالاِستنارة الآتية منه تعالى، ولا يعود يحتاج إلى كتاب آخر. إنّه عار على المعلّمين أن ينسخوا عن الآخرين. عندما أكون مع مَرْضَى أنتبه أوّلًا إلى حالتهم الرُّوحيّة: هل يعرفون الله؟ هل عندهم رجاء به؟ ترى ما سببُ وجعهم؟ إلى هناك تتّجه صلاة الأب المُعَرِّف، وصلاته تحصل مَصحوبة بدموع حارّة مريرة. عندما يستمع المعرّف إلى أناس يطرحون أمامه رؤياهم visions يحاول أن يميّز مصدرَ هذه الرُّؤى. هل هي من الله؟ أم هي نتيجة تخيّل أو أرواح شرّيرة؟!

كلّ راع Pasteur عليه، في كلّ وقت، أن يبكي مع الباكين وأن يفرح مع الفرحين: يعيش، في الوقت نفسه، الألم والغلبة معًا، الألم والفرح معًا. عليه أن يُتألّم souffrir مع الَّذين حُرموا من المجد الإلهيّ تعبيراً عن حبّنا الجامع L’amour universel؛ لن يقضي الموتُ على المخلّصين في المسيح. الحبّ يغلب الألم L’amour triomphe de la douleur.

العلم يتدخّل من دون النِّعمَة، عندها لن نصل إلى المعرفة الرُّوحيّة الَّتي تخلّص. المحبّة وحدها تشفي، "الله محبّة". في شعلة هذه المحبّة يحضن فكرنا الخليقة كلّها والشُّعور بالسَّيْر في الأبديّة يكتنفنا، في الأبديّة، حياة فائضة (يوحنّا 10: 10). المحبّة تشفي ألمنا، "بجراحه شُفينا". "من يضعف وأنا لا أضعف؟ من يعثر وأنا لا ألتهب...؟"(2 كور 11: 29). لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح.... ولكن أن أبقى في الجسد أَشدُّ لزومًا من أجلكم" (فيلبّي 1: 23-24).

هناك تنازع déchirement بين الله وخدمة الآخَرين (القدّيس إسحق 23 ص 154). "ها إنّها ستأتي أيّام يقول السَّيّد الرّبّ أُرسل فيها الجوعَ على الأرض، لا الجوع إلى الخبز ولا العطش إلى الماء بل إلى استماع كلمة الربّ" (عاموس 8: 11)؛ الحياة الأبديّة كانت تجذبني. الأب الرُّوحيّ لا يرفض أولئك الَّذين يأتون إليه، وعمل المعرّف هو الاِهتمام بكلَّ واحد ليساعده ليدخل إلى مناخ سلام المسيح ليستعيد صورة المسيح: هو يصلّي للقلقين، للمرضى المشرفين على الموت، للّذين في جحيم الشّهوات، يحمل أوجاعهم. يصلّي للآخرين وله شخصيّاً في آنٍ واحد.

هي صلاة التَّوبة: "حينئذٍ فتح أذهانهم ليفهموا الكتب" (لوقا 24: 45). اليوم عمل الأب الرُّوحيّ صعبٌ، "هذه ساعتكم وسلطان الظّلمة" (لوقا 22: 53). عندما يتطلّع الكاهن إلى المائتين يدخل إلى ما وراء الحياة: هذا يتطلّب نسكًا وتجرُّدًا مع توبة عميقة، يتطلّب أن يخرج الإنسان من سجن الأنانيّة.

أنقر هنا لتحميل الملفّ