Menu Close
kanisati081224

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي

كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.

الأحد (24) بعد العنصرة

العدد 49

الأحد 8 كانون الأوّل 2024

اللّحن 7- الإيوثينا 2

أعياد الأسبوع: *8: تذكار البارّ بَتابيوس المصريّ *9: حبل القدِّيسة حنَّة جدَّة الإله، تذكار التَّجديدات، القدِّيسة حنّة أمّ صموئيل النَّبيّ *10: القدِّيسين الشُّهداء مينا الرَّخيم الصَّوت، أرموجانُس وأفغرافُس *11: البارّ دانيال العموديّ، ولوقا العموديّ، الشَّهيد برسابا *12: القدِّيس اسبيريدونُس العجائبيّ أسقف تريميثوس *13: الشُّهداء الخمسة إفستراتيوس ورفقته، الشَّهيدة لوكيَّا (لوسيّا) البتول *14: الشُّهداء ثيرسس ورفقته.

كلمة الرّاعي 

عمل الله في الكتاب المقدَّس: من العهد القديم إلى العهد الجديد

"وَفَرَغَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ عَمَلِهِ الَّذي عَمِلَ. فَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذي عَمِلَ" (تك 2: 2)

ما هو عمل الله؟ يقول الرَّبُّ يسوع المسيح: "أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ" (يو 5: 17). هل يتوقّف الله عن العمل؟ وماذا يحدث إذا لم يعمل الله؟ وما غاية عمل الله؟ أسئلة نطرحها على أنفسنا لكي نعرف الله ونُدرك من نحن ولماذا خُلقنا وما هدف حياتنا.

يُعتَبَر الكتاب المقدَّس بنصوصه المتعدِّدَة والمتنوِّعَة سِجِلًّا موثّقًا لعمل الله منذ خلق العالم وحتّى الأيَّام الأخيرة. يشمل الكتاب المقدَّس بعهْدَيه القديم والجديد سَرْدًا تفصيليًّا للأحداث والوَقائع الَّتي تُظهر تدَخُّل الله في حياة البشر وقيادته للعالم. فالله ليس خارجَ الزَّمان والمكان مع أنّه مُنَزَّهٌ عنهما، لكنّه اختار حين قرَّر خلق الوُجود أنْ يدْخُل في حدوده مع أنّه غير مَحدودًا وأن يعمل فيه باستمرارٍ أي أنْ يخلُق دومًا حياةً جديدة لكيما يمدَّ وجودَه السَّرمَدِيّ في رأس خليقته أي الإنسان...

* * *

بداية ظهور عمل الله لنا هي في خلق العالم والإنسان، هذا الإنسان الَّذي خُلِقَ على صورَةِ الله ومِثالِه. كلُّ شيءٍ أوْجَدَه الله لأجل الإنسان الَّذي خان محبّةَ خالِقِهِ، ورغم ذلك لم ينفكّ الإله يعمل ليستعيده وليُعيده إلى دعوته أي أن يكون مثل الله وأنْ يشترك في حياة خالقه...

خطايا الإنسان تتزايد مع تَقادُم الزَّمَن، والله رغم ذلك يتابع الإنسان ويكلّمه ويرسل له أبرارًا وأنبياء ليوقظوه من خَدَرِ الخطيئة والعِصيان. بعد سقطةِ آدم وحوّاء، قايين يقتل هابيل ويزداد زَيَغانُ الإنسان حتّى أنَّ الله يندم أنَّه خلقه (راجع تك 6: 6)، ويُرسل الطّوفان ليجدِّد البشريَّة لئلَّا يفنيها بالكامل. ومِن ثَمّ يَقْطَع الله عهدًا أنّه لن يفني البشريَّة (راجع تك 9: 1 – 17)، وخرجت البشريَّة الجديدة من أبناء نوح الثَّلاثة سام وحام ويافث.

مِنْ نَسْلِ سام أتى إبراهيم، وقصَّة إبراهيم تُعتَبر محوَرِيَّة في العهد القديم، حيث يَعِدُ الله إبراهيم بأنْ يجعله أبًا لأمَّةٍ عظيمةٍ، وهذه الوُعود تتجلَّى في نهاية المطاف بإنشاء شعب إسرائيل. يَظْهَر الله مرَّةً أخرى في تاريخ موسى وخروج بني إسرائيل من مصر، حيث يتدخَّل الله بقُوَّةٍ ليُنقِذَ شعبه ويَقودُهم عبر الصَّحراء إلى أرض الميعاد. وقد تجلَّى الله لموسى في النَّار المتَّقِدَة وأعطاه الوَصايا العشر الَّتي أصبحت أساسًا لشريعة بني إسرائيل.

لكنَّ، إسرائيل لم يَسْلُك بحسب الشَّريعة إلَّا بتقطُّعٍ ولذا كان دور الأنبياء أساسيًّا في عمل الله لكي يردُّوا الشَّعبَ إلى الحقّ ويُنذِروهم بعاقِبَةِ مُخالفتهم لكلمة الله فيَعِظُون الشَّعب ويُرشدوه ويُعيدوه إلى طريق الرَّبّ. هذا كلّه كان تحضيرًا لمجيء المخلِّص "المسّيَّا" الَّذي وَعَدَ به الرَّبُّ حوّاء وإبراهيم وموسى وداود والأنبياء جميعًا.

*        *        *

"لَمَّا حَانَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ" (غل 4: 4 و5). ابتدأ اكتمال عمل الله لخلاص الإنسان من الموت والسُّقوط والخطيئة والشَّرّ بتجسُّد وميلاد ابن الله يسوع المسيح من مريم العذراء. تحقَّقت في يسوع مشيئةُ الله بالكامل، لأنّه أطاعَ الآب طاعَةً مُطْلَقَة (راجع في 2: 5 – 11)، وكَشَفَ يسوع سِرَّ الله المحبَّة وأنّه شركة ثالوثيّة في وحدة جوهريّة وتمايُز أقنوميّ. وبالمسيح غُلب الموت وأُبيد على الصَّليب حيث "حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ" (1 بط 2: 25)، وهكذا منح البشر قوّة ليغلبوا هم أيضًا بعد أن صعد يسوع إلى السَّماء وأرسل الرُّوح القدس على التَّلاميذ وولد الكنيسة...

بيسوع النَّاهِض من بين الأموات تحقَّق مشروع الله وغاية عمله ألا وهو خلود الإنسان في مَعِيَّة الله وبالاتِّحاد فيه ومعه أي الاشتراك في حياته الأبديَّة. هذه الحياة الأبديَّة أُعْطِيَ للإنسان منذ ذلك الحين أن يشترك فيها ويتذوّقها قبل اكتمال الزَّمَن بالمجيء الثَّاني للمَسيح في المجد لِيَدين الأحياء والأموات، هذا التَّذَوُّق يُختَبَر في الكنيسة – جسد المسيح السّرّي بنعمة الرُّوح القدس الَّذي يمدُّ حضور يسوع في العالم بواسطة الكنيسة الَّتي هي حضور ملكوت الله في العالم...

صارت العنصرة هي خبرة تذوُّق ملكوت الله في العالم، وبالتَّالي هي تحقيق للقيامة في حياة المؤمنين بيسوع. لاقتناء هذه النِّعْمَة الإلهيَّة العَنصريَّة على المؤن أنْ يَحيا في التَّوبة أي الموت عن إنسانه القديم المستعبَد للخطيئة والأهْوَاء لِيَقُوم إلى حياةٍ جديدةٍ بالنِّعْمَة مِنْ خِلال تغيير الذِّهن وتقديم الحياة "ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ" من خلال طاعة الكلمة الإلهيَّة ووَصِيَّة المسيح أي المحبَّة الَّتي "تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ، وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ السُّوءَ، وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ، وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا" (1 كو 13: 4 – 8). محبَّةُ الله هذه ومحبَّة القريب هي طريق التَّوْبَة وتحقيقها والغَلَبَة على الشِّرّير والمـَوْت وقُوَّة القيامة وخبرة النَّعْمَة وتذوُّق ملكوت الدَّهر الآتي... إنّها عمل الله المستَمِرّ فينا بخَلْقِنا جُدُدًا على الدَّوَام بنعمته الإلهيَّة...

ومَنْ يُحبّ الله يعمل عمل الله...

+ أنطونيوس

متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

طروباريّة القيامة (باللَّحن السّابع)

حطمتَ بِصَليبِكَ المـَوْت. وفَتَحْتَ للِّصِّ الفِرْدَوس. وحَوَّلْتَ نَوْحَ حامِلاتِ الطّيب. وأمَرْتَ رُسلَكَ أن يَكرزِوا. بأنَّكَ قد قُمتَ أَيُّها المسيحُ الإله. مانِحًا العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.

قنداق تقدمة الميلاد (باللّحن الثّالث)

اليومَ العذراءُ تأتي إلى المـَغارة لِتَلِدَ الكلمةَ الَّذي قبل الدُّهور وِلادةً لا تُفسَّر ولا يُنطق بها. فافرحي أيّتها المـَسكونةُ إذا سَمِعْتِ، ومَجِّدي مع الملائكةِ والرُّعاة الَّذي سَيَظْهَرُ بمشيئته طفلًا جديدًا، وهو إلهُنا قبلَ الدُّهور.

الرّسالة (أف 2: 14– 22)

الرَّبُّ يُعطي قوَّةً لشعبه  

قَدِّموا للرَّبِّ يا أبناءَ الله

يا إخوةُ، إنَّ المسيحَ هو سلامُنا، هو جعلَ الإثنينِ واحدًا، ونقَضَ في جَسدِه حائطَ السِّيَاجِ الحاجزَ أَيِ العَداوَة، وأبطلَ ناموسَ الوصايا في فرائضِهِ، ليخلُقَ الإثنَينِ في نفسِهِ إنسانًا واحِدًا جَديدًا بإجرائه السَّلام، ويُصالِحَ كِلَيْهِما في جَسدٍ واحدٍ معَ الله في الصَّليب، بقَتلهِ العَداوةَ في نفسِه. فجاءَ وبشَّركم بالسَّلامِ، البَعيدينَ منكُم والقَرِيبين، لأنَّ بهِ لنا كِلَيْنا التَّوَصُّلَ إلى الآبِ في روحٍ واحد. فَلَسْتُم غرباءَ بعدُ ونُزلاءَ، بل مُواطِنو القدِّيسِينَ وأهلُ بيتِ الله. وقد بُنِيتُم على أساسِ الرُّسُلِ والأنبياءِ، وحجرُ الزّاويةِ هو يسوعُ المسيح نفسُهُ، الَّذي بهِ يُنسِّقُ البُنيانُ كُلُّهُ، فينمو هيكلًا مقدَّسًا في الرَّبّ. وفيهِ أنتم أيضًا تُبنَونَ معًا مَسِكنًا للهِ في الرُّوح.

الإنجيل (لو 13: 10-17) (لوقا 10)

في ذلك الزَّمان، كانَ يسوعُ يُعَلِّمُ في أَحَدِ المجامِعِ يومَ السَّبت؛ وإذا بامرأةٍ بها رُوحُ مَرَضٍ منذ ثمانِي عَشْرَةَ سنةً، وكانَتْ مُنْحَنِيَةً لا تستطيعُ أنْ تنتصبَ البَتَّة. فلمَّا رآها يسوعُ دعاها وقال لها: إنَّكِ مُطْلَقَةٌ من مرضِك. ووضعَ يدَيْهِ عليها، وفي الحالِ استقامَتْ ومجَّدَتِ الله. فأجابَ رئيسُ المجمعِ وهو مُغْتَاظٌ لإِبْراءِ يسوعَ في السَّبتِ وقالَ للجميع: هي سِتَّةُ أيَّامُ ينبغي العملُ فيها، ففيها تأتُونَ وتَسْتَشْفُونَ لا في يوم السَّبتِ. فأجابَ الرَّبُّ وقالَ: يا مُرَائي، أَلَيْسَ كلُّ واحدٍ منكم يَحُلُّ ثورَهُ أو حمارَهُ في السَّبتِ مِنَ المِذْوَدِ وينطلِقُ بهِ فَيَسْقِيه؟، وهذه ابنَةُ إبراهيمَ قد رَبَطَهَا الشَّيْطَانُ منذُ ثمانِي عَشْرَةَ سنةً، أَمَا كانَ ينبغِي أَنْ تُطْلَقَ مِن هذا الرِّباط يومَ السَّبت؟!. ولمّا قالَ هذا خَزِيَ كلُّ مَن كان يُقاوِمُهُ، وفَرِحَ الجَمْعُ بجميعِ الأمورِ المَجِيدَةِ الَّتي كانَتْ تَصْدُرُ مِنْهُ.

حول الرِّسالة

سلام المـَسيح والمـُصالحة مع الله

في عالَمٍ مَليء بالانقسامات والصِّراعات، يظهرُ سلامُ المـَسيح كنعمةٍ تَتجاوز الفهم البشريّ. إنَّه ليس السَّلام المؤقَّت الَّذي نبحث عنه في الظُّروف الخارجيَّة، بل هو سلامٌ دائمٌ يَنبع من المـُصالحة بين الله والبَشَر، ومِنْ ثَمَّ بين البشر بعضهم البعض. في رسالةِ اليوم، نتأمَّل في هذا السَّلام الَّذي أصبح ممكنًا فقط من خلال موت المـَسيح على الصَّليب وقيامته.

يبدأ بولسُ الرَّسُول رسالته بالإعلان أنَّ المـَسيح هو "سلامنا، الَّذي جعل الإثنين واحدًا وهدم حائط العَداوة". هذا الإعلان ليس مُجرَّد وَصْف للمَسيح كرَسُول للسَّلام، بل يؤكِّد أنَّه هو السَّلام ذاته. هو الَّذي يوحّد المتفرِّقين، ويبَلْسِم قلوب المـُتخاصِمين، ويُفَرِّح المحزونين. سلام المـَسيح ليس مُجرَّد تجاوز للعداوة أو تَحييد للصِّراعات، بل هو مُصالَحة كامِلَة بين الله والإنسان وبين الخليقة بأسرها. هذا السَّلام تحقَّق على الصَّليب، حيث أُلْغِيَتْ الشَّريعة الَّتي كانَتْ تَفْصُل بين اليهود والأمم، وأُزيلَتْ الحَواجز الَّتي كانت تفصل بين البشر. فالصَّليب، إذًا، هو الوسيلة الَّتي مِنْ خِلالها تحقَّق الخلاص، ومن خلالها أصبح السَّلام ممكنًا.

لكن هذا السَّلام ليس مجرَّد مَفهوم لاهوتيّ بَعيد. إنَّه حقيقة روحيَّة تُغيِّر حياة المؤمنين. يكتب بولس الرَّسُول أنَّ المـَسيح جاء وبشّر بالسَّلام "لأولئك الَّذين كانوا بعيدين" (أي الأمَم) و"لأولَئك الَّذين كانوا قَريبين" (أي اليهود). ومِنْ خِلالِه، يُمكن للجَميع الاقتراب مِنَ الله، مُتَّحدين في روحٍ واحد، حيث أصبح كلٌّ من بعيد أو قريب شريكًا في هذا السَّلام الَّذي لا يميِّز بين البشر.

هذا السَّلام يتطلَّب منَّا أنْ نسامح بعضنا البعض، وأنْ نَتَجاوَز الحواجز الَّتي قد نضعها بيننا، سواء كانت عُرقيَّة أو اجتماعيَّة أو ثقافيَّة، كما علينا أنْ نَعيشَ في الإيمان ونَتَّحِد في روحٍ واحد. كلُّ مؤمِنٍ، بِغَضِّ النَّظَر عن خلفيَّته، هو جزءٌ مِنْ جَسَدِ المـَسيح، ولذلك يجب أن نسعى لِعَيْشِ هذا السَّلام داخل الكنيسة وفي المجتمع.

لذلك، أيُّها الأحبَّاء، نحن مدعوُّون لأنْ نَعيش هذا السَّلام في حياتنا اليوميَّة. إنَّه السَّلام الَّذي يجب أن يشكِّل علاقاتنا مع الله ومع الآخَرين. يجب أن يكون هذا السَّلام أساسًا للتَّناغُم داخِلَ الكنيسة، وأنْ يَكون شهادةً للعالم حول محبَّةِ الله اللَّامُتناهية. فالمـَسيح يدعونا اليوم أن نكون أدواتٍ لِنَقْلِ هذا السَّلام إلى العالم الَّذي هو في أمَسِّ الحاجة إليه.

قريبي في زمن الميلاد

في مَثَل السَّامريّ الشَّفوق (لوقا 10 : 25¬ 37) نرى يسوع يقود أَحدَ علماء الشَّريعة – وقد سأله مُجرِّبًا: ماذا أَعمل لأَرث الحياة الأبديّة؟ - إلى أن يُقرّ، بنفسه، بأنّ قريب الإنسان- أيِّ إنسان، هو الَّذي "يصنع معه الرَّحمة". مسيحيًّا هذه هي القاعدة، وهذه القاعدة ليست ظَرفِيَّة، ولا تَخْضَع لتقلُّبات الزَّمَن. فقريبي هو قريبي، أمسِ واليومَ وغدًا، وفي كلِّ ظَرْفٍ وحال. مِنْ هُنا أنّ قريبي في زمن الميلاد هو قريبي في كلِّ زَمَن. إِنَّ قُربى الميلاد لَيْسَتْ حَصْريّةً، ولو أنّ لها نكهتَها الخاصّة. فالقُربى الَّتي صاغَها يَسوع بتَجَسُّده رَدَمَتِ الهوّة بين الأزمنة، جمعتها في زمَن واحدٍ وَحِيد، فكأنّنا، منذ الآن، قائمون في أبديَّةٍ راهِنَة - "تأتي ساعةٌ، وقد حَضَرَتِ الآن" (يوحنّا 5: 25)– وعلى إيقاع هذه الأبديَّة يتبادَل أقانيم الثَّالوث (ونحن على مِثالِهِم) الوِصالَ في حَرَكَةِ حُبٍّ ثالوثيّة لا تنقطع. ليسَتْ القُربى في يسوعَ المسيح وَصْفَةً تنتهي صالحِيّتُها في تاريخ محدَّد؛ كما أنّها ليست وَصفةً تَصلُح لهذا من النّاس دون ذاك. إنّها لكلّ النّاس وفي كلّ زمان وظرف. إنّ يسوعَ حاسِمٌ في هذا الأمر: قريبك هو الَّذي صنع معك الرَّحمة.

بشريًّا، قريبي هو الَّذي يربطني به لحمٌ ودم. أمّا يسوع فقد عَمَّد هذه القاعدة بفكره وصَحَّح المعادلات ساميًا بها إلى العُلى، فاتّخذت هذه الأخيرة به معانيَ وأَبْعادًا إلهيّة. بيسوع لم يَعُدْ اللَّحم والدَّم مِعْيارَ القُربى – "إنّ اللَّحمَ والدَّم لا يَرِثان ملكوت الله" (1 كور 15 : 50) – بل فعلُ الرَّحمة. إنّ الَّذي "هو غيرُ مُقترَبٍ إليه" – كما يَقول قنداق عيد الميلاد– قد باتَ، بِتَجَسُّدِه، أَقْرَبَ إلينا من قلوبنا، وقَرَّب معه الَّذين قَسَت عليهم ظروف الحياة وهمّشهم إهمال الكبار المتصلّفين وظلم الظّالمين وعُتُوُّ الطُّغاة. بهؤلاءِ وَحّد يسوع ذاته فصاروا "إخوَته الصِّغَار" (متّى 25: 40)، وهؤلاءِ هُمُ اليوم، في ميلاد 2024، تَسبِحة يسوع وترنيمته، ومن أرحام أَوجاعهم ومراراتهم يُولَد. هؤلاءِ، بالذّات، هم أقرباؤنا، في زمن الميلاد هذا.

أَجل، وبكلام أكثرَ راهنيّةً وأكثر مباشَرَةً، يجب أن نقول إنّ جميع الَّذين يُقتَلون اليومَ ظُلمًا وزُورًا، على أرض لبنان وأرض فلسطين، أو الَّذين يتهدّدهم خطر الموت، ومعهم جميع الَّذين ينزحون قَسَرًا عن أرضهم مُخلّفين وراءَهم البيوت والأرزاق وأركان الدِّفءِ والأمان، هؤلاءِ هم اليوم، في ميلاد 2024، أقرباؤنا، بل وإخوتنا. والأكيد أنّ هذا الكلام ليس كلامًا في السِّياسَة – فللسّياسة مَقامٌ آخر– بل هو، بالحدّ الأدنى، كلامٌ في حقوق الإنسان، وفي العُمْقِ هو كلامٌ في المحبّة الإنجيليّة الَّتي لا تُميِّز بين مَظلومٍ وآخَر. أَجَل، إنّ الَّذين تُرَوّي دِماؤُهم البريئةُ، اليوم، ترابَ لبنان وترابَ فلسطين، هم الَّذين يُسَطِّرون، اليوم، قاموسَ القربى الميلاديَّ، بعد أن أضحى كلّ واحدٍ منهم مغارةَ الطّفلِ– الإلهِ المولود ومِذودَه.