نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي
كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.
الأحد 10 آذار 2024
العدد 10
أحد مرفع اللَّحم (الدَّينونة)
اللّحن 7- الإيوثينا 7
أعياد الأسبوع: *10: أحد الدّينونة، الشَّهيد كدراتُس ورفقته *11: القدّيس صفرونيوس بطريرك أورشليم *12: القدّيس ثيوفانس المعترف، القدّيس غريغوريوس الذّيالوغوس بابا رومية، القدّيس سمعان اللّاهوتيّ الحديث *13: نقل عظام القدّيس نيكيفورس بطريرك القسطنطينيّة *14: البارّ بنادكتس، البارّ ألكسندروس *15: الشُّهداء أغابيوس والسَّبعة الَّذين معه *16: تذكار جامع للآباء الأبرار، الشّهيد سابينوس المصريّ، البارّ خريستوذولس.
كلمة الرّاعي
تحدّيات العائلة المسيحيَّة (5) – الصَّوم والتَّربية على الاهتمام والخدمة
"مُهْتَمِّينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ اهْتِمَامًا وَاحِدًا" (رو 12: 16)
في مسيرة التَّحضير لدخول الصَّوْم الكبير المقدَّس تضعنا الكنيسة المقدّسة في هذا الأحد أمام منبر الرّبّ الرّهيب في يوم الدّينونة العامّة حيث "يَـجْلِسُ (الرّبّ) عَلَى عَرْشِ مَـجْدِهِ وَتـُجْمَعُ إِلَيْهِ كُلُّ الأُمَمِ فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُـمَيِّزُ الرَّاعِي الـخِرَافَ مِنَ الجِدَاءِ" (مت 25: 31 – 32). حُكْمُ الرّبّ في هذا المثل يأتي بناء على أعمال الخدمة والرَّحمة الّتي قام بها النَّاس. من صنع رحمة وخدم محتاجًا يخلص، ومن لم يخدم ويرحم يُدان. النّاس من الفئتين لا يعرفون الرّبّ، أي هم ليسوا من المؤمنين الَّذين عرفوا المسيح كربّ وسيّد وختن للنّفوس، إذ يشير إليهم النصّ بـ"الأمم" أي الوثنيّين (τὰ ἔθνη)، ومع ذلك عاشوا وصيّة المحبّة والرَّحمة عبر الخدمة للمحتاج، لإخوة يسوع "الصّغار"، دون أن يعلموا أنّهم بهذا يخدمون الرّبّ يسوع المسيح نفسه.
في الكنيسة يمنحنا الله مواهب ويحمّلنا مسؤوليّات بوصيّة محبّته "لأَجْلِ تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ لِعَمَلِ الْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ الْمَسِيحِ" (أف 4: 12). هذه المواهب والمسؤوليَّات نبدأ عيشها في العائلة، ونختبرها هناك أوَّلًا، لأنّ المحبَّة قائمة بين أعضائها، رغم ضعفات الإنسان ووجود الغيرة والحسد أحيانًا. إذًا، الإطار الأوّل لتعلّم روح الخدمة هو عبر الاهتمام بالأخ والأخت والوالدين والأقارب والجيران والرِّفقة... تتوسّع الدَّائرة مع نموّ العلاقات والنّضوج... لذلك، يقول الرّسول بولس: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْتَنِي بِخَاصَّتِهِ، وَلاَ سِيَّمَا أَهْلُ بَيْتِهِ، فَقَدْ أَنْكَرَ الإِيمَانَ، وَهُوَ شَرٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ" (1 تي 5: 8). المحبّة والاهتمام والرَّحمة والخدمة لا بدّ أن تتجلَّى أوَّلًا في العائلة الصّغيرة مع أهل البيت والخاصّة، فمن لا يخدم خاصّته وأهله تكون كلّ خدمة أخرى يقوم بها باطلة، لأنّ من لا يحبّ القريب كيف له أن يحبّ الغريب؟!... و "مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟" (1 يو 4: 20).
* * *
روح الخدمة والاهتمام بحاجات الآخَر يتعلّمها الإنسان في البيت أوَّلًا، في عائلته. المحبَّة هي اهتمام وانتباه للآخَر، لأنّ الوصيّة الإلهيَّة غايتها ترجمة محبّة الله عبر محبَّة الآخَر، القريب والغريب، لأنَّ "أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى. وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ" (مر 12: 29 – 31). والقريب، كما هو واضح من الإنجيل، ليس هو الَّذي من لحمي ودمي فقط بل هو كلّ إنسان يضعه الله في دربي لأخدمه (راجع لو 10: 25 – 37).
التَّربية المسيحيَّة، عمليًّا، هي عكس التّربية الدّهريَّة (secular). الأولى تُنَشِّئُ الإنسان على الاعتراف بالآخَر المختلف على أنّه موضوع حبٍّ وخدمة وعطاء، بينما الثّانية تربّيه على أساس أنّ الآخَر هو للاستهلاك، هذا من جهة. من جهة أخرى، المسيحيَّة تعمل على تربية الإنسان شخصًا أي فردًا في تواصل، ممّا يعني أنّ تحقيق إنسانيّته مربوط عضويًّا ببنيان علاقة صحّيَّة مع الآخَر مؤسَّسَة على معرفته وبالتّالي التّكامل معه، بينما الدّهرية تبنيه على أساس أنّه فرد قائم في ذاته أي أنّه يحقِّق نفسه بقدر ما يعمل على إشباع مشيئته الخاصَّة بغضّ النّظر عن وجود الآخَر أو حتّى على حساب هذا الأخير...
النَّموذج الأساسيّ الَّذي تُبنى شخصيّة الإنسان، منذ الطّفوليَّة، بناءً عليه هما الوالِدَان. هذان، إذا كانا مؤمنين ويعيشان بحسب الوصيّة الإلهيَّة ينقلان لأولادهما هذه الرُّوح وهذا النّموذج، وإذا كانا دهريَّين ينتج عن تربيتهما أولاد دهريّون.
* * *
أيُّها الأحبَّاء، في تحضيرنا للصَّوم الكبير المقدَّس تُذَكِّرنا الكنيسة بأهميّة الآخَر لخلاصنا وفي حياتنا. لا يمكن أن نخلص إن لم نهتمّ ببعضنا البعض ونخدم ونرحم واحدنا الآخَر. هذا أمر يجب علينا أن نزرعه في أولادنا، أن يكون في صلب تربيتنا لهم، أن نعيشه في عائلاتنا، أن يجسِّده الأهل أمام أبنائهم وأن يكونوا لهم قدوة في هذا الشّأن. إِنْ تَأَفَّفَ الأبُ أو الأمّ من خدمة العائلة فأيّ نموذج يقدّمان لأولادهما، إن لم يستطيعا أن يخدما بفرح من هم من لحمهما ودمهما فكيف لهما أن يعلّموهم أن يفرحوا بخدمة الَّذي هو خارج هذه الدّائرة من الخاصَّة؟!...
الصَّوم هو أساس في التّربية وفي عيش الإيمان، والصَّوم لا يستقيم دون الاهتمام بالآخَر الَّذي يحتاجني، دون أن أُفكِّر بغيري وبمن هو أضعف منّي روحيًّا أو مادِّيًّا. صَوْمي وصلاتي غايتهما أن أصير حرًّا من الأنانيَّة أي أن أقترب من الآخَر ومن حاجاته، وأن أعرف أنّني أحتاج الآخَر أيضًا وأنني لا أستطيع أن أكون مكتفيًا بنفسي. روح الصَّلاة والصّوم تدفعني إلى البحث عن يسوع في داخلي حتّى أعرفه في كلّ إنسان وحَّد هو نفسه فيه أي في إخوته "الصِّغار"...
التَّربية على الصَّوم تربية على عيش المحبَّة عبر الاهتمام بالآخَر أي مشاركته ما وَهبني إيّاه الله من خيرات ونِعَمٍ ومواهب، كما يقول المثل الانكليزي "sharing is caring"، والأهمّ أنّ الوصيّة الإلهيَّة تعلّمنا أنّنا لا نستطيع أن نعيش شريعة المحبَة الإلهيَّة كما أوصانا الرَّبّ يسوع إن لم نحمل أثقال بعضنا البعض، كما يقول الرَّسول بولس: "اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ، وَهكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ الْمَسِيحِ" (غل 6: 2)...
ومن له أذنان للسّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما
طروباريّة القيامة (باللَّحن السّابع)
حطمتَ بِصَليبِكَ المَوت. وفتحتَ للِّصِّ الفِرْدَوس. وحوَّلتَ نَوْحَ حامِلاتِ الطّيب. وأمَرْتَ رُسلَكَ أن يَكرزِوا. بأنَّكَ قد قُمتَ أَيُّها المسيحُ الإله. مانِحًا العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.
قنداق التريودي (باللّحن الأوّل)
إِذَا أَتَيْتَ يَا اللهُ عَلَى الأَرْضِ بِمَجْدٍ، فَتَرْتَعِدُ مِنْكَ البَرَايَا بِأَسْرِهَا. وَنَهْرُ النَّارِ يَجْرِي أَمَامِ الـمِنْبَرِ، وَالـمَصَاحِفُ تُفْتَحُ، وَالخَفَايَا تُشْهَرُ، فَنَجِّنِي حِينَئِذٍ مِنَ النَّارِ الَّتِي لا تُطْفَأُ، وَأَهِّلْنِي لِلْوُقُوفِ عَنْ يَمِينِكَ أَيُّهَا الدَّيَّانُ العَادِلُ.
الرّسالة (1 كو 8: 8- 13، 9: 1-2 )
يَا إِخْوَةُ، إِنَّ الطَّعَامَ لا يُقَرِّبُنَا إِلَى اللهِ لِأَنَّا، إِنْ أَكَلْنَا لا نَزِيدُ، وَإِنْ لَـمْ نَأْكُلْ لا نَنْقُصُ. وَلَكِنِ انْظُرُوا أَنْ لا يَكُونَ سُلْطَانُكُمْ هَذَا مَعْثَرَةً لِلضُّعَفَاءِ. لِأَنَّهُ إِنْ رَآكَ أَحَدٌ، يَا مَنْ لَهُ العِلْمُ، مُتَّكِئًا فِي بَيْتِ الأَوْثَانِ، أَفَلا يَتَقَّوَى ضَمِيرُهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَلَى أَكْلِ ذَبَائِحِ الأَوْثَانِ؟ فَيَهْلِكَ بِسَبِبِ عِلْمِكَ الأَخُ الضَّعِيفُ الَّذِي مَاتَ الـمَسِيحُ لِأَجْلِهِ. وهَكَذَا، إِذْ تُخْطِئُونَ إِلَى الإِخْوَةِ، قَدْ تُجَرِّحُونَ ضَمَائِرَهُمْ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ، إِنَّـمَا تُخْطِئُونَ إِلَى الـمَسِيحِ. فَلِذَلِكَ، إِنْ كَانَ الطَّعَامُ يُشَكِّكُ أَخِي، فَلا آكُلُ لَحْمًا إِلَى الأَبَدِ لِئَلَّأ أُشَكِّكَ أَخِي. أَلَسْتُ أَنَا رَسُولًا؟ أَلَسْتُ أَنَا حُرًّا؟ أَمَا رَأَيْتُ يَسُوعَ الـمَسِيحَ رَبَّنَا؟ أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ عَمَلِي فِي الرَّبِّ؟ وَإِنْ لَـمْ أَكُنْ رَسُولًا إِلَى آخَرِينَ، فَإِنِّي رَسُولٌ إِلَيْكُمْ لِأَنَّ خَاتَمَ رِسَالَتِي هُوَ أَنْتُمْ فِي الرَّبِّ.
الإنجيل (متّى 25: 31- 46)
قَالَ الرَّبُّ: مَتَى جَاءَ ابْنُ البَشَر فِي مَـجْدِهِ، وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَـجْلِسُ عَلَى عَرْشِ مَـجْدِهِ وَتـُجْمَعُ إِلَيْهِ كُلُّ الأُمَمِ فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُـمَيِّزُ الرَّاعِي الـخِرَافَ مِنَ الجِدَاءِ، وَيُقِيمُ الخِرَافَ عَنْ يَـمِينِهِ وَالجِدَاءَ عَنِ يَسارِهِ. حِينَئِذٍ يَقُولُ الـمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَـمِينِهِ تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي رِثُوا الْمُلْكَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ إِنشاءِ الْعَالَمِ، لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي، وَعَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي، وَكُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي، وَعُرْيَانًا فَكَسَوْتُـمُونِي، وَمَرِيضًا فَعُدْتُـمونِي، وَمَـحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. حِينَئِذٍ يُـجِيبُهُ الصِّدِّيقُونَ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ، وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ، وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَـحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقوُل لَـهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ بـِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُم ذَلِكَ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ فَبِي فَعَلْتُمْوهُ. حِينَئِذٍ يَقُولُ أَيْضًا لِلَّذِينَ عَنِ يَسارِهِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ لأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي، وَعَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي، وَكُنْتُ غَرِيبًا فَلَمْ تُؤوُونِي، وَعُرْيَانًا فَلَمْ تَكْسُونِي، وَمَرِيضًا وَمَـحْبُوسًا فَلَمْ تَزُورُونِي. حِينَئِذٍ يُـجِيبُونَهُ هُمْ أَيْضًا قَائِلِينَ: يَا رَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا أَوْ عَطْشَانًا أَوْ غَرِيبًا أَوْ عُرْيَانًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ مَـحْبُوسًا وَلَـمْ نَخْدِمْكَ؟ حِينَئِذٍ يُـجِيبُهُمْ قِائِلاً: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ بِـمَا أَنَّكُمْ لَـمْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ بِأَحَدِ هَؤُلاَءِ الصِّغارِ فَبِي لَـمْ تَفْعَلُوهُ. فَيَذْهَبُ هَؤُلاَءِ إِلَى العَذَابِ الأَبَدِيِّ وَالصِّدِّيقُونَ إِلَى الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ.
حول الإنجيل
بعد أنْ تَحدَّث الرَّبُّ يسوع المسيح في بداية الإصحاح 25 من إنجيل متّى، عن انتظار العذارى لعريسهنَّ وترقُّب العاقلات الحكيمات لمجيء سَيِّدهُنَّ ليدخل بهنَّ إلى الفرح السّماويّ، اللَّواتي حافظن ليس فقط على بتوليَّتهنَّ بل أيضًا على محبَّتهنَّ، بعكس الجاهلات اللَّواتي نسِيْنَ كلّيًّا فضيلة "المحبَّة". يكشف لنا الرَّبّ في إنجيل متّى (31:25-46) عمّا سيحدث في يوم الدَّينونة الأخير وكيف سيجلس هو على العرش "ويجمع إليه كلّ الأمم فيميّز بعضهم عن بعض كما يميّز الرّاعي الخراف من الجداء" (متّى 32:25).
إذا أردنا أن نتعمَّق بهذا الإنجيل نجد أنَّ هناك ثلاثة حقائق أساسِيَّة تستحقُّ التَّأمُّل بها:
يوم الدَّينونة هو يومٌ واقعيّ وحقيقيّ وجزء من إيماننا. لأنَّ الابن المتجسّد وليس الآب سَيَدين العالم والأمم ويبسط ملكوت الله. "أعطاه (الآب) سلطانًا أن يَدين أيضًا لأنّه ابن الإنسان" (يوحنّا 27:5). يُهيّئنا العهد الجديد إلى مجيء الرَّبّ الثّاني المُحتّم بغتةً، ويَحثُّنا على الانتظار بلهفة ويقظة، والسّهر والصَّلاة الحارَّة لاستقبال ذلك اليوم الرَّهيب بالتَّوبة الحقيقيَّة. الدَّينونة في مفهوم الكنيسة المُقَدَّسة ليست عقابًا يُنزله الله بمَن أساءوا إليه، بل إنّها اللَّحظة العادلة الَّتي يكشف الله فيها أعمالنا الحقيقيّة الَّتي تَديننا.
الدَّينونة هي شاملة ومسكونيّة، أي كلّ النّاس أجمعين، سيقفون أمام عرش الله باختلاف ألوانهم وأعراقهم وحضاراتهم وأديانهم. وبما أنَّ الله هو عادلٌ ولا يظلم أحدًا، فالمعيارُ المشتركُ الوحيدُ في حياة البشر هو إنسانيّتُهم أي محبّتُهم وعملُ الخير.
عندما تكون المحبّة هي معيار الدّينونة، هذا يعني أنَّ الرَّبّ وحّد ذاته بذوي الحاجات الضَّعيفة "فكلّ ما فعلتموهُ بأحد إخوتي هؤلاء الصِّغار فبي فعلتم" (متّى 40:25). يريد السّيّد أن يوضح تمامًا ما ردّده الرَّسول يوحنّا الحبيب: "مَن لا يُحبّ أخاه الَّذي أبصرهُ كيف يقدرُ أن يحبّ الله الَّذي لم يُبصرهُ" (1 يوحنّا 4:20). المؤمنُ التّقيّ تَثبتُ محبّتَهُ بالله حين يهتمّ بالقريب، ويحدّد دينونته حين يُكثر من العبادة الشّكليّة من دون خدمة الإنسان. لذلك جوهر الإيمان هو شركوّي. المحبَّة العمليَّة مع الآخر هي الَّتي تبني المحبَّة مع الله. هذه هي الوصيَّة الجديدة الَّتي شدَّد عليها الرَّبّ يسوع وأوصانا بتطبيقها اليوم وخاصّةً أنّنا نتحضّر للصَّوم المبارك.
الفتور والدّينونة
الفتور هو آفَّة روحيَّة تُصيب الكثيرين مِنَ البشر حتّى المؤمنين منهم. وهو نوع من التَّجارب الشَّيطانيَّة الَّتي تهاجم من يحاولون التَّقدُّم بجديَّة في الحياة الرُّوحيَّة، ففي منتصف الطَّريق نجد عدُوَّ الخير يجنّد كلّ قواه لكي يبعدهم عن طريق الله ويبرّد همَّتهم. الفتور هو التّراخي والكسل بعد فترة جهاد مقبول وهو تراجع ملحوظ في جهاد المؤمن لكي يثنيه عن السَّير في طريق القداسة. هذا الفتور حذّر منه إيليّا النّبيّ الشَّعب إذ قال لهم: "حَتَّى مَتَى تَعْرُجُونَ بَيْنَ الْفِرْقَتَيْنِ؟ إِنْ كَانَ الرَّبُّ هُوَ اللهَ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَعْلُ فَاتَّبِعُوهُ" (١ مل ٢١:١٨). هذا المعراج والتردُّد بين الفرقتين يدلّ على أن القلب غير ثابت في محبَّة الله، وعلى أنّ التّوبة غير صادقة أو غير كاملة.
الدَّينونة حقّ خاص من حقوق الله وحده دون غيره يكافئ من خلاله من أحبَّه مِنَ البشر وسلك بحسب وصاياه وتاجر بالوزنات المُعطاة له منه خير متاجرة حتّى ولو كان قد سقط أحيانًا في الخطيئة، لأنَّه ما من إنسان يحيا على هذه الأرض إلّا ويخطئ، ولكن إذا رجع هذا الإنسان وتاب وأصلح سيرته، يمحو الله خطاياه ولا يعود يذكرها (إشعيا ٢٥:٤٣) ، وفي يوم الحساب يكافئه بالدُّخول إلى ملكوت السّماوات ويُسمعه تلك الرَّنّة العذبة: "أدخل إلى فرح ربّك"(متى ٢٣:٢٥). أمّا المُتهاونون من البشر والمُتكاسلون في حياتهم الرُّوحيَّة، الَّذين طمروا الوزنة المُعْطاة لهم من الله وأسلموا ذواتهم لخديعة الشَّيطان وتمرّغوا في الخطايا وأنهوا حياتهم على هذه الحال، هؤلاء سيسقطون ويكون سقوطهم عظيمًا وتنطبق عليهم آية الكتاب المُقدَّس: "مخوف هو الوقوع في يديّ الله الحيّ" (عبرانّيين ٣١:١٠). هؤلاء سيسمعون في يوم الدَّينونة (الحساب) قول الله الخطير: "إذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النّار الأبديَّة" (متّى ٤١:٢٥).
من أقوال القدّيس مكاريوس الكبير
+ الويل للجسد إذا اكتفى بطبيعته فحسب، فهو سينحلّ ويموت والويل للنّفس إذا اكتفت من طبيعتها فحسب ولم تحظى بمشاركة في الرّوح القدس، فهي تموت ولا تستحقّ الاشتراك بالحياة الإلهيّة الأبديّة.
+ على الّذين يسمعون الكلمة أن يشهدوا لعملها في نفوسهم لأنّ كلمة الله ليست جامدة بل لها عملها الخاصّ في النّفس، لهذا السّبب يقال إنّها "عمل".